هو أحد أسفار التوراة التي تنسب لسليمان بن داود ، كما أنه من هذا النوع من الشعر الذي يطلق عليه شعر الحكمة وآياته تشبه تلك التي نجدها في سفر الأمثال مثلا . فهنا يحدثنا حكيم له كثير من الخبرة والمعرفة وهو وإن كان يبدو متشائما فاقد الأمل من العدالة الاجتماعية حينا إلا أنه كان إيجابيا من الداعين إلي وجوب الأخذ بالحياة وأسبابها أحيانا . ولعل سر هذا التشاؤم الذي يفتتح به المؤلف سفره ويختتمه ويلخصه في قوله ) باطل الأباطيل الكل باطل ( هذه الحالات المختلفة التي يستوي فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون . فموت الحكيم كموت الجاهل ، ولا فضل للإنسان على البهائم لأننا لاندري أتذهب روح الإنسان إلي السماء وتهبط روح البهيمة إلي الأرض ؟ ! وفلسفة التشاؤم هذه التي يجدها ممثلة في هذا السفر أحسن تمثيل فلسفة شرقية قديمة نجدها عند البابليين الأشوريين وقدماء المصريين . كما نجد في فلسفة هذين الشعبين وآدابهم أصول الفكرة القائلة : إن لكل شئ زمنه ، أو تلك التي تحذر من الجري وراء اللذات والملاهي خاصة في ملحمة جلجمن البابلية وقصة عازف القيثارة المصرية . فالسفر في مجموعه يعرض لنا فلسفة شرقية قديمة نري صداها عند فلاسفة اليونان المتقدمين أمثال الرواقيين - لاجديد تحت الشمس - والابيقوريين - لافرق بين الإنسان والحيوان .
لكن هذا التشاؤم في الفلسفة الشرقية لم ينته إلي ما انتهت إليه في الغرب أعني إلى الوقوف من الحياة هذا الموقف السلبي الذي ينتهي إلي الالتجاء إلى الأديرة والرهبنة بل إلى فلسفة اخرى كلها مرح وسرور تدعو إلى وجوب التمتع بكل ما تراه العين وتشتهيه النفس ويصبو إليه الجسد ؛ اذهب كل خبزك بفرح واشرب وتمتع بخمرك فالله راض
منذ القدم عن عملك . ثيابك بيضاء ولا يفارق الطيب . رأسك تمتع حياتك بالمرأة التي احببتها فالحياة فانية . وقد ادت فلسفة هذا السفر التي تحمل بين طياتها كثير من عبارات الكفر والإلحاد إلى قيام عدة مشاكل حول قدسيته ، ولولا نسبته لسليمان ما احتل هذا المكان بين أسفار الكتاب المقدس . ويرجح أنه وضع حوالى اواخر القرن ق. م . وقد حاز إعجاب الكثيرين من شعراء الغرب وفلاسفته أمثال ) شوبنهور ( و ) هيتريش هينه الذي أطلق عليه " نشيد أناشيد المتشككين " وقال فيه ) رنان ( : " هذا ما نحبه لأنه لمس حقيقة آلامنا . " وتفنن الأجانب في ترجمته والتعليق عليه فأحببت أن انقله من العبرية بتصرف لأضع امام القارئ العربي صورة من صور التفكير السامي القديم . وإني أضع بين يدي قراء الثقافة نموذجا من ترجمتي هذه :
كلام الجامعة بن داود ملك أورشليم
باطل الأباطيل قال الجامعة باطل الأباطيل الكل باطل
ما فائدة الإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس ؟
جيل يقبل وآخر يدبر والأرض باقية إلى الأبد .
الشمس تشرق ، والشمس تغرب ، وإلى مكانها تسرع لتشرق ثانية
الريح تهب جنوبا ، وتدور شمالا تدور وتدور ، تهب وتهب ، وإلى مكان هبوبها تعود الريح
جميع الأنهار تتجه نحو البحر والبحر لم يمتلى ، وهناك هناك حيث جرت الأنهار تجري دائما .
كل إنسان يجهد نفسه ويعجز عن الكلام . العين تري ولا تشبع . والأذن تسمع ولا تمتلئ .
الذي كان سيكون وما حدث سيحدث ولا جديد تحت الشمس .
وقد يوجد ما قد يقال عنه إنه جديد لكنه كان من قبل في الازمنة الخالية إلا انه لم يبق له ذكر عند السلف كذلك الذي سيكون عند الخلف .
كل طموح الى المعرفة باطل
أنا الجامعة كنت ملكا علي إسرائيل بأورشليم .
حاولت ان اعرف حكمة ما يصنع تحت السماء وإذ به
باطل وقبض ريح ، فقد أعطي الله العمل للانسان ليشقي به .
