نلاحظ في هذه الأيام الأخيرة انه لا يخلو مجلس في مصر من حديث ، ولا يخلو حديث من ترديد امال وشكوي من آلام هذه ظاهرة تسترعي النظر ، ولا شك في أن لها دلالتها هل نحن قوم نحلم ونحاول ان نعوض بهذه الآحاديث عن نقص نحسه ؟ هل نحن قوم نريد ان نعمل فيخوننا العزم فنلجأ إلي هذه الاحاديث لننفس بها عن أنفسنا ؟ قد سمعت تأويلا بعد تأويل لهذه الظاهرة العجيبة التي يلمسها كل منا في المجالس والمنتديات ، ولكني من الممكن ان اذهب في التأويل مذهبا آخر .
لا شك في اننا قد أحسسنا بأن هناك في حياتنا شيئا يستلزم منا التفكير وبذل الجهود . وليس هذا الإحساس وليد ما تنبهنا إليه من وجوه النقص في الحياة المصرية وحدها ، بل هو وليد ما تنبه له الشرق كله ، والعالم العربي الإسلامي خاصة ، من أنه في حاجة إلي عمل كثير لكي يدفع نفسه إلى الإمام ، ويساير امم العالم الحديث في تقدمها وكرامتها .
فهذه الاحاديث اقرب إلي ان تكون دليلا على التيقظ وتحرك الحياة في أفكارنا ودمائنا
هذه الأحاديث آيات دالة على أننا قد جمعنا الحقائق ووعيناها في أعماق أفئدتنا ، وبلغنا فيها مرحلة النظر . واستخلاص الأحكام ، ورسم الخطط ، وأصبحنا نتحفز للعمل والتنفيذ .
نحن في مصر ، وفي الشرق العربي الإسلامي ، بل نحن في الشرق عامة ، مثلنا مثل سائر الشعوب ، فينا مزيج من القوة والضعف ، ومن السمو والإسفاف ، ومن الحد واللهو ، ومن عوامل الحياة وعوامل الفناء . فينا كل
هذه العناصر مجتمعة - وقد تعمل الظروف المحيطة بنا على ظهور الحسنات من هذه العناصر ، كما قد تعمل ظروف اخري علي ظهور السيئات منها .
ونحن نحس بما فينا من عناصر الصلاح فتمتلئ قلوبنا بالأمل ؛ ثم نحس بما فينا من عناصر الضعف فتثور الآلام فينا ، وهذا هو سبب القلق الظاهر الذي لا يخلو مجلس من ترديد أصدائه
ولكن هل تحيط بنا ظروف تظهر العناصر الحسنة التي فينا ؟ وهل من الممكن تهيئة مثل هذه الظروف ؟ هذا هو السؤال .
إن العناصر الحسنة موزعة في الأفراد ، وقد تكون أحيانا غالبة على الفرد الواحد ، وقد تكون كامنة فيه تحتاج إلى ما يظهرها ، ولكنها بلا شك هناك تنتظر حتى يحين لها أن تنطلق وتتجه إلي غايتها
في مصر والشرق ألوف وألوف من الأفراد الذين يريدون الخير ، ويعملون جهدهم على خدمة المثل العليا ، ويحاولون دفع المجتمع إلي الإمام بما استطاعوا إلي ذلك من قوة ، ولكنهم أفراد مفككون . كل منهم يفكر وتجيش في صدره الآمال ، ويتألم ويدفعه الالم نحو محاولة الإصلاح ، ولكن مجهودهم موزع غير متآلف ، ولا يعرف الفرد من هؤلاء ما يفعله الآخرون . وقد يجتمع حول الفرد منهم دائرة تشبهه في اتجاهه ، ولكنها تكون دائرة ضيقة محدودة لا تستطيع إلا إنتاجا محدودا . فمجتمعنا شبيه بميدان فسيح ، قد توزع فيه مجاهدون كثيرون ، كل منهم قائم في ركن من اركان الميدان تحاول ما استطاع أن يخدم وان يصلح وان يكافح عوامل الضعف والانحلال . وهؤلاء المجاهدون من أصناف مختلفة ، وبيئات متعددة : ففيهم المثقف العالي الثقافة ، وفيهم الرجل المخلص الذي لم ينل حظه من الثقافة ، وفيهم الرجل الغني الذي يعمل عن طريق عمله ان يسمو بمواطنيه ،
وفيهم العامل الذي يدأب على عمله في الليل والنهار وقلبه عامر بالثقة والأمل ، وفيهم الأديب الذي يجاهد في سبيل تفتيح العيون والأذهان وتوجيهها نحو المثل العليا ؛ كل من هؤلاء يبذل كل جهده في سبيل الخدمة العامة ، وكل فرد منهم يحسب انه في الميدان وحده يجاهد في وجه قوي لاقبل له بالانتصار عليها . وكثير منهم ينتهي به النضال بعد حين إلى ان يدب اليأس إلي قلبه فيلقى عدة جهاده ، وتفتر همته ، ويقر بأنه قد عجز او انه قد اوشك ان يعجز .
