لعل الرثاء من دون فنون الشعر هو الباب الذي تقف أمامه العاطفة الصادقة مترددة حيري . . يستهويها إليه إن الحزن لا تتجلى روعته إلا في ديباجته الجزلة ، ويصدها عنه ان صدق العاطفة قد لا يتسق وتكلف الوزن . وربما لا تستسيغ بعض النفوس الحساسة بكاء لا تذرف فيه الدموع إلا طبقا لأحكام القافية . . ولكن الأستاذ عزيز أباظة ولج هذا الباب بقدم ثابتة ، تحدوه عاطفة لا شك في صدقها ولا ريب في إخلاصها ؛ فقرأنا له " انات حائرة وشاركناه آلامه واحزانه ، ونسينا من أجلها ودون ان نخسر شيئا معايير الشعر وموازينه ، واسترحنا قليلا من بعض شعراء هذه الأيام الذين يباهوننا ببراعتهم وحذقهم . .
ثم رأينا مسرحية " قيس ولبني ولا ندري هل كتبها قبل أنات حائرة " أم بعدها ، وعلي كل فالعنوانان متشابهان أما وقد خرج الأستاذ عزيز بزمن الأعترافات النفسية إلي التحدث عن غيره - أم لعله يتخفي وراء قيس - فلا حرج علينا من أن نعود إلي معايير الشعر وموازينه . . وبالأخص لأنه اختار موضوعا سبقه إليه شوقي ، وهو لا يزال يسمي - بحق أو بغير حق - أمير الشعراء . ولشعر شوقي روعة ورنة وتأنق تأسر - ولو إلي حين - أذن المستمعين . فما دام شوقي قد عالج هذا الموضوع - إذ أن " قيس ولبني " صورة أخري من " مجنون ليلي - فحتم على من يجيء بعده إذا لم يبزه ان يساويه على الأقل . . ولا أظن أن الأستاذ عزيزا قصد أن يعارض شوقي أو يجاريه . أفما كان الأجدر به إذن أن يختار موضوعا جديدا لا يحلق فوقه - رغم أنوفنا - شبح شوقي ، ويفسد علينا انتباهنا إلي جمال الشعر الذي
يلقي علينا ؟ لعل هذا هو السبب في أننا لم نتهز كثيرا لأبيات الأستاذ عزيز ، وإذا استثنينا بعض ابيات قليلة فتحت آذاننا فلا نظلمه إذا قلنا إن مسرحيته أقرب إلي النظم منها إلي الشعر
وكذلك لم تثبت قدمه في فن القصة ثبوت المتمكن الخبير ، فالفصل الأول جميل بجوه الشعري وعواطفه الهائجة ، وأخذنا نهييء أنفسنا فيه للانتقال إلى دنيا العشق بخرافاتها وأوهامها ، فإذا بنا نفاجأ في الفصل الثاني بمأساة منزلية تردنا إلى حياتنا الواقعية ، حياة كل يوم ، وكل دار ، وكل عصر ، مأساة الحماة وكنتها . . فنسينا ربات الشعر وانتبهنا إلى ألسنة ربات الخدور . . ولم يجيء الفصل التالي حتى تراخت قيمته المسرحية إذ جمع فيه المؤلف دون أي داع فني - بين قيس وقيس . . شخصيتان متطابقتان حتى في الاسم - وكدنا نتهم أعيننا بالحول . . وما زال " قبيس الأول " يتساقط ويتهالك من اليمين ، و " قيس الثاني " يترنح ويتنهد عن الشمال ، حتى لو جيء لهم برجال الإسعاف لاحتاروا بأيهما يبدأون . . ولكننا - ولا نرائي - لا ننكر أن بعض مواقف قيس هزت قلوبنا واستطاع الأستاذ عزيز أن يسمرنا في مقاعدنا راضين مطمئنين غير قلقين ، بل سمعنا بعض السيدات يبكين من أنوفهن . ورأنا المناديل في أيدي بعض الرجال . .
أما الأستاذ فتوح نشاطي فقد أخرج المسرحية في يسر وبعد عن التكلف ينسجم وروح شعرها . ولكننا نعيب عليه رضاءه ، عن تنوع الملابس تنوعا زاد على الحد المعقول ، وولوعه باللوحات الحية التي ذكرتنا متاحف الشمع وحفلات الجمعيات الخيرية فكثيرا ما جمد الواقفين على المسرح في أماكنهم كأنهم في سبات المنومين . . ولا نبالغ إذا قلنا إنما رأينا ظهر بعض المثلين أكثر مما رأينا وجوههم . .
أما علام فقد عاد إلي قيس وعاد قيس إليه ، وعدنا نحن إلى رؤيته يتحرق ويتوجع ، ويضرب صدره ويبسط راحتيه ، ويستند على صديق ، ويلوذ برفيق ويتأوه ويبكي حتى لا ندري أجعلنا علام نرثي لقيس أم جعلنا قيس نرثي لعلام . . وكذلك فردوس حسن ، كانت في الفصول الأولى لا بأس بها ثم انطفأت في الفصل الأخير - ولعله من التعب فحبذا لو استيقظت فيه قليلا وخاصة أنها تعود فيه إلى الحبيب .
وبعد - فإننا نرجو أن تكون هذه المسرحية أول
الغيث ، وأن يزدنا الأستاذ عزيز من شعره لنزداد حبا له وتقديرا . ولا جدال في أن المسرحية قد نجحت ، وأن الفرقة القومية تستحق كل تهنئة . ولكننا نربأ بها ان تطمئن لهذا النجاح فهو خداع ، إذ ليس أسهل في مصر من نجاح التأوهات والعبرات ، وليس أسهل على ممثلينا من الحركات المصطنعة والوقفات المتكلفة ، والإلقاء المطنطن بملء الفم وقد يغتفر كل ذلك في مثل هذه المسرحيات الغرامية الشعرية ، ولكنه خطر كل الخطورة في المسرحيات النثرية الفنية