العوج لا يقوم والناقص لا يكمل
تأملت في نفسى وإذا بى قد عظمت وفاقت معرفتي حكمة الذين كانوا قبلي بأورشليم ، وحاولت أن أفرق بين الحكمة والجهالة والجنون ، وإذ بالشكل باطل . فكثرة المعرفة كثرة في الهم وزيادة الحكمة زيادة في الغم
المرح ما فائدته
قلت لنفسي هلمى جربي الفرح وتمتعي بما يجلب السرور والحبور وإذ بهذا باطل ايضا الضحك جنون ، والسرور ماذا يفعل
انعشت جسدي بالخمر وعقلي بالحكمة وأخذت بسبل الحماقة لأري خير ما يستطيع الإنسان عمله تحت السماء .
أكثرت من أعمالي ، بنيت بيوتا ، غرست كروما جنات وفراديس بها اشجار تحمل مختلف الثمرات كما اجريت ترك المياه لسقى البساتين وري الغابات .
انتقيت العبيد والجواري كما أكثرت من الوالي وفاقت مقتنياتي من البقر والضأن ما كان لغيري بأورشليم .
جمعت فضة وذهبا وكنوز الملوك وثروات البلاد كما اتخذت لي مغنين ومغنيات وتمتعت بغانية وغانيات وفقت من كانوا قبلي بأورشليم .
متعت عيني بما اشتهت وقلبى بما أراد وتأملت فيما صنعته يدي وفي التعب الذي تعبته وإذ بالكل باطل وقبض ريح وذلك لأن
حظ العالم والجاهل سواء
قد يقال إن الحكمة تمتاز على الجهل امتياز النور على الظلام
وقد يقال إن الحكيم عينه برأسه والجاهل يتخبط في دياجير الظلام . لكن ما يقع للفرد يقع للجميع وما يحدث للجاهل يحدث لي فما فائدة حكمتي ؟ وهذا ايضا باطل .
وكما ينسي الجاهل ينسي الحكيم ، هكذا كان وسيكون وكما يموت الذكي يموت الغبي . لذلك كرهت الحياة ، وكرهت العمل ، وكرهت أن اترك شيئا لمن يأتي بعدي .
فمن يعلم أحكيم هو أم جاهل ؟
إنسان يسخر الحكمة والمعرفة والنشاط في سبيل عمله ويرثه آخر جاهل كسول ! هذا باطل وشر عظيم .
لذلك ليس أفضل للإنسان في هذه الحياة من الأكل والشرب والفرح . لكن أدركت أن هذا ايضا بيد الله فمن يأكل ومن يلتذ بلا إرادته ؟
الله يمنح الحكمة والسرور لمن يرد له الخير ويضع في قلب الخاطئ الرغبة في الجمع والتحصيل ثم يترك ما اقتناه الآخر يرضى الله عنه . وهذا أيضا باطل وقبض ريح .
لكل شئ زمن
ولكل أمر تحت السماء وقت
وقت للولادة ، ووقت للموت . وقت للقتل ، ووقت للشفاء . وقت للهدم ، ووقت للبناء . وقت للبكاء ، ووقت للضحك . وقت للندب ، ووقت للرقص . وقت لرمي الأحجار ، ووقت لجمعها . وقت للعناق ، ووقت للبعد عنه . وقت للطلب ، ووقت للترك . وقت للحفظ ، ووقت للرمي وقت للتمزيق ، ووقت للرفو . وقت للسكوت ووقت للكلام . وقت للحب ، ووقت للكره وقت للقتال ، ووقت للسلام
فما فائدة الانسان من تعبه ؟ لقد ايقنت ان كل ما يصنعه الله خالد لا يزاد عليه ولا ينتقص منه ، وقد صنعه ليخشي
والذي حدث يحدث وسيحدث والذي سيحدث قد حدث والله يدين على مامضي .
الإنسان والحيوان سواء
ورأيت تحت الشمس مقام الخير الشر ، ومقام الصدق الكذب .
ورأيت أن العادل كالظالم يحاكمهما الله ، وذلك لأنه جعل لكل شئ وقته ولكل حدث زمنه وما يحدث الإنسان يحدث للبهيمة فكما يموت ذلك تموت تلك . وللجنسين روح واحدة ، ولا ميزة للإنسان على البهيمة . الكل باطل
الكل ذاهب إلي مكان واحد ، والكل جاء من التراب وإلى التراب يعود .
ومن يعلم أتعلو روح الإنسان إلي السماء وتهبط روح البهيمة إلي الأرض ؟ .
