الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 214الرجوع إلى "الثقافة"

كتاب، الصديق أبو بكر

Share

وأي مهرب يلتمسه الصدر الضيق خير من مصاحبته الأديب صاحب الفكرة والأسلوب بين دفتي كتاب يبعد به عن صغائر الحياة وأدرانها وضجيجها وهمومها ؟ إن الأديب هو الشيء الذي يستحق الالتفات ويستوجب التقدير من بين كل هذه ) الأشياء ( التي نسميها المجتمع ، وإن تفكير الأديب هو وحده ) القوة ( التي لا يصدر عن الإنسانية دافع غيرها ، يدفعها نحو ذلك الأفق الأعلى الذي  لولاه لما وجدت الأبصار مرمي تطمئن إليه ، ولولاه لساد هذا الوجود ظلام تتخبط فيه عيون البشر وهي عمياء

هذه خواطر امتلأ بها القلب بعد أن فرغت من قراءة كتاب ) الصديق أبو بكر ( تأليف الأستاذ الاديب الدكتور محمد حسين هيكل ، وحسبي له هذا النعت وهذا اللقب المجرد ، فهو عندي خير من كل نعت لحق  به في الحياة ، وهو ، بلا شك  عنده خير من تلك النعوت البراقة العابرة التي تزول ولا تترك من ورائها بطانة ذات رواء .

فإن هيكلا الأديب يأبي أن تثبت عليه صفة أخري تغلب عليه غير صفة الأدب . فهو قد ضرب بسهم في نضال السياسة ، وهو اليوم رئيس حزب سياسي ، وهو قد كان بالأمس وزيرا يلبس  ما يلبس رجال السياسة من تكاليف الحياة الاجتماعية ، ويأخذ مكانه في ميدان المداورة والمناضلة ، ويأخذ نفسه بالمداهنة  حينا وبالصراع حينا ؛ ولكنه مع كل ذلك يأبي إلا أن يبقي هيكلا الأديب ، ويذكر الناس بحقيقته بين حين وحين بتلك المؤلفات الرائعة التي يتحف بها الأدب العربي والتاريخ العربي .

وهل يستطيع إلا الأديب أن يقول ما قاله هيكل في

الفصل الختامي من سيرة الصديق ؟ قال : " ترتفع الصيحة للحرية وللعدل وللاخاء ، فيلقي الناس بكل سمعهم للمنادى بها ، ويبذلون حياتهم فداء لها ، وتدوي الات الدمار لنصرتها ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، توقع الناس ان تظلهم المبادئ التي قاتلوا في سبيلها ، لكن ما تحقق من هذه المبادئ لم يزد يوما على طيف تبدي وراءه حقيقة نحيفة ، هي على نحافتها مبهمة غير واضحة المعالم . وقال في موضع آخر :

" والناس يرون الحق فيبهرهم لآلاؤه ، ويعشون دون استجلائه في جلال كماله ، لأن الضمير الإنساني لا يزال في طفولته ، والنفس الإنسانية لا يزال جوهرها العلوي يختلط بجواهر النقص التي تغشي عليه وتفسد حكمه

وهذه بغير شك أقوال يقولها الأديب ، وهو خال إلي نفسه كاتما ، هو ينفس بها عن قلب اشتد عليه ضغط الحياة القاسية التي اضطر ذلك الأديب إلي خوض غمارها المضطربة

لقد قال أحد الفضلاء في مقال له عن هذا الكتاب " الصديق أبو بكر " : إنه من الخير أن يكتب رجال السياسة في سير التاريخ ، فإنهم اقدر على فهم مواقف الرجال في زعازع الحياة ولكنا نري أن الذي يستطيع فهم تلك المواقف ، إنما هو الأديب الذي بين جنبي رجل السياسة ، وهو في ذلك يناضل نضالا عنيفا مع الغشاوة التي تغشي قلبه الذكي من أثر تلك الحياة السياسية .

ولقد كان أثلج للصدر وامتع للأدب والعلم ، لو كان هيكل أديبا ولم يكن شيئا آخر غير الأدب !

