عثرت فى هذه الأيام على كتاب قيم ألفه أبو بكر بن العربى وهو غير محى الدين بن العربى ، وقد قرأته فأعجبت به واستفدت منه فوائد كثيرة ، وهذا الكتاب اسمه ( العواصم من القواصم ) ، ولعله أخذ هذا الأسم من أبى حيان التوحيدي إذ سمى أحد كتبه ( الهوامل والشوامل ) .
واستدلت من هذا الكتاب على أنه فى النصف الثاني من القرن الخامس كان بعض العلماء الناضجين يحتارون فى أمرهم أين الحق وما منهح الوصول إليه . أهو التصوف أم الفلسفة أم التشيع أم الاعتزال . الخ . ودعاهم إلى ذلك ما كان في عصرهم من كثرة الجدل حول هذه المسائل كلها مما أدى أحيانا إلى القتال ، وقد حار هذه الحيرة في زمنه الغزالى أيضا وابن فورك وغيرهما ، وقد دعته هذه الفكرة إلى أن يرحل من بلده إشبيليه بالأندلس إلى سائر الأقطار
العربية ليلتقى بجهابذة العلماء ويباحثهم ويعرف أين الحق .
وفى أثناء رحلته التقى بالغزالى فى دمشق وكان قد تصوف منذ خمس سنوات ، فسأله وناقشه وسمع عليه بعض كتبه جريا على الطريقة المتبعة فى زمنه .
وكان مما قاله الغزالى فى شرح طريقته أن القلب إذا تطهر من علاقة البدن المحسوس وتجرد العقول انكشفت له الحقائق ؛ وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها ؛ وذلك أن القلب جوهر صقيل مستعد لتجلي المعلومات فيه عند زوال الحجب عنه . كالمرآة تترادى فيها المحسوسات عند زوال الحجب من صدأ وغيره .
وقد كتب له الغزالى هذا تخطه ، ولكن كان ابن العربى مستقل الفكر ، فلم يرضه هذا الكلام من الغزالى ، ورد عليه ردا بديعا بأنه لا يصح قطع العلاقة بين الروح والبدن .
وقد كان النبى ( ص ) والصحابة يباشرون أمور الدنيا كما يباشرون أمور الدين . ولا يقطعون العلاقة بين الروح والبدن .
ومن الفوائد التي استقيتها من هذا الكتاب تاريخ المذاهب المختلفة . ثم نصه على كتاب إخوان الصفا ، وقوله قولا يغاير ما عرفنا من قبل ، فقد كان اعتمادنا فى معرفة مؤلفيها على ماواره أبو حيان التوحيدى فى كتابه الإمناع والمؤانسة وتحديده لأسمائهم . أما ابن العربي فقد قال إن مؤلفيها أربعة من القضاة لقبوا أنفسهم إخوان الصفا وجمعوا خمسين رسالة فى كل علم رسالة ، ومن الأسف أنه لم يسم لنا أسماء هؤلاء القضاة الأربعة ، ولو سماهم لجلى لنا كثيرا من الغوامض .
ومن رأيه أن محاولة الجمع بين الدين والفلسفة - كمافعل إخوان الصفاء فى رسائلهم . وكما فعل ابن رشد وابن سينا فى بيانهم أن الفلسفة لا تنافي الدين - محاولة فاشة ، إذ لكل من الدين والفلسفة مسلك خاص ؛ هذه تعتمد على العقل المحض ، وذاك يعتمد على القلب المحض ، وهذه تعتمد على المنطق والحجج العقلية ، وذاك يعتمد على النظر فى الكون والإصغاء إلى القلب ، فمحاولة الجمع بينهما لا تؤدى إلى نجاح .
ومن ألطف ما فى الكتاب استقلالة فى تفسير بعض الحوادث التاريخية واعتقاده أن المؤرخين يروون بعض الحق ويضيفون إليه كثيرا من الباطل ، لا فرق فى ذلك بين المسعودى وابن قتيبة وغيرهم ؛ فعنده مثلا أن السبب في نكبة البرامكة أن نزعتهم كانت نزعة مجوسية يبثونها بين المسلمين ؛ ومن وسائلهم أنهم كانوا يطلقون البخور الكثير فى المساجد بعد أن كانت تطيب بالخلوق ، قصدا منهم إلى إشعال النار في المباخر تعظيما لها كعادتهم المجوسية ، ومن وسائلهم أيضا عقدهم مجلسا منتظما يحضره من يفتحل علم الكلام من أصحابهم ، وقد اختاروا لهذا المجلس أربعة عشر عضوا ثمانية من المعتزلة كأبي هذيل العلاف والنظام وبشر بن المعتمر وعلى رأسهم الوبذان قاض المجوس ، ويتحادثون فى أشياء
قد لا يكون لها علاقة بالدين كتعريف العشق وأسبابه ، وأشياء فلسفية عويصة كمناقشتهم فى هل الله قادر على ما لو وقع منه كان ظلما ونحو ذلك ، ومن رجالاتهم ابن المقفع ، والجاحظ وابن الراوندي وأمثالهم .
ومن وسائلهم ترجمة الكتب اليونانية الفلسفية ودسهم فيها أشياء لا تتفق والدين . وهذا هو السبب فى أن هارون الرشيد قضى عليهم وقتلهم .
وكرأيه المستقل فى صحة خلافة معاوية بن أبى سفيان وابنه يزيد ؛ وبناء عليه فخروج الحسين ثورة على الدولة الشرعية ليس له حق فيها ، وانه إنما قتل بشرع جده عليه السلام .
وهكذا إلى غيره من الآراء الجريئة المبثوثة فى الكتاب.
ثم بعد هذه الرحلة الكبيرة والاستفادة منها رجع إلي بلاده مطمئا إلى ما اعتقده من الحق وما وصل إليه عن طريق بحثه المستقل .
استقبله أهل بلده استقبالا حسنا وأكرموا عودته وولوه القضاء ، ففعل ما كان ينتظر منه : صرامة في الحق وشدة على الظالين ولو كانوا من الأمراء والأعيان ، وحزم في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
ومن أعماله أن سور اشبيليه احتاج إلي بنيان جهة منه تهدمت ، ولم يكن بالخزينة مال ، ففرض على الناس التبرع بجلود ضحاياهم فى عيد الأضحي وبيعها لبناء السور ، فقدموها كارهين ، ثم ثاروا عليه ونهبوا داره وطلبوا عزله من القضاء . وقد رويت عنه أحكام قضائية تدور كلها حول ذلك ، واضطر أخيرا إلى الخروج من بلده ، فقبض عليه الموحدون في مراكش وحبسوه نحو سنة ، ثم سرحوه فمات بعد قليل سنة ٥٤٣ وحمل ميتا إلي فاس فدفون بها رحمه الله