لذلك تمتع أيها الانسان وافرح . فهذه وصيتي وهي خير ما أوصيك به
تعب الانسان هباء
شاهدت كل المظالم الواقعة تحت الشمس ورايت دموع المظلومين ولا معزي ، وقسوة الظالمين ولا راحم
لذلك غبطت الأموات لأنهم أسعد من الأحياء .
واسعد من الاموات ، والأحياء اولئك الذين لم يولدوا لأنهم لم يروا هذا الشقاء الذي يحدث تحت الشمس
وأليس مصدر تعب الفرد واجتهاده حسده للاخرين ؟ وهذا باطل وقبض ريح .
وغبي ذلك الذي يكتف يديه ويفترس نفسه . إذ كف مملوءة راحة خير من حفنتين تعبا وقبض ريح ،
باطلا آخر رايته تحت الشمس . يوجد فرد واحد ولا ثاني له . فلا ابن ولا اخ له ولا نهاية لاجهاد نفسه . عينه لاتشبع غني . فلماذا يتعب نفسه ويحرمها من الطيبات ؟ هذا أمر ردئ
الاثنان خير من الواحد لأن أجر عملهما أحسن ، وإذا سقط أحدهما أقامه الثاني ، وإذا اضطجع كلاهما دفئا والواحد لن يدفأ
إذا هوجم واحد قاوم الاثنان والخيط الثلاثي لا يسهل قطعه
ولد مسكين وحكيم خير من ملك كسلان مسن لم يقبل النصح ولم يثنه التحذير . هذا خرج من السجن إلي الملك ، وولد الطفل فقيرا في مملكته ، ومن ثم رأيت جميع الأحياء يسيرون إلي جانب الطفل الذي حل محل الملك . اما الذين جاءوا بعدهم فلم يحفلوا به ، وهذا أيضا باطل وقبض ريح
تمتع
احترس عندما تتوجه إلي بيت الله . فالطاعة خير من قربان الأغبياء الذين يجهلون أنهم يأتون شرا .
لا تعجل وتفتح فمك أمام الله ولكن كلماتك قليلة لأنه في السماء وأنت في الأرض .
سبب الأحلام كثرة التعب ، وجهالة الجهلاء في كثرة الكلام .
إذا نذرت لله نذرا فلا تتوان عن الوفاء به . خير لك ألا تنذر من أن تنذر ولا تفي ، والله يكره الملحدين .
إن رأيت في بلد اضطهاد الفقراء ، وتجاهل العدل والعدالة ، فلا تعجب ففوق العالي أعلى وفوق الأثنين الأعلى .
وخير للجميع ان يقوم في البلاد ملك يخدمه الجميع .
حيث الطيبات كثيرة يكثر آكلوها وليس لصاحبها إلا رؤيتها .
نوم العامل حلو إن أكل قليلا أو كثيرا ، أما تخمة الغني فتقض مضجعه .
مصيبة أخري رأيتها تحت الشمس ثروة جمعها صاحبها لضره فإن بادت اصبح ابنه صفر اليدين ، ومثله كمثل من خرج من رحم امه عاريا وعاد عاريا وليس بيده شئ مما
صنعته يداه ، ومن البلية أن يعود الإنسان كما جاء فماذا جني ؟ لقد عمل للريح .
لقد كانت أيامه شقاء وهما ، حزنا وغما ، لذلك ليس للإنسان احسن من الا كل والشرب والتمتع بعمله الذي يعمله تحت الشمس إبان حياته التي وهبها الله له .
وحتي تمتع الفرد بثروته وجاهه هبة من عند الله ، وذلك لأنه ينسي بفرحه وسروره مرارة العيش وآلام الحياة .
أما الشر كل الشر فذلك الذي اشاهده تحت الشمس هناك إنسان منحه الله الثروة والمال والوقار وكل ما تشهيه نفسه . وحرمه لذة التمتع بما بين يديه بينما منح الله تلك الأشياء أجنبيا . فهذا باطل ومصيبة كبرى .
وإن ولد لإنسان مائة طفل وعاش اعواما كثيرة
لم يتمتع ولم يحزن قلت له : السقط خير منه لانه جاء وعاد إلي الظلام وكأنه لم يكن شيئا
كل تعب الإنسان لقمة والنفس لا تشبع ، ولا فضل للحكيم على الجاهل ولاميزة للمتواضع على المتشامخ . وما تراه العين خير مما تشتهيه النفس . وهذا ايضا باطل وقبض ريح .
الذي كان وقدر أن يكون ، والإنسان يعلم أنه لن يستطيع ان يخاصم من هو اقوي منه ، وكلما تكثر الكلمات يكثر الباطل . وما فائدة الإنسان ؟
ومن يعلم ما هو خير للإنسان في حياته الزائلة التي يحياها كالظل ؟
ومن يخبره عما سيحدث بعده تحت الشمس ؟
) للمقال بقية (

