الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 306الرجوع إلى "الثقافة"

كتاب مرفوع، إلى حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا

Share

سيدي الأستاذ صاحب المعالي ، أطال الله بقاءه ، ورفع له قدره ، وأعز به العلم وأهله

أنا ياسيدي من المعجبين بفضلك ، وجلالة قدرك ، لما لك من صفات نبيلة قل إن اجتمعت في إنسان ! فعلمك بالقانون والتشريع لا يجاريه مجار ، وبحوثك في الأدب واللغة من امتع البحوث ، وسيرتك في القضاء أطهر السير ، ونشاطك العلمي الدائمي عجيبة من الأعاجيب ، وعطفك على العلم وأهله وإعانتك إياهم في السر والعلن مما طبق الخافقين ، فالله اسأل لك دوام الخير ، معانا على فعله ، مؤيدا بالتوفيق في القول والعمل .

قرأت ياسيدي تقريرك الأول الذي قدمته إلي مجمع فؤاد الأول للغة العربية ، لما عاد شيخنا الرئيس محمد بك كرد على من جلسات المجمع ، وسمعت ملاحظاته وملاحظات الأستاذ الجليل الشيخ المغربي ؛ ثم قرأت في المجلات والصحف بحوثا وفكاهات حول التقرير وما جاء فيه

وكان من الموافقات الطيبة أن يكون حضرة صاحب السعادة العلامة المشرع عبد الرزاق السنهوري بك آنئذ

يقيم بيننا في دمشق ؛ و كنت أنا والأخ الاستاذ يوسف العش نتذاكر والسنهوري بك في مباحث التقرير الخطير مذاكرات طويلة . وقد انتهت هذه المذاكرات بالرد الممتع الطويل الذي كتبه أخونا السيد العش في " الثقافة "

وهو في الحق حسن بالغ صاحبه في تقويته ، ولم يأل جهدا في تدعيم ارائه بأحدث ما وصل إليه العلم والفن من ابحاث الصوت والرسم . وقد لقي هذا الرد قبولا لدى معاليك ، فكتبت عنه نحو من خمس وثلاثين صحيفة في كتابك القيم ، الذي جمعت فيه الردود على من ناقشوا تقريرك الأول ،

ونشرته في أغسطس سنة ١٩٤٤ باسم " الحروف اللاتينية لكتابة العربية " وقد قرأت كتاب سيدي الباشا هذا كله وعجبت لاسلوبه الحلو ، وحيويته الفذة ، ونشاطه العجيب ، وغيرته التى لاضريب لها ؛ وقد ادهشنى ما رايته في هذا الكتاب من حماسة مدهشة ، وإخلاص للفكرة التي يدعو إليها على الرغم من كثرة المعارضين وقوة حججهم

فقد سعى الباشا الجليل إلي هدمها ، وهدم بالفعل قسما كبيرا منها هدما لا اظن ان اصحاب الردود يقوون على الوقوف أمامه مرة ثانية . ولست آخذ على الباشا أيده الله - شيئا إلا شدة لهجته وتهكمه في بعض المواطن ، واظن ان هذه اللهجة التهكمية قد جعلت بعض الناس يميلون عنه .

وبعد ، فأنا يا سيدي من المعجبين بالفكرة وبصاحبها اشد الإعجاب ، وانا من المقدرين لنظرية سيدي حق قدرها وخطورة امرها ، كما اني من اشد المؤمنين بأن الذي دفع سيدي إلى القول بها هو إخلاصه في حب العربية وسمعيه إلي تسهيلها وتيسير تعليمها . وانا ارجو أن تتم هذه الحركة في هذه المرة بما فيه خير العربية وصلاحها ؛

فقد عالج الناس قبلنا هذا الأمر وبحثوا فيه ، ولكنهم تركوه آخر الامر دون ان يصلوا إلى نتيجة طيبة .

يا سيدي ! إن للكتابة العربية عيوبا كثيرة ضاق بها ذرعا جمهور من الغيورين عليها في القديم والحديث . واقدم من عرفنا ممن تعرض لذكر فسادها حمزة الأصفهاني ،

المؤرخ الأديب العظيم الذي كان يعيش إلي أواسط القرن الرابع للهجرة ؛ فقد ذكر هذا الأديب في كتابه القيم النفيس المسمي : " التنبيه على حروف التصحيف " ) ١ ( ) إن الذي ابدع صور حروفها - الضمير يرجع إلي الكتابة العربية - لم يصنعها على حكمة ، ولا احتاط لمن يجيء بعده ، وذلك انه وضع لخمسة أحرف صورة واحدة ،

وهي الباء والتاء والثاء والياء والنون . وكان وجه الحكمة أن يضع لكل حرف صورة مباينة للأخري حتى يؤمن عليه التبديل . . وبعد أن ذكر تاريخ حدوث نقط  الحروف أيام الحجاج ، وان الناس غبروا زمانا طويلا لا يكتبون إلا منقوطا ، فكان مع استعمالهم النقط يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام والشكل ، ولكن هذا لم يوف بالغرض ايضا . ولما راوا ان العربية لم تنج من التحريف التمسوا حيلة ثالثة فلم يقدروا عليها . فقد بان لمن عقل وانصف من نفسه ان اعتراض التصحيف في هذه الكتابة مع ما جلب إليها من الزيادة في البيان بالنقط والإعجام ، ليس إلا من ضعف الاساس ( . هذا ما قاله حمزة الأصفهاني . وقد كان حمزة مخلصا في حبه للعربية ، ولم يكن شعوبيا ، كما يزعم جرجي زيدان ، بل كان محبا لها ؟

قضى عمره في الدفاع عنها وفي نشر ادبها وإحياء تاريخها ، كما يقول بروكلمان في كتاب تاريخ الأدب العربي . وإذا كان هذا قول رجل في القديم كحمزة ، ورجل في الحديث كعبد العزيز فهمي ، وكل منهما مخلص غيور ،

وجب على أهل الأمر ان يفكروا في هذه القضية الهامة تفكيرا أعمق وأهدا ، وانا لا ادعو إلي ترك الحروف العربية ، ولا إلي إبقاء القديم على قدمه ، وإنما جئت أحث الغير على الاهتمام بهذا الأمر . على أن عندي بعض الملاحظات أحببت أن أذكرها .

يا سيدي صاحب المعالي : إن ترك الحروف العربية والاستعاضة عنها بالحروف

اللاتينية سيقضي علي ثقافة وآثار قيمة خلفها لنا الآباء

فقد حدثني أمس الأستاذ العلامة الفارسي الكبير السيد عباس إقبال ، الاستاذ بجامعة طهران ، وقد كنا نتباحث في هذه القضية فقال : لقد نكبنا نحن الفرس في تاريخنا الآدبي بنكبتين عظمتين قضتا على أدبنا ، وكان ذلك من جراء تبديل حروفنا بحروف اخرى . فقد كان لنا ادب وشعر وحكمة وتراث مكتوب بالفارسية القديمة ، فلما غيرنا حروفنا بالحروف البهلوية ضاع كل أولئك . ثم غبرنا زمانا نجدد آدابنا وآثارها ، حتى إذا جاء الإسلام تركنا الحروف البهلوية إلي الحروف العربية ، فانهدم كل شئ ؟

وليس عندنا اليوم من آدابنا القديمة شئ ذو خطر . فاتركوا معاشر العرب حروفكم العربية إذا شئتم . أما نحن فلن نتر كها ، فإن العاقل لا يلدغ من جحر مرتين .

هذا يا يا سيدي قول استاذ فاضل يغار على أمته وعلى أدبها ولغتها ، وهو مخلص في قوله كل الإخلاص ، ولا سبيل إلي الطعن في شهادته . وإذا كان هذا حال الفرس مع الحروف العربية ، فهل يصح أن يكون حالنا نحن العرب معها غير ذلك ؟ ! إن الآداب الفارسية من شعر ونثر لاتضارع عشر معشار الآداب العربية ، فكيف يصح لنا ان نتركها او نبعد الشقة بيننا وبينها ؟ فليس من الخير ولا من العقل أن نتركها تركا كليا كما فعل الترك ؛ بل الأفضل والأحزم أن نصلح حروفنا

أنا يا سيدي صاحب المعالي مؤمن كل الإيمان بنقص الحروف العربية وصعوبة تعلمها ، ولكن ليس في الدنيا ياسيدي شئ سهل خالصا ، والحياة وكل ما فيها جهاد في . جهاد . وما خلق الإنسان إلا ليناضل ويجاهد ، وخصوصا إذا كان النضال في سبيل تعلم لغته وحفظ تراث ابائه الذي توارثه منذ أربعة عشر قرنا . فحرام ياسيدي أن نهدم هذا التراث ، لأن في تغيير الكتابة الهدم المحقق كما يقول العالم الفارسي والواجب يقضي ان نسعي في إصلاح الكتابة العربية مع المحافظة على هيكلها القديم . وانا اري ان من اهم الأمور التي يجب الالتفات إليها في هذا الإصلاح ما يأتي :

١ - حذف الزيادات التي لا فائدة منها في الكتابة العربية مثل الف ) رموا ( وواو ) عمرو ( و ) هؤلاء ( وما اشبه ذلك .

إعادة النقصان المحذوف من الكلمات العربية بلا موجب ، مثل الف ) هذا ( و ) ذلك ( و ) لكن ( وما اشبه ذلك .

٣ - تبسيط قواعد الهمزة . ٤ - تيسير قواعد النحو بطردها وحذف القواعد الشاذة ، وانا أري ان بحث العلامة استاذنا إبراهيم مصطفي الذي دعا إليه في كتابه ) إحياء النحو ( ، ثم بحث استاذنا الجليل أحمد امين بك في تيسير قواعد العربية ، الذي قدمه إلى المجمع اللغوي ، من اهم ما يجب الاعتماد عليهما لتذليل قواعد العربية

5 - كتابة المصاحف كما تقرأ ، وعدم التقيد بالكتابة العثمانية ، فان القرآن لم ينزله الله سبحانه إلا ليقرأ وليفهم ، وليس من الدين في شئ ان تكتب كلمة ) العلمين ( لتقرأ ) العالمين ( أو كلمة ) ملك ( لتقرأ ) مالك ( ، وهكذا .

٦ - وضع كتابة عربية جديدة تكون الحركات فيها ضمن الكلمات ، وليس هذا امرا مستحيلا . واري الموافقة على الكتابة التي وضعها أخونا السيد العش ،

والتي ينتظرها معالي الباشا حفظه الله ، وهي طريقة تجعل الكتابة العربية ) مستوفية ما ييسر لكل فرد من أية الطبقات أن ينطق بها علي الوجه الصحيح بلا لحن ولا خطأ ولا توقف أو إعمال فكر ( .

وبعد ، فاستصرخ رجال التربية والتعليم في البلاد العربية ، وأخص منهم العلامة المربي ساطع الحصري بك لمعالجة هذه المشكلة الكبرى والاتفاق فيها على رأي وتهيئة ذلك قبل موعد اجتماع مجمع اللغة العربية المصري فان الوقت قد أزف ، والناس في اضطراب عظيم وبلبلة مزعجة . والسلام ورحمة الله وبركاته على سيدي صاحب المعالي

دمشق

اشترك في نشرتنا البريدية