كان لعصر محمد على الفضل كل الفضل في تزويد الكتبة العربية بهذا العدد الضخم من الكتب التي ترجمت من اللغات الأجنبية التي شارك في نقلها أفراد وهيئات ومدارس مختلفة ، وساهم فيها نفر غير قليل من السوربين وحريح البعثات ومدرسة الألسن وموظفي الحكومة ، والتي كانت مهدف إلي نقل علوم الغرب إلي مصر لابتعاث بهضة جديدة تربط بين الكنانة وبين العالم المتمدين ؛ وقد ادت حركة الترجمة في ذلك العصر واجبها . وكان من الممكن أن تؤني أكلها فتبعث المتعلمين من المصريين إلي ان يخطوا الخطوة التالية فيؤلفوا ، وقد بدأوا يخطون هذه الخطوة فعلا - وخاصة في عصر إسماعيل - ولكنها كانت خطوات متعثرة ، ولتعثرها اسباب كثيرة لا داعي لمناقشتها هنا
حتى إذا كان عهد مؤاد وفاروق ، وحتي إذا أنشئت جامعة القاهرة ، واستطاعت ان توحي إلي طلابها وخري يجبها ان يكتبوا ويؤلفوا ، وانقت إليهم بطرق البحث ومناهج الدراسة العلمية ، أقبلوا يدرسون ويبحثون ، واتجهوا في بحثهم ودراساتهم إلي مصر - وطنهم العزيز أولا ، يحاولون التعرف إلي نواحها المختلفة ، وخاصة إلي تاريخها وتاريخ بهضتها وقادتها في العصور المختلفة
من هذه البحوث المباركة " تاريخ التعليم في مصر الحديثة وهو الموضوع الذي توفر علي دراسته - منذ سنوات طويلة - صديقنا الاستاذ الدكتور أحمد عزت عبد الكريم - مدرس التاريخ الحديث بجامعة فؤاد الأول
الفصل وقد بدا الدكتور عزت دراساته في تاريخ التعليم منذ اكثر من عشر سنوات ، فلما كانت سنة ١٩٣٥ تقدم إلي كلية الإداب بجامعة فؤاد الأول بالقسم الاول من بحثه وهو تاريخ التعليم في عصر محمد علي " فأجازته الكلية لدرجة الماجستير مع مرتبة الشرف ، وقد طبع هذا البحث في مجلد ضخم في سنة ١٩٣٨ ، فتداولته الإيدي وافار منه - ولا زال بفيد - الكثيرون من أساتذة الجامعة وطلابها والمثقفين عامة
وفي صيف سنة ١٩٤١ تقدم الدكتور عبد الكريم إلي نفس الكلية بالقسم الثاني من بحثه عن تاريخ التعليم في مصر من نهاية عصر محمد علي إلي أوائل حكم توفيق ١٨٤٨-١٨٨٢ ) فأجازته لدرجة الدكتوراه مع) مرتبة الشرف الممتازة ، وقد طبع هذا البحث منذ شهور قليلة علي نفقة وزارة المعارف المصرية ، والكتاب يقع في أربعة محلدات كبيرة ، تحدث المؤلف في الأول منها عن تاريخ التعليم في عصر عباس وسعيد ، وفي الثاني والثالث عن تاريخ التعليم في عصر إسماعيل ، ثم خصص المجلد الرابع الملحقات ، وهي مجموعة قيمة من الوثائق المنصلة بتاريخ التعليم في تلك الحقبة من الزمن ، والتي لم تنشر قبل الآن ، وقد قدم للكتاب تقدمة قيمة المؤرخ الكبير الأستاذ شقيق عوبال بك ، فأجمل الحديث عن السمات القاهرة التي تميز تاريخ التعليم في تلك الفترة ؛ وخلاصة رأيه : أن التعليم في عصور عباس وسعيد وإسماعيل كان متأثرا كل التأثر بالجهود والأسس التي أقامها منشيء مصر الحديثة محمد علي الكبير ، فهو كما يقول الأستاذ الكبير - قد بني البناء وأحكمه ، فلم يستطع من جاءوا بعده إلا السكي فيه ؛ فلاهم بقادرين - من جهة - علي منادرته والسكبي خارجا عنه ، وليست لدبهم من جهة أخري - الكفاية والوسائل لهدمه وإقامة غيره ، فلم تكن لهم مندوحة عن الاستقرار فيه ومحاولة أن يعدلوا في أقسامه ، ليتمكنوا من