جلا هيكل عصر الصديق ، وصور من حوادثه صورة لا نظن أن أحدا استطاع ان يصور مثلها من قبله ! فهو قد تتبع العصر منذ أوله ، وما زال به حتى اتم له صورة بديعة ذات ألوان باهرة ، وأبرز كل ملامحها ، وألقى

النور علي تفاصيلها ، حتى لم يبق فيها موضع للغموض . فهذه هي أمة العرب في الجاهلية ، وهذه هي في صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهذه هي في يوم وفاة الرسول ، وهذه هي في معمعة النضال فيما بينها وبين نفسها ، ثم هذه هي في نضالها مع دولتي الروم والفرس ، فنحن نتتبع في السيرة صورة كتائبها وقوادها وخطط أمرائها في سيرهم وفي تفكيرهم ؛ ونري كل ذلك في وضوح ودقة لا تدعان النظر يضل عن شئ في لحظة واحدة .

وقد تتبع مؤلف السيرة قبائل العرب في مواطنها . فوصفها وصفا دقيقا يجعل القارئ يستشف ما يعتلج في نفوسها من العواطف ، ويري البواعث من وراء الوقائع ، ويكتنه الأسباب من وراء الحوادث . ثم وصف دولتي الفرس والروم وما كان بينهما وصفا يظهر كيف كان الفتح العربي لبلاد هاتين الدولتين نتيجة محتومة ، وكيف كان ذلك الفتح نهاية لابد للتاريخ أن يفضي إليها ؛ ولا شك أنه قد لقي في تصوير هذه الصور الواضحة عناء شديدا ، وجهدا لا يستطيع الصبر عليه إلا ألو العزم . وحسبنا هنا أن نشير إلي موضع واحد من المواضع الكثيرة ، التي تدل على مقدار ما عاني المؤلف من المشقة حي انتهي إلي إبراز هذه الصور في مثل هذا الوضوح

فقد وصف سير الجيوش الإسلامية إلي بلاد فارس والشام ، واستطاع بالمقارنة والمناقشة أن يرسم خططها ويصف حركاتها وتنقلها في مواطن القتال واحدا بعد اخر ، في وضوح وسهولة لا يمكن أن يدرك منهما القارئ أنه قد عاني شيئا من المشقة في سبيل استجلاء الحقائق وإماطة الغموض والاضطراب عنها

مع أن غزوات العرب في بلاد فارس والشام يحيط بها النموض والاضطراب في كل كتب التاريخ ، سواء منها العربي والأوربي ، إذ اختلفت فيها الروايات اختلافا يجعل

ملتمس الحقيقة من بيانها كالسائر في ظلمة الليل الحالك سواده .

ولا نظن أن كثيرا من قراء هذه السيرة يقفون طويلا عندما يقرأونها ليحمدوا للمؤلف هذا المجهود الصادق في تصويره وإيضاحه ، لان اكبر الظن ان سهولة مأخذ الكتاب ينسيهم ما بذل من عناء في سبيل تحقيق هذه السهولة

هذا مثل واحد من امثلة ما مهد المؤلف من العقبات في سرد سيرة الصديق ابى بكر ، وهو واحد من امثلة عدة لا يتسع المقام لبيان تفصيلها جميعا ، فذلك يحتاج إلي تتبع السيرة في كل موقف من مواقفها ، وكل شخصية من شخصياتها .

وقد أفاض الأديب هيكل من خياله على الأشخاص فأحيا صورهم حياة يكاد القارئ يسمع تردد أنفاسها . فهذا سيدنا خالد بن الوليد يتحرك ويقاتل ويقابل الصديق  والعدو ، ويخطر في عمامته العبقرية ، وقد غرز السهام فيها ونظر شزرا إلي سيدنا عمر بن الخطاب نظرة المنتصر المتحدي .

