الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 112الرجوع إلى "الرسالة"

كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي، نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر

Share

المقريزي مؤرخ القرن التاسع غير مدافع   (٨٤٥هـ) ،  استفاضت شهرته بتآليفه في حياته وبعد مماته، وقد طبع له حتى  الآن   (كتاب التنازع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم)   و(الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) (البيان  والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب)  و  (الأوزان  والمكاييل الشرعية)  و   (الطرفة الغريبة في أخبار حضرموت  العجيبة) . وأهم كتبه الذي حفظ به تاريخ عمران مصر كتابه    (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)  الذي يدعى تسهيلاً  (الخطط)  طبع غير مرة وعنى به علماء المشرقيات عناية خاصة  ومنهم من اقتطع منه فصولاً نقلها إلى إحدى اللغات الأفرنجية،  ومنهم من درسه في الجامعات وعلق عليه

ومن كتب المقريزى التي بقيت محفوظة في بعض دور  الكتب العامة، واكتفى علماء الشرقيات بنقل ما يتعلق بغرضهم  منها   (كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك)  وقد وفق الأستاذ  محمد مصطفى زيادة المدرس بقسم التاريخ في كلية الآداب بالجامعة  المصرية بإخراج هذا السفر الجليل على طريقة علماء المشرقيات في إحياء تراثنا الأدبي، معارضاً له على عدة نسخ مخطوطة وأهمها  نسخة بخط المؤلف. وتجد في كل صفحة أثر العناية البالغة في  هذا الجزء الأول - القسم الأول ٢٦١ صفحة من القطع الأخير

(كتب المقريزي - كما جاء في تصدير الناشر - كتابه  على نظام الحوليات الشائع في مؤلفات المؤرخين الشرقيين في  القرون الوسطى فسرد تاريخ كل سنة على حدته، ولم يحاول أن

يصل بين سنة وأخرى أبداً، ولم يستوقف القارئ في وسط  السنين إلا عند حدوث عهد جديد) وقال المقريزي إنه لما أكمل كتاب   (عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط)  و   (كتاب  اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء)  وهما يشتملان على ذكر من ملك  مصر من الأمراء والخلفاء منذ فتحت وإلى أن زالت الدولة  الفاطمية. أحب أن يصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من  الملوك الأكراد الأيوبية والسلاطين المماليك التركية والجركسية  غير معتن فيه بالتراجم والوفيات لأنه أفرد لها تأليفاً آخر

وفي هذا الكتاب كما في أكثر ما خطته يد المقريزي يسقط  الباحث على شذرات في التاريخ وآراء سديدة في نقد الحوادث  ما عرف عنه مثله في سائر كتبه المنقحة، فقد قال في دولة بني العباس وهو ما سبق له التصريح بمثله في كتابه النزاع والتخاصم:    (وفيها افترقت كلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان،  وأدخل الأتراك في الديوان، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصار  لهم دول عظيمة جداً، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام،  وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر)   وقال في المنصور إنه أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد  علي بن أبي طالب وكان قبل ذلك أمرهم واحداً، وهو أول خليفة  قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأول خليفة ترجمت له  الكتب من اللغات، وأول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في  أعماله وقدمهم على العرب، فاقتدى به من بعده من الخلفاء،  حتى سقطت قيادات العرب وزالت رياستها وذهبت مراتبها، وكان  قد نظر في العلم فكثرت في أيامه روايات الناس واتسعت علومهم

ومما دونه من حوادث سنة ٥٩٤ أن معز الدين إسماعيل  ابن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن ادعى الألوهية نصف نهار وكتب كتاباً وأرخه من مقر الألوهية ثم رجع عن ذلك،  وادعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس ولبس ثياباً خضراً  وعمائم خضراً مذهبة، وأكره من كان في مملكته من أهل

