أهدت إلينا مكتبة " حلبي " بدمنهور كتابا باسم " من تاريخ هرون الرشيد والبرامكة " ، صدره الاستاذ الكبير شاعر القطرين بأبيات رائعة ، جاء في آخرها قوله :
وللآداب أحساب غوال إذا اتصلت بأنساب عريقة
ومؤلفة الكتاب مصرية - لا استطيع ان اقول سيدة او آنسة ، فقد شاءت أن تخفى نفسها ، واستعارت اسما ظريفا ، هو ) بنت بطوطة ( ؛ والكتاب مترجم إلي العربية ، لأن حضرة المؤلفة كتبته بالفرنسية .
هذه كلها حقائق حول الكتاب تحمل الإنسان قسرا على التساؤل : من تكون الكاتبة الفاضلة ؟ وإن كان ذلك فضولا ، فهو على الاقل مغتفر ، لانه طبيعي في مثل هذه الظروف مجتمعة .
ولكنا إن جهلنا حقيقة شخصية المؤلفة الفاضلة ، فإن كتابها يكاد ينم عليها ، بل إنه مع فلتات اخرى هنا وهناك يكاد يشير إليها بالبنان - فخليل مطران شاعر القطرين يقول : إن الأداب قد اجتمعت فيها بالانساب العريقة ؟ وهي في ) البحيرة ( ، وهي جوابة للأقطار وهي ذات دراسة عميقة في الآداب والتاريخ بغير شك ولمن شاء أن يحدس بالظن ، فإن الظن يكاد يكون يقينا .
هذه تقدمة الفضول ؛ وبعد هذا أرجو القارئ الكريم ان يطلع على قطعة من المقدمة ، فهي الآخرى تشير وتتحدث . قالت المؤلفة الفاضلة : " إنه ليعوزني حذق المؤرخين وقوة إقناع الفلاسفة ، وفراسة علماء النفس ، فمعذرة عما أكون وقعت فيه من اخطاء ، ولست إلا راوية متواضعة . . " على أن الكتاب متعة أى متعة لمن قرأ بعد ذلك ،
وإنه لجدير بأن يفخر به الكاتب إذا كان ممن توفر علي البحث وكان من كبار الغلاسفة وعلماء النفس . وإنه لمما نفخر به ، نحن معاشر الرجال من اهل مصر ، ونعجب به ونقدره إذا كنا من رجال العلم او الأدب ، ان نقرأ
لمصرية مثل هذا الكتاب . فهو قصة في تاريخ ، وهو تاريخ في قصة . له من روعة القصص ارتفاع الخيال وتحليقه ونفوذه إلى ما وراء الظاهر ، كأنه يخترق حجب الغيب من وراء القرون ؛ وله من التاريخ صدقه وتجرده من التعصب والتحيز
تحدثت المؤلفة الفاضلة في أول الكتاب عن اسرة بني العباس وكيف وصلوا إلى الحكم ، متعرضة إلى النضال الطويل بين بيتي أمية وهاشم ، وتغلغلت وراء الحوادث الظاهرة إلى الأسباب النفسانية الباطنة ؟ فكانت في عرض الحوادث تعرض فلما ملونا ، لا سجلا مفصلا .
ثم عرجت بعد ذلك على بغداد ، مدينة المنصور ، فصورت منها صورة ، ولكنها لم تكن الصورة التى تراها العين ، بل الصورة التى يراها القلب المثقف الشاعري . ثم تناولت المجتمع العباسى ، ونظرت إليه من خلال منظارها السحري ، فإذا بها تصور خلجات نفسه ، وإذا بها تجمع إليه العالم الغربي الذي يحف به - عالم اوربا في القرون الوسطى ،
فتلقي عليه شعاعة - وهكذا نستمر في استعراضها الرائع الذي يدل على إحاطة شاملة بتاريخ الشرق والغرب معا . فلما انتهت اخيرا إلى هارون الرشيد وعصره ، كانت قد أتمت رسم الستار فيما وراءه ؛ ستار سحري شامل مكون من لمسات فنية بارعة ، إن لم يكن جامعا للحوادث ، فهو جامع لعناصر الروح بغير شك .
وسألت في أول معالجتها لعصر الرشيد : " كيف ينظر الناس إلى هارون " ، وأخذت تورد ما علق في اذهان الناس عن ذلك العاهل الذي " ينظرون إليه من وراء ستار من الترف ضاعت معالمه منذ عهد كسري ، وخلف سمعة من البذخ والتبذير ، والكرم والقسوة ، ومن وراء البخور المتصاعد من قصص الف ليلة وليلة . . "
ثم قالت بعد حين : " والواقع أن هارون لم يبتدع شيئا عجيبا ولا خاصا ، إلا أن الصدفة قد جعلت دولته في فجر مدنية سامية فعضدها . . إن تلك الصدفة جعلته يتمتع
بذلك الشئ العجيب الذي يصب تحديده ، ويتعذر تفسيره ، ويتجاوز كل منطق ، ولكنه مع ذلك بعد كل شئ ، لا شئ أو كل شيء ، أوهما معا . ذلكم هو الحظ " ثم استطردت تدلل على ما تري .
وكان لا بد لها من ان تذكر جعفر بن برمك ، وان تذكر قصة العباسة . وهناك نسمع المرأة تحلل وتصف وتفلسف . هي المرأة تتحدث عن مأساة غامضة كانت بطلتها المرأة ؛ وهناك استطاعت ان تبدع إبداعا لا يباري .
ولو حاولت أن اقتبس من روائع كلماتها لما وقفت دون أن آتي على اغلب الجزء الأوسط من الكتاب ؛ فهناك العباسة وزبيدة ، وهما من خلف الستار تحركان وتدبران ، والمؤلفة النابغة تتدسس إليهما بالطبع السليم والخيال المواتي والغريزة الذكية فتكشف ما لا يستطيع الرجل أن يكشفه
وفي مثل الضوء الخافت الذي ينبعث من الشرق مع الفجر نسمع صوتا في الكتاب يزفو في وسط الحوادث الرهيبة التي تتعلق الانفاس من التأثر عند قراءتها ، ذلك
صوت الكلمات التى صورت بها الكاتبة الفاضلة حزن العباسة لقتل جعفر ؛ قالت : " عند ذلك علت صيحة ، صيحة واحدة ، صيحة انتزعت من احشاء معذبة ، وعلت على جميع الصيحات ؛ تلك الصيحة الوحيدة الفذة التي دوت كأنها صوت الذعر او نداء الحنون ، ومزقت الأذان والقلوب ، وظلت إلي الأبد ماثلة لجميع من سمعوها وفهموها ، تلك هي صيحة المرأة أمام رجلها الذي ضحي به " .
ولم ترض المؤلفة الفاضلة بعد ذلك ان تترك هارون في اخر ايامه بغير صورة خلابة ، فصورت منه الرجل المعذب الذي لم يستطع الملك نفسه ان ينسيه جرائمه ، ولا الترف كله ومتاع الحياة ان يغرق فزعه . حتى التدين واللجوء إلي الله لم يستطع أن يعيد إليه السلام
إنها قطعة من الفن الجدير بكل إعجاب . وإننا لنفخر حقا ان تكون مؤلفة مثل هذه التحفة مصرية فاضلة . إن بلدا فيه مثل هذه الكاتبة لجدير بأن
يطمح إلي أعلى الآفاق .