ثم هذا هو ينقلب من قسوة الحرب إلي وداعة الحياة المنزلية حينا مع عروسه التي اتخذها عقب النصر . وهذه هي أشخاص العصر واحدا بعد واحد تتحرك مليئة بالحياة وقد كشف لنا المؤلف عن نبضات قلوب كل منها ، وعن نجوي عقولها إذا هي تجادلت

فالحق أن سيرة الصديق أبي بكر فتح في كتابة التاريخ الإسلامي ، قد أضاف به المؤلف الجليل ثروة قيمة إلي المكتبة العربية

وبعد ، فإذا كان ولا بد لكل من نظر في كتاب أن يجد عليه شيئا يلاحظه ويود لو كان المؤلف حقق فيه وجهة نظرة ، فإنا كنا نود لو زادنا الكتاب من تصوير شخص البطل المحبوب صاحب السيرة

حقا لقد جلا المؤلف موافقه العظمي ، وبين مواطن

عظمته في تلك المواقف . ولكن الشخص نفسه ، ذلك الرجل ) المعروف الأسيف ( القوي الشكيمة على ضعف جسمه ، لم يكن شخصه موضع حديث طويل كنا نحب أن تتمتع به أكبر متعة وأطولها .

وأمر آخر كنا نود لو أن المؤلف الفاضل حققه في بحثه القيم ، ذلك انه كان أحيانا يورد الروايات المختلفة ثم يترك الأمر بغير أن يقطع فيه برأي ، كأنما أراد ان يلقي عبء ، الحكم علي القارئ وحده . فعل ذلك في بعض المواضع ، ونذكر منها : بيعة على لابي بكر رضي الله عنهما ومناقشة حدوثها والامتناع عنها .

وقد كان أولى به لو ناقش الآراء والروايات واجتهد فيها وادلى برايه قاطعا بما شاء ولا عليه إذا هو خالف آراء غيره من الكتاب أو وافقها ؛ فإن واجب المؤلف أن يطلع على الناس بالرأي الذي أداه إليه اجتهاده ، ولا يبالي كيف يلقي الناس ذلك الرأي ما دام قد خلص إليه عن منطقه وبحثه .

وبعد ، فلسنا نريد أن نقف عند وصف أسلوب الكتاب طويلا ، فهو من السهل الممتنع الذي يجمع بين الوضوح والحلاوة والسلاسة والروعة . ولكنا لا نملك إلا أن نقف لحظات عند بعض عبارات كان المؤلف يكثر من ذكرها مثل ) لا جرم ( وفيها شبهة انه يقصد منها ( لا عجب أو لا غرو ) ، مع أن ذلك حرف يدل على التأكيد والجزم ثم هو يورد بعض ألفاظ بلغت من السهولة مبلغا فيه شئ من الإفراط . ولعل رغبة المؤلف الفاضل في سهولة العبارة قد مالت به أحيانا إلى هذا النحو من القول المبالغ في السهولة ، بإيراد ما اعتاد الناس أن يكتبوه أو يقرأوه .

وأمر آخر ، وهو أن الكتاب في مجموعه يوحي بأن

فيه شيئا من المبالغة في الأسلوب عندما تأخذ الحماسة الدينية مأخذها من المؤلف المؤمن ، فقد تكررت عبارات الحماسة الإسلامية تكرارا يحملنا أحيانا على الا نملك أنفسنا من أن نود لو كانت تلك العبارات أقل حرارة وتكرارا ؛ فإن المؤرخ المؤمن غير مطالب بأن يكون شيئا غير المؤرخ الذي يزن ويقارن ويناقش ويبدي وجه الرأي الذي يهتدي إليه ، والروح وحده بعد ذلك هو الذي يتولي عنه نشر ما يشاء من الدعاية . وقد نوه بعض الأفاضل إلى بعض أخطاء مطبعية ليس على المؤلف فيها بأس ، إلا أن يكون في إيرادها تنبيه له ليتلافاها في الطبعات المقبلة ، فإن الكتاب يكتب لليوم وللغد ، وينبغي أن يكون مصفي من كل ما يؤخذ عليه .

وبعد ، فانا بعد هذا الذي نراه في الكتاب من وجوه النقد ، نري واجبا علينا ان نقول في غير موارية : إن سيرة الصديق قطعة فنية في أدبها ، وإنها مؤلف تاريخي موفق  كل التوفيق ، وإن المؤلف الأديب الكبير قد أهدى بها إلى اللغة العربية تحفة تستحق كل الشكر والإعجاب . ولا شك في أنه قد سهل للقراء ورود منابع صافية كانوا لا يستطيعون ورودها فيما تخلف لهم من كتب التاريخ القديمة ، وتحمل عنهم مشقة عظمى حتى قدمها لهم سائغة طيبة حلوه .

اشترك في نشرتنا البريدية