الذمة على الإسلام. . . وفي حوادث سنة ٦٠٧ أن الملك الأوحد  ابن العادل ظفر بملك الكرج ففدى هذا نفسه منه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير من المسلمين، وأنه يلتزم الصلح ثلاثين سنة  وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها. وفي حوادث ٦٠٩ أنه  كان في جهاز ضيفة خاتون ابنة العادل مائة مغنية يلعبن بأنواع  الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة. وفي حوادث  ٦٢٦ أنه وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب جميعها إلى قلعة الجبل بمصر، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره خشب خزائن الكتب مفصلة وحملها تسعة وأربعون جملاً، وإن عدة الكتب  ١١٨٠٨ كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك  والغصون لأبي العلاء المعري في ستين مجلداً

وقال في الموفق العباسي إنه أول خليفة قُهر وحجر عليه  ووكل به. وروى قول ابن مقلة:   (إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت انفاذي إلى أصبهان وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد فإن اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي  وإلا فهي تجتني بعد موتي.)  وذكر أنه قلت الجباية في عهد  العزيز من الأيوبيين بمصر فاتفقوا في دار السلطان على ما يصرف  إلى عياله وما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا  إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن باب المزر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر  أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى  من لا يبالي من أين أخذ المال. . . العزيز هو الذي منع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار في عهده، وأعاد المكوس التي كان أبطلها أبوه صلاح الدين وزاد في شناعتها، وتجاهر بالمعاصي والمنكرات، وأباح أرباب  الأمر والنهي الخمر والحشيش، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، واضطربت أحوال الديار المصرية من قلة العدل وكثرة المعاصي والفسوق، وكثر اجتماع النساء والرجال على الخليج لما فتح،  وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاص قبيحة   (وعدمت

الأرزاق من جانب الديوان، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزق الحرمان، واستبيح ما كان محظوراً من فتح أبواب التأويلات  وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات)  ومع هذا قال المقريزي في  هذا الملك لما مات: إنه كان ملكاً كريماً عادلاً رحيماً، حسن  الأخلاق، شجاعاً، سريع الانقياد، مفرط السخاء، سمع  الحديث من السلفي وابن عوف وابن بري، وحدث، وكانت  الرعية تحبه محبة كثيرة، وكان يعطي العشرة آلاف دينار،  ويعمل سماطاً عظيماً يجمع الناس لأكله، فإذا جلسوا للأكل كره  منهم أكله، ولا يطيب له ذلك، وهذا من غرائب الأخلاق &

ووصف في حوادث سنة سبع وتسعين وخمسمائة الغلاء الذي  حدث في مصر حتى أكل الناس الميتات وأكل بعضهم بعضاً  وتبع ذلك فناءٌ عظيم، وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية  لا مدُّ النيل فيها إلا مداً يسيراً، وشنع الموت في الأغنياء والفقراء  فبلغ من كفنه العادل من الأموات في مدة يسيرة نحواً من مائتي  ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها،  وأُكل من الأطفال خلق كثير، وصار الناس يحتال بعضهم على  بعض ويؤخذ من قُدر عليه فيؤكل، وإذا غلب القوي ضعيفاً  ذبحه وأكله، وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم  إلى المرضى فإذا صار الطبيب إلى دار المريض ذُبح وأُكل. وهذ ا الوباء والغلاء يشبهان ما وقع من مثلهما في أواخر عهد الفاطميين  في مصر والشام

ويطول بنا المقال إذا أردنا الاستكثار من الاقتباس من كتاب  الملوك، وقد استفدنا منه أنهم كانوا يطلقون على النبيلات من  ربات الحجال   (الستر العالي الصاحبة فاطمة) ،   (الستر العالي الصاحبة غازية خاتون) ،   (الستر الرفيع فلانة)  كما نقول اليوم   (صاحبة العصمة) ، وكنت قرأت على حائط فناء مدرسة  الفردوس بحلب:   (هذا ما أمرت بإنشائه ذات الستر الرفيع  والجناب المنيع الملكة  الرحيمة عصمة الدنيا  والدين، ضيفة خاتون  ابنة السلطان الملك  العادل سيف الدين  أبي بكر بن أيوب. . .)

اشترك في نشرتنا البريدية