فإذا نحن أردنا أن نطمئن إلي مستقبل جهادنا في سبيل الحياة الكريمة ، كان علينا ان نبذل كل جهد لتجميع هؤلاء الأفراد ، وتعريف بعضهم بجهود بعض ، حتى يعرف كل منهم انه ليس وحده في سعيه الشاق ، وان له إخوانا يشاركونه في تطلعه وتجرده للخدمة العامة فإذا نحن استطعنا ذلك امكن أن تأنس قلوب المجاهدين بالثقة والأمل ، عندما يعرفون ان الميدان الواسع يضم الوفا من الزملاء يعملون معا نحو القصد الواحد
ولكن هناك عوائق تحول دون هذا التجميع ؛ أولها : أن صوت الدعاية العالي في بلادنا إنما يقرع الإسماع بما لا يؤدي إلي خير . والدعاية هي الوسيلة الأولى للاجتماع . فلا بد من صوت عال ينادي حتي يقرع كل الاسماع في الميدان الفسيح :
" هلم ياجنود الخير تحت هذه الراية ! " وإنه لما يبشر بالخير أن في الأفق ما يدل علي اننا قد أخذنا نفطن إلي قيمة الدعاية . ففي المؤلفات الكثيرة التي ظهرت في هذه الآيام صوت قد ارتفع ، وفي الصحافة أصوات تنطق ؛ ولكن هذه الكتب وهذه الصحافة لاتواصل نداءها ، بل قد يفتر صوتها بين حين وحين ، وتشغلها المشاغل عن ندائها وليست الكتب والصحافة كل وسائل الدعاية ، بل هي جزء منها ، ولعلها اليوم اخفتها صوتا ولابد ان نجد الوسيلة لنبلغ الصوت إلي اقاصي الميدان
يستطيع كل فرد منا ان يكون صوتا في هذه الدعاية . اينما سرنا ، واينما جلسنا ، في بيوتنا بين الاصدقاء ، وفي مكاتبنا ، وفي زحمة الحياة يستطيع كل منا ان ينادي ، وان يعلن ان عناصر الخير تريد ان تتعارف ، وانه لا يضعف الجهود إلا أنها جهود افراد موزعة تنقصها الخطة الشاملة ، وتبادل الآراء وتنسيق الاتجاهات .
وهناك حاجز أخذ يرتفع في هذه الآيام الأخيرة بين الجيل الحاضر من الرجال والجيل المقبل من الشباب ؛ حاجز اشترك في بنائه الشيوخ والشبان على السواء . هؤلاء يظنون في أولئك ظنونا ، ويجيبهم عليها الاخرون بمثلها . فالشبان يظنون في الشيوخ التردد ، والانانية ، والضعف ؛ والشيوخ يظنون في الشبان قلة الثبات ، والميل إلى اللهو ، والتحلل من منابت جذورهم .
لا ! لا ! إن في الشيوخ شبانا ، وإن في الشبان شيوخا . لا فرق بين شيخ وبين شاب إذا كان كلاهما حيا . والحي من هؤلاء ، جميعا يليق لان يكون جنديا إلى جانب زميله ، لا تفرق بينهما مدة السنين إلا في شيء واحد ، وهو أن الشيوخ اكثر تجربة ، وأن الشبان اكثر قوة وحرارة . فليس من مصلحة المستقبل ان تنقطع علاقة الفكر بين هذا الجيل السائر نحو النهاية ، وبين هذه الأجيال الفتية التى سيلقي علي عواتقها حمل المسئولية عن مستقبل البلاد بعد حين .
فلا غني لنا عن أن توجه الدعاية نحو التجميع ، لا نفرق بين المجاهدين لان بعضهم من الشباب وبعضهم من الشيوخ بل إنه من الزم الضرورات لنا ان يجتمع هؤلاء وهؤلاء جنبا إلى جنب ، ليستفيد الشباب بتجربة من هم أكبر سنا ، ويستفيد الشيوخ بقوة من هم اشد منهم فتوة
هؤلاء وهؤلاء معا يكونون كتيبة الخير . فلنعمل علي الدعاية لهذا التجميع
