ولقد أنجب المحب بن الشحنة ورزقه الله ذرية مباركة طيبة منهم:
٨ - أثير الدين محمد (وهو سبط العلاء بن خطيب الناصرية، أمه السيدة خديجة بنت العلاء) ولد أثير الدين في شهر صفر سنة ٨٢٤ بحلب ونشأ بها، وأخذ عن أبيه وغيره، وناب عن أبيه في القضاء بمدينة حلب سنة ١٨٣٩ وناب عن جده لأمه في خطابة الجامع الكبير بها أيضاً، ثم استقل بالقضاء في أوائل سنة ٨٥٦ وقلَّد كثيراً من الوظائف الدينية والعلمية، وقدم على أبيه القاهرة غير مرة وحج معه، واتصل بعلم الدين السخاويّ، وفيه يقول كان كثير التودد خيراً من أخيه عبد البر، ولكن ذاك أفضل في الجملة مع سكون هذا وتواضعه وأدبه. وتوفي في جمادى الأولى سنة ١٨٩٨ بمدينة حلب
٩ - سرىّ الدين أبو البركات عبد البر الشحنة وهو أنبه أبناء المحب. ولد في أواخر سنة ٨٥١ بحلب، وانتقل منها صحبة أبويه إلى القاهرة وتلقى العلم بها عن أبيه وجده وكثير من فضلاء عصره كما سمع ببيت المقدس وغيره، وعرف بالذكاء والفطنة، وقلد كثيراً من وظائف القضاء والإفتاء والخطابة والتدريس بمدارس كثيرة بالقاهرة، وفيه قيل: دروس عبد البر فاقت على ... أبيه في الحفظ وحسن الجدل وذاك عند الأب أمر به ... نهاية السّول وأقصى الأمل
وولي قضاء حلب والقاهرة، وارتفعت منزلته حتى كان جليس السلطان الغوري(1) وسميره، ولا غرو فقد كان عالماً أديباً ذا حشمة وفضل وحسن بيان متقناً للعلوم الشرعية والعقلية واللسانية، وقد ترجم له السخاوي ولم يسلم من غمزاته حتى قال فيه: وليس بثقة فيما ينقله ولا بعمدة فيما يقوله، بل هو غاية الجرأة والتقول، ولو تصوَّن وسلك طريق السداد أو تستر أو تأدب مع مشايخ الوقت وفضلائه أو ضبط لسانه عن الوقيعة في الأكابر لكان أخلص له وأقرب إلى محبة الناس فيه. إلى أن قال: وصار أبوه بسببه إلى غاية في الامتهان، وقاسى ألواناً من الذل والهوان؛ ولكن عسى أن يكفر ذلك عنه بعض ما اقترفه، فالولد سر أبيه. . . الخ. أهـ
أقول: يظهر أن عبد البرّ كان عنده شيء من الاعتداد بالنفس والاعتزاز بمكانته وأنه نافس السخاوي مع أنه أكبر منه وأعلم، ولكليهما تآليف في علوم مختلفة. هذا إلى أني لا أنزه ابن الشحنة من بعض ما وصفه به، ولكل جواد كبوة. وكان
بمصر في ذلك الحين شاعر هجاء خبيث اللسان جعل لسانه مقراضاً للأعراض اسمه عبيد(1) السلموني؛ فكان من يتقي عرضه من كرام الناس يشتريه منه بالإحسان إليه أو بمداراته، فاتفق أن تعرض للقاضي عبد البر وهجاه بقصيدة في أولها: فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعد البر قاضي قضاتها
فأدبه السلطان الغوري وعقد له مجلساً بحضرته في مستهل شهر المحرم من سنة ٩١٣ وأحضر عبيد السلموني هذا مكبلاً في الحديد، فأنكر أن تكون القصيدة له، فلم ينجه هذا من تعزيره وأليم تأنيبه
وللقاضي عبد البر بن الشحنة مؤلفات كثيرة، منها (شرح منظومة ابن وهبان(2) في فقه أبي حنيفة النعمان) وابن وهبان هو القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقي قاضي مدينة حماة توفي سنة ٧٦٨، ومنظومته قصيدة رائية من بحر الطويل عدتها ٤٠٠ بيت، ضمنها غريب المسائل في الفقه سماها: (قيد الشرائد ونظم الفرائد) ؛ ثم شرحها في مجلدين وسماه: (عقد القلائد في أصل قيد الشرائد) ، ثم شرحها قاضي القضاة عبد البر بن الشحنة شرحاً حسناً قيد فيه ما أهمله الناظم في شرحه وألحق به مسائل أخرى وفروعاً غريبة، وغير ما عسر فهمه من بعض أبياته بأوضح منه، وسمّى شرحه: (تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد) ؛ وفرغ من تصنيفه في شهر شوال
سنة ٨٨٥، ثم هذبه سنة ٨٩٥. ومن مصنفاته شرح منظومة جده أبي الوليد المتوفى سنة ٨١٥، والتي نظمها في عشرة علوم. ومنها شرح (كنز الحقائق) في فقه الحنفية (ومتن الكنز هو للإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد الحافظ النسفي المتوفى سنة ٧١٠) وسمى شرحه (الإشارة والرمز إلى تحقيق الوقاية وفتح الكنز) ومنها (تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق) وهو رسالة أولها: (الحمد لله الذي سهل لمن اختار من عباده طريقاً إلى الجنة) ، ذكر فيه أن بعض الناس أحدث في طريق القاهرة وحوادث تضر بعامة المسلمين، فألف هذه الرسالة في دفع مثل ذلك في شهر شعبان سنة ٨٨٦. ومنها: (زهر الروض في مسألة الحوض) تكلم فيه عن حوض دون ثلاثة أذرع وعن حكم الوضوء فيه. وله (الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية) ، وله شرح (جمع الجوامع) المشهور في أصول الفقه لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة ٧٧١ وغير ذلك
وكان القاضي عبد البر شاعراً أديباً ومن شعره: أأنصار الشريعة لن تراعوا ... سيفني الله قوماً ملحدينا ويخزيهم وينصركم عليهم ... (ويشف صدور قوم مؤمنينا) وله مفتخراً ومعدداً مناقبه (وقد كان غير ذلك أولى به) : أضاروها مناقبيَ الكبار ... وبي والله للدنيا الفخار بفضل شائع وعلوم شرع ... لها في سائر الدنيا انتشار ومجد شامخ في بيت علم ... مفاخرهم بها الركبان ساروا وهمة لوذع شهم تسامي ... وفوق الفرقدين لها قرار وفكر صائب في كل فن ... إلى تحقيقه أبداً يصار
وكان بمصر في ذلك العصر امرأة جميلة مغنية تسمى خديجة الرحابية ذات براعة في الغناء والإنشاد يتعرض لها شبان عصرها وأهل الخلاعة منهم، وكان ممن تعرض لها أحد المنتسبين للعلم المسمى محمد بن سالم بن خليل بن إبراهيم القاهري الأزبكي ولد سنة ٨٥٥ وتوفي سنة ٩٠٠. فقال القاضي عبد البر يعرض به: إن تمنّعت يا مهاة عن الوص ... ل فإني والله حلو الوصال لست ندلا ولست فظاً غليظاً ... لا ولا في الوجود شيء مثالي
وكانت وفاة القاضي عبد البر بحلب في شهر شعبان سنة ٩٢١ رحمه الله تعالى. ولسرى الدين عبر البر وأخيه أثير الدين أبناء بررة هم أحفاد المحب بن الشحنة؛ ومنهم:
١٠ - لسان الدين بن أثير الدين أحمد ولد سنة ٨٤٤ بحلب ونشأ في كنف أبيه وجده، وربي تربية بني الشحنة، وقدم على جده المحب القاهرة، ثم ناب عنه في كتابة السر بها، ثم ولي قضاء الحنفية بمدينة حلب، وحج مع أبيه وجده، ثم فارقهما من عقبة أيلة إلى حلب لمباشرة وظيفته. وكان عالماً عاقلاً عفيفاً كيساً. قال السخاوي: (. . . مع فتور ذهنه، وله نظم وسط فمنه لما فصل جده عن كتابة السر ليحل محله ابن الدِّيري(1):
كتابة السر قد أضحت مشوهة ... لما قلاها محب الدين قد هانت وأصبح الناس يدعون المحب لها ... كيما يرق عليها بعد ما بانت توفي شهيداً بالطاعون سنة ٨٨٢ رحمه الله
١١ - وأخوه جلال الدين محمد ويكنى أبا البقاء مثل كنية البدري صاحب (سحر العيون) : نشأ نشأة سلفه وأهله، وتلقى العلم بحلب وبيت القدس والقاهرة، وولى قضاء حلب سنة ٨٦٢، وقدم القاهرة غير مرة، ثم أدركته منيته بها بعد علِّة طال أمدها في شوال سنة ٨٩٢ رحمه الله. قال السخاوي: وكان ذا شكالة وهيئة، غير محمود في دينه ولا معاملاته، عفا الله عنه وإيانا
١٢ - وأخوه عفيف الدين أبو الطيب بن أثير الدين ابن المحب حسين بن محمد ولد سنة ٨٥٨ وسمع عن جده وغيره، وقدم القاهرة غير مرة، وأخذ عن بعض علمائها، وكان يتردد بينها وبين حلب، وولي قضاء حلب وكتابة السر بها، ولما عاد إلى القاهرة بعد موت أخيه المتقدم سنة ٨٩٢ في أيام الملك الأشرف أبي النصر
فايتباي(1) أمر بنفيه إلى الواحات، فذهب إليها ولبث بها حيناً حتى شفع فيه فعاد، ثم توفي بالقاهرة مطعوناً في شهر شوال سنة ٩١٠ رحمه الله؛ قال السخاوي: وكان مع كثرة اشتغاله جامداً وله اعتناء بالخيول. أهـ
١٣ - عبد الغفور بن عبد البر توفي في طفولته بالطاعون سنة ٨٢
١٤ - وأخوه قاضي القضاة محب الدين محمد بن سري الدين قاضي القضاة عبد البر. ولد بمدينة القاهرة ونشأ بها، واشتغل بالعلم على أبيه وغيره، وولي نيابة الحكم عنده، ثم نيابة الحكم عنه، ثم قدم مدينة حلب عند انقضاء الدولة الجركسية سنة ٩٢٢ بعد أن حج وجاور بمكة. وكان لطيفاً أديباً حسن البزة جميل المطارحة لطيف الممازحة مقداماً مهيباً دمث الطباع رقيق الحاشية أديباً شاعراً. وتوفي ببلدة حلب في شهر شعبان سنة ٩٥١ رحمه الله، ومن شعره:
يا حبيبي صل مُعَنَّى ... ذاب وجداً وغراما
وارحمن صبَّا كساه ... غزل عينيك سقاما
ورماه عن قسّى الح ... اجب اللحظُ سهاما
رقة الخصر ... نحولاً حيث هاما
لا يرى إلا خيالا ... إن تقل فيه نظاما
يذق من يوم غبتم ... عنه لا أكلاً ولاما
عيناه نهراً ... طلقت منه المناما
أوقدت حشو حشاه ... نار خديك ضراما
عجباً للنار فيه ... وبه حزت المقاما
إن بعد الوصل عادت ... بك برداً وسلاماً
(يتبع)