ذلك الاستقرار ، ومن هنا جاءت نظم التعليم وخططه ومشكلاته - في ذلك العهد - متأثرة كل التأثر بما وضع محمد على من خطط ونظم ، وما واجه من مشكلات ! ولا زال ظل محمد علي - وإن انتهي حكمه -مخيما علي العصر التالي له - عصر خلفائه - ولا زال الميراث الذي خلفه محمد على ذخرأ يستمد منه خلفاؤه مادة للعمل ولا نكاد نلحظ اثرا لمؤثرات قومية أو خارجية حولت تطور تاريخ التعليم عن مجراء المرسوم ، وعدات به إلي أهداف جديدة ؛ لهذا جاء تاريخ التعليم في مصر عباس الأول وسعيد وإسماعيل استمرارا التاريخ في عصر محمد علي ، وجاء كتاب اليوم للدكتور عزت استمرار لكتابه الذي وضعه منذ سنين
وانتقل الأستاذ بعد هذا - إلي العالم الأوربي ، فانت ان العصر - الذي يؤرخ الدكتور عزت للتعليم في مصر في إبانه - كان يمتاز في دول اوربا المختلفة بأنه " عصر نمو الديمقراطية ، والسعي إلي بث الفكرة الديمقراطية في علم الحكم والاقتصاد الأهلي ، وفي التربية والتعليم ، فيمد ان كان التعليم نرفا لا يناله إلا الأغنياء والمحظوظون أصبح حقا شائعا للجميع ، تكلفة الدولة للشعب بجميع طبقاته مدارس التعليم الأولى "
أما في مصر - في ذلك العصر - فقد اتخذت الأمور وضعا مغابرا ؟ فقد بدأ التعليم في عصر محمد علي متخذا شكل الهرم المقلوب ، اي أن مصر بدأت بإنشاء المدارس الخصوصية - لحاجة محمد علي وحكومته إلي الفنيين - ثم اضطرت إلي إنشاء المدارس الآخرى - الابتدائية والثانوية - لتمد المدارس الخصوصية بالتلاميذ ؟ ومثل هذا - كما يعقب الأستاذ - " لا يمكن ان يكون نظاما قوميا للتعلم "
والحقيقة أن قاعدة الهرم - أي معاهد التعليم الشعبي - كانت موجودة ، وتتمثل في تلك الكتاتيب
المنبشة في الريف المصري ولكن هذه الكتاتيب كانت لها عيوبها ، كما انها لم تكن تتسق والنظام التعليمي الحديث ، فكان لا بد من سعى اسماء مصر إلى إيجاد نظام جديد يحقق للشعب امانيه في تعليم ديمقراطي بتمتع به الجميع ، وبوائم - في نفس الوقت - بين نظام الكتانيب القديم ونظام التعليم الأوروبي الحديث ؛ وقد حاولت مصر هذه المحاولة مرتين :
الأولى بدأها على مبارك باشا في لائحته المعروفة بلائحة رجب .
والثانية بدأها مصطفي رياض ناظر النظار ، وعلي إبراهيم ناظر المعارف ، وإدوار دور المفتش العام للتعليم في سنة ١٨٨٠
غير أن الظروف السيئة سارت بمصر بعد ذلك إلي الاحتلال ، فتعطلت هذه المشروعات قليلا ) ومع هذا فقد أفادت الإدارة الحكومية في عهد الاحتلال كثيرا من هاتين المحاولتين عند تدبيرها لشئون التعليم في مصر .
هذه هي السمات الأساسية لتاريخ التعليم في ذلك العصر ، كما اجملها وعرضها هذا العرض الجميل الأستاذ شقيق بك في مقدمته للكتاب ، وكما فصلها الدكتور عزت في محلدانه الثلاثة تفصيلا دقيقا ممتما ، الم فيه بكل دقيقة من دقائق البحث ، وحلل فيه المقدمات والأسباب ، وعرض التيارات المختلفة ، وأوضح النتائح والآثار ، وكان هدفه عند كتابة هذا البحث - كما يقول في مقدمته - درس المسائل الآتية :
١ - نظم التعليم الحكومي والأهلي والأجنبي ، وسياسة التعليم في كل منها ، ومعاهدها وعلاقة كل منها بالآخري .
٢ - المحاولات التي بذلت - في عصر إسماعيل خاصة - لإيجاد نظام قومي للتعليم في مصر
والحقيفة أن القارئ بحسد في كتاب الدكتور عزت
حديثا دقيقا مفصلا عن ديوان المدارس وأفلامه المختلفة كعلم الوقائع وقلم الترجمة وقلم الروضة والمطبوعات ، وعن المدارس الخصوصية : كالطب والهندسة والآلسن واللمسان القديم ومدارس المعلمين ودار العلمين والمدارس الحربية والبحرية ، وعن المدارس التجهيزية والركزية والكاتب الأهلية ، وعن مدارس العميان والخرس ، ومدارس البنات - في عصر إسماعيل - ، وعن البعوث العلمية : أفرادها ووجهاتها وما تخصصت فيه ، وعن مشروعات التعليم القومي - في عصر إسماعيل - ، وعن تاريخ التعليم ومدارسه في السودان ، وعن الأزهر وتطور نظم التعليم فيه ، وعن مدارس الإرساليات الدينية والجاليات الاجنبية والطوائف غير الإسلامية .. الخ.. الخ .
والكتاب إلي هذا كله سجل ومرجع هام اخرجم قادة النهضة الفكرية في ذلك العصر ؛ فقد منى الدكتور عزت بتقصي اخبار هؤلاء القادة عند التحدث عنهم كمبعوثين إلي الخارج ، أو كنظار المعارف ، أو كنظار المدارس المختلفة ، أو كواضعين لمشروعات الإصلاح التعليمي . . الخ .
وهذه المدارس والؤسسات العلمية المختلفة لا تبدو في الكتاب جامدة منفصلة ، بل إنها لتبدو حيًة متصلة وإنك لتحس - وأنت تقرأ عنها - كأنها كائمات حية تنمو وتتطور بين يديك .
ومعلومات الكتاب دقيقة كل الدقة ؛ فقد رجع المؤلف - عند كتابة بحثه - إلي الراجع المطبوعة التي أرخت للعصر ، ولكنه رجع أول ما رجع إلي وثائق العصر المودعة في دور المحفوظات بعابدين والقلمة ووزارة المعارف ومتحف التعليم ؛ فمادة الكتاب - في معظمها - مادة جديدة ، تري النور ، أو يراها النور لأول مرة . وقد يأل المؤلف الفاضل جهدا كبيرا - لا يدركه إلا من عاناه - في التوفيق بين هذه المواد الكثيرة المبعثرة ، حتى أخرج
منها هذا الكتاب القيم ، شأنه في ذلك شأن المصور الماهر يؤلف بين الألوان المبعثرة في أبيبه وأوانيه ليخرج منها صورة جميلة تشيع وتشع الحياة من نواحبها وقسمائها ولسنا - في الحق - مبالغين في تقدير هذا الكتاب ، فقد وصفه الأستاذ شفيق بك - في مقدمته - بقوله والكتاب الجديد يمتاز بما امتازه به الكتاب الأول من مزايا الرجوع للأصول ، ودفة البحث ، واتزان الحكم ، واعتدال الراي ، وتحري الحقيقة في التفكير والتعبير ، وهي شهادة لها قيمتها .
وبعد ، فهذا كتاب قيًم ، نود - مخلصين - أن يقبل المثقفون جميعا على قراءته ، لنضع خططنا المقبلة على ضوء من تجاربنا الماضية ، لان دراسة تاريخ التعليم - كما يقول المؤلف -" لا تقتصر قيمتها على توضيح ماضي الأمة في أعز ناحية من تاريخها القومي ؛ وإنما هذه الدراسة خير هاد في معالجة مسائل التعليم وتدبير احكامه في حاضر الأمة ومستقبلها"
وغاية ما نرجوه - كما يقول الأستاذ شفيق بك - : " ان يستمر المؤلف في بحثه لتاريخ التعليم في مصر إلي ان يصل إلي الوقت الحاضر ، حتى تصبح الصورة أمام القارئ والباحث واضحة ، والمادة كاملة ، ووسائل الحكم اهدى سبيلا " ، وإنا لنعلم اندكتور عزت باذل جهده لتحقيق هذا الرجاء، وفقه الله .
