الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 111الرجوع إلى "الثقافة"

كشف كنوز الدورادو (1)، الزحف إلى الذهب

Share

إذا ساءت حال إنسان في بلده. وأدى به الضيق إلى تنكب الطريق القويم. ودفعه إلى استباحة الجرائر والمعايب . ثم  صحا ضميره من سباته ودعاه إلى البراءة من ماضيه . والتكفير هما فرط منه ، وتقويم ما زاغ من أمره ، فهو لا يلجأ في أكثر الأحيان إلى إرادتة يستنجد بها ولا يعقد العزم على الصمود لنزعات نفسه. وإنما يهتف به هاتف يقربه بالفرار من موطنه، والالتجاء إلى بلد بعيد وإلقاء مثالبه وجرائره وراءه . ويحسب أن تغيير ما بنفسه لا يتم إلا بتغيير موطنه ، وأن البلد الجديد سوف يهيئ له حياة جديدة. ويظهر نفسه من أوصاب ماضيه

رحل ( جوهان أو جوست سوتر ) من بلده (روتنبرج ) مدفوعاً بذلك الدافع ، بل غادر أوربا بأسرها قاصداً إلى أمريكا ليقيم المحيط الواسع حائلا بينه وبين حياته القديمة المهجورة، ركب البحر حوالي عام ١٨٣٤ ، (وكان يومئذ في سن الثلاثين) تاركا وراءه زوجه وأطفالا أربعة . وانتهى به المطاف إلى مدينة ( نيوبورك ) حيث زاول عدة مهن لم يطمئن إلى واحدة منها وضاقت به المدينة الفسيحة. وبرم بصخبها وضوضائها . وناقت نفسه الصديمة إلى الريف. وأهاب به جمال الطبيعة وهدوء الخلاء. فانتقل إلى (ميسوري ) . واتخذ الفلاحة مهنة واستطاع بعد مجهود يسير أن يقتنى مزرعة تكفل له معاشاً ميسوراً

سمع الناس يتناقلون أعجب الأحاديث عن بلاد الغرب ورأى التجار يفدون من تلك الأصقاع النائية المجهولة

ويصفون مناظرها الرائعة، ويذكرون ترامها الطبيعي الهمل . فأخذ روحه القليق يحن إلى المجهول. ويتوق إلى اجتياز المفاوز الشاسعة المأهولة بالهنود الحمر ، والجبال السامقة المكللة بالعشب ، وما الذى يعوقه عن بلاد الغنى والجمال ؟ إنه لم يهجر وطنه وأهله ليعيش وسطاً بين المنى والخصاصة. وها هي فرصة الأثراء مؤاتية . فلم لا يقدم ويحقق أمانيه ويعود سيداً فنياً مهيباً إلى زوجه وأولاده ؟

باع مزرعته وصر ثمنها وانتظر أول ركب متجه صوب الغرب لينضم إليه وفى يوم من أيام عام ۱۸۳۸ استقل مركبة كبيرة تجرها الثيران وغادر البلد في صحبة ضابط وسيدنين وخمسة مبشرين. وتنفس الصعداء إذ انبسط أمامه الفضاء الممتد امتداد الأبد . وبهر جمال  الطريق المسافرين. وطال السفر وأخذوا يعتادون المناظر المتشابهة حتى مأوها. وظلت الجبال ترفعهم والوديان تضمهم ، والسