١ - توطئة
في ديار اورية مستشرق فرنسي شهير ، تفرغ لدراسة الآلات الروحانية والحيلية عند العرب في سابق العهد ، اسمه كرادي فو *le Baron carra De vaux* وقبل أن تبدي رأيته للمطالع نشرح معني كل من الروحانية والحيلية
أما معني ) الآلات الروحانية ( فقد قال صاحب كشف الظنون في تفسيرها : هي آلات سميت كذلك " لارتياع النفس بغرابة هذه الآلات ؛ ومعنى ذلك أن الروحانية نسبة إلى الروح ، بضم الراء وإسكان الواو نسبة شاذة إليها ؛ وإلا فالقياس هو روحي . وهذا كان راي السلف . وأما أن المحدثين يضبطونها بفتح الراء فليس بصواب .
أما أن رأي الأقدمين كان بضبط ضم الراء ، فهو لأن الروحانية نسبة إلي الروح ، وهي ترجمة اليونانية matos وPneuma ومعناها النسمة والنفس ) بالتحريك ( والريح ، والروح ) بالضم ( . وأول ما وضعت هذه الآلات ووصفت كان في اللغة اليونانية ، ومنها نقلت إلي
الإرمية ) السريانية ( والفارسية ، ثم إلي العربية ، وربما نقل بعضها مباشرة من اليونانية إلي العربية ، فكأن السلف حاولوا ان يضارعوا ابناء يونان في التسمية ، أي حاولوا أن يقولوا إن هذه الآلات ذات أرواح ، أو إنها تتنفس من ذاتها - وقد ضبطها بالضم أيضا أول من نشر كشف الظنون ، أي العلامة المستشرق الألماني فلوجل flugel الشهير ، والضبط بأحرف لاتينية لا تبقى شكا فيه ) ٤٠٠:١ ( . وكنا قد نبهنا قبل !ا كثر من اربعين سنة إلي هذا الغلط وتصحيحه في مجلة المشرق البيروتية ) المشرق : ٣)١٩٠٠ ( ص ٦٢٢ و ٦٢٣ ( .
وأما الآلات الحيلية فمنسوبة إلي الحيل بكسر ففتح جمع حيلة ويراد بها عند أرباب الصناعة وحاذقيها : " جر الأثقال بالقوة اليسيرة ؛ ) عن الخوارزمي في مفاتيح العلوم ص ٢٤٦ من طبعة الإفرنج ( . وعلم الحيل يعرف عند الإفرنج بالميكانيك mecanique
٢ - رأي العرب والمستشرقين
في كتب الآلات الروحانية والحيلية قال الشيخ إبراهيم البازجي في الضياء : ) ١١٤:٢ ( وهو من ابناء العرب الذين أولعوا بآثار السلف : " اشتهر
عن علمائهم ) اي عن علماء العرب ( انهم كانوا مقصورين في غالب أمرهم على علوم اللغة والشرع ، دون التبسط في العلوم الطبيعية والفنون الصناعية " . وقال البارون كرا دي فو ، وهو المستشرق الفرنسي الذي نوهنا باسمه في مستهل هذا المقال ، ما هذا معناه : " في عالم الأدب والعلم مخطوطات في مباحث الآلات الروحانية والحيلية ، اصحابها مسلمون ، ومخطوطات هذه المباحث نادرة ، بيد أن منها مخطوطين على أقل تقدير ، ووجودهما معروف منذ امد بعيد ، وهما مهمان : الأول كتاب لبديع الزمان الجزري ، ومحفوظ في الآستانة ، ومنه نسخة مخرومة مصونة في دار كتب باريس ؛ والكتاب الثاني لبني موسي بن شاكر ، وهذا أقدم من ذلك ، وهو مصون في خزانة الفاتيكان ١ (ا ه .
قلنا : وفي كشف الظنون في آخر الكلام علي علم البنكامات ، في باب الباء ، ما هذا نفسه : " الكواكب الذرية والطرف السنية ، في الآلات الروحانية ، في بنكامات الماء كلاهما للعلامة تقي الدين الراصد "
وكنا نتوقع أن نري شيئا يزيدنا فائدة في كتاب ) موضوعات العلوم ( لطاشكبري زاده أحمد أفندي ، فلم نجد ؛ ثم تصفحنا كتاب ابجد العلوم لصديق حسن خان فلم نزدد علما . لكنا وجدنا في دار الكتب المصرية كتابا لتقي الدين محمد بن معروف الشامي اسمه ) ريحانات الروح ، في رسم الساعات على مستوي السطوح ( ، ومنه نسخة أخري في خزانة كتب باريس الوطنية . وللجبرتي كتاب الموازين ، منه نسخة في خزانة الآباء اليسوعيين في بيروت . ولا شك في أن هناك نسخا خطية مدفونة في خزائن لم نقف على ما فيها ؛ وفي خزانتنا كتاب خطي في الآلات الروحانية ؛ ودونك وصفه :
3_ وصف مخطوطنا في الآلات الروحانية وصفا مجملا
في 5كانون الأول ) يناير ( من سنة ١٩٠١ اقتنينا مجموعة خطية بخمسين ذهبا عثمانيا ، لا عنوان لها . وإنما اقتنيناها بهذا الثمن الفاحش لعلمنا بندرة هذه النسخة ، ولظنتا انها النسخة الوحيدة من جنسها ، والفيناها تحتوي على التصايف الآتي ذكرها :
١ - القانون المسعودي لأبي الريحان محمد بن أحمد البيروني كتب سنة ١٠٩٣ ه ) وقد سمعنا في آخر سنة ١٩٤١ أنه طبع في الهند ( .
٢ - استيعاب الوجوه الممكنة في صنعة الاصطرلابات الممتحنة . للبيروني أيضا . كتب في سنة ١٠٩٣ ه أيضا :
٣ - وصف الإحراق بضوء الشمس المنعكس عن مرآة عن مسافة قريبة ، لأبي الريحان أيضا ، كتب في تلك السنة أيضا ) ١٠٩٣ (
4 _ كتاب المرايا المحرقة لعطارد بن محمد الحاسب كتب في السنة المذكورة أيضا
5 - عمل الساعات المائية التي تزجي بالبنادق ، وفيها ضروب من الحركات . وفيها تصاوير مختلفة بالحبر الأحمر لكنها غير محكمة الرسم كتب سنة ١٠٩٣ .
٦ _كتاب دوائر الدواليب المتحركة من ذواتها ، وفيه دوالي ) كذا ( عجيبة ، وغير ذلك لهرقل اليوناني وفيه تصاورير كثيرة توضح الكلام . وفي آخر الكتاب هذه الكلمة " تم كتاب هرقل النجار في الدواليب والحمد لله رب العالمين والصلوة على محمد وآله اجمعين ، وهو مكتوب في السنة المذكورة ) ١٠٩٣ ( .
٧ - كتاب الحق القمري : كتبه محمد علي التبريزى الأنصاري .
٨ فائدة منقولة عن شرح المقاصد خاتمة هذا بحث شريف تتفرع عليه أحكام كثيرة في باب الفلزات
والاحجار ، ومعرفة مقدار كل منها في المركب مع بقاء التركيب ، وفي عمل الموازين الغريبة .
٩ - أنواع الأدوية ووصفها . ١٠ - فصل من القانون في أفعال الأدوية المفردة . ١١ - من كتاب ميزان الحكمة للحكيم عبد الرحمن
الخازئي ناقل فقر أبي سهل القوعي ) كذا والأصح الكوعي ( ، وابن الهيثم المصري من رؤس ) كذا ( المسائل المسلمة عند الكل
١٢ - كتاب قسطا بن لوقا في الوزن والكيل في ثمانية أبواب
وهذه الكتب الأخيرة خطت في سنة ١٠٩٣ للهجرة . هذا ما كنت دونته عندي بعد حصولي علي الكتاب ، وكنت احرص عليه كل الحرص ، فوضعته في صندوق ثم أخفيته عن الأنظار لئلا يسرق .
وفي ٢٦ شباط ) فبراير ( من سنة ١٩١٧ ، سرقت خزانتنا عند سقوط بغداد ، ونهب كل ما فيها من مطبوعات ومخطوطات ، من شرقية وغربية . وكان عدد ما في خزانتنا الشرقية ) ٧٥٣ ( مخطوطا ونحو ١١٠٠0 مطبوع ، تبحث عن الشرق وعما يتعلق به من بعيد او من قريب . وكانت المجموعة المذكورة من جملة المنهوبات . ثم بعد ذلك وجدتها عند أحد الأدباء فاشتراها لي منه العلامة جميل صدقي الزهاوي - رحمه الله - لأنه هو الذي ذكر لي اسمه ، وكان ساكنا في محلته . فدفعت للمحتفظ بها مائة و ١٥ ربية ) أي نحوا من ٨ دنانير ( ، وذلك في ١٠ تموز ) يولية ( سنة ١٩٣١ . لكني وجدتها في أسوء حالة حتى ما كدت أصدق أنها نسختي الأولي ، لأن الرجل نزع منها أوراقا كثيرة لا أعلم عددها . وكان وضعها تحت سرير من خشب ، فنسيها ، ثم سطت عليها الأرضة وعبثت كل العبث في نحو ٦٩ صفحة ، بين مأروضه كل الأرض وبعض الأرض . وكانت المجموعة مجلدة بجلد الجؤذر مغشي من الداخل بمقوي وورق مصبوغ صبغ
المرمر فأكلت الأرضة القسم الأيمن منه وأبقت الجلد ، ولم تمس الجانب الأيسر منه ، ولم تتعرض للجلد . زد على ذلك أن مقتنيه كان قد قطع بالمقص بعض أطراف الأوراق ، ولا سيما ما كان مختوما بخاتم خزانتنا . فأصبحت هذه النسخة النفيسة في حالة تبكي من يراها ، إذ غدت فريسة حشرة هي الأرضة ، وفريسة وحش بشري هو محرزها ، وكل منهما فتك بها فتكا يناسب عنصره وسيلة وكان كاتبها قد صرف في تحريرها نحوا من سنة ، إذ بدأ بها في سنة ١٠٩٣ ، وانتهي منها في سنة ١٠٩٤ ه
وطول المجموعة ١٩ سنتمترا في عرض ١٢ ، وفيها رسوم كثيرة من حسابية ، وهندسية ، وفلكية ، وحيلية ، ) ميكانيكية ( ، وفي كل صفحة ٢٣ سطرا دقيقا ، أسود الحبر كل السواد . وأما الأرقام ورؤوس الفصول والعناوين فمكتوبة بالحمرة . والأرقام كلها بحروف الهجاء لا بالارقام الهندية . والخط بين التعليق والنسخ حسن واضح ، إلا انه يرسم طائفة من الحروف رسما خاصا ولا ينقطه ، فيصعب على المطالع قراءة الكلمة ، وإن كانت جلية الرسم . وليس في المجموعة حواش ، إنما ثم بعض تعليقات ، هي في أصل المتن . وكان الكاتب قد فاتته ، فانتبه لها بعد إتمام الصفحة ، فأعاد ما فات قلمه في طرفي من الحاشية ، وهناك أيضا أوراق قد ظهر فيها فتك الرجل بها فتكا يدل على لؤمه وخبائة نفسه ، كأنه أحد القرامطة في العصور الوسطى .
ومن بعد أن وصفنا المجموعة وصفا مجملا ، نأتي الآن على وصف الكتاب الذي وضعنا له هذه الكلمة .
4- وصف كتابنا في الآلات الروحانية وصفا خاصا به
يري بدء هذا الكتاب في ص ٢٤٦ من المجموعة والعنوان مكتوب بالأحمر ، وهذا نصه بالتمام : " كتاب دوائر الدواليب المتحركة من ذواتها ، وفيه دوالي ) كذا . اي دوال جمع دالية بمعني ناعورة ( عجيبة وغير
ذلك لهرقل ) ١ ( اليوناني " . ثم يقول : " بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين .
الصورة الأولى
" إذا أردنا أن نعمل دايرة ) كذا ( تدور من ذاتها ، فيصعد الماء ويدير رحا او رحوين ، فإنا نتخذ دايرة من اصلب ما يكون من الخشب ، قطرها خمسة اشبار وطول قطرها ثلاثة اشبار . وتختم هذه الصورة الأولى بقوله : " وأجعل لها دندا نجات ) ٢ ( تدير بها رحا أو تسقي بها الماء بدولابين إن شاء الله تعالى ثم يلي تصوير هذه الدائرة هي حسنة الرسم ، ثم ينتقل إلي وصف الصورة الثانية ، ويبتدئ كلامه هذا في آخر الصفحة ٢٤٧ ، وفي آخر صفحة ٢٤٨ يرى رسم الدائرة الثانية . وفي صدر ص ٢٤٩ يصف لدائرة الثالثة وصفا دقيقا ، وفي جهة ص ٢٥٠ يرسم لنا رسم تلك الدائرة رسما بديعا . وهكذا يسير سيرا شائقا في
وصف كل دائرة مع رسمها . ) ورسوم هذا القسم من المجموعة متقنة كل الإتقان ( ، وعدد جميع الدوائر الموصوفة مع الدوالي سبعة . وأما الأشكال فعددها ثلاثة وعشرون .
ويختم هذا الكتاب بهذه الكلمات : " تمت ) كذا ( بعونه تعالى في سنة ١٠٩٣ كتبه الفقير محمد على التبريزي الأنصاري غفر الله له عنه .
وقد بحثنا في قوائم الكتب المصونة في ديار الشرق والغرب ، فلم نعثر على اسم هذا الكتاب ، فلعله الوحيد الذي سلم من عوادي الزمن . أما اسم المؤلف فلم نره في مصنفات تراجم الرجال . عامل قول الكاتب : كتبه الفقير محمد علي التبريزي الانصارى يشير إلي مصنفه على أننا لم نصب في ما وصلت إليه مساعينا ، حيليا أو أستاذا يعرف بهذا الاسم ، لكن ليس دليلا علي عدم وجوده في سابق العهد ، لأن الدليل السلبي ليس بقاطع بل ضعيف النتيجة . وعسى أن أحد القراء يفيدنا بما يغنينا عن متابعة البحث ، فلسلفه شكرنا الصادق . والله الهادي إلي الصواب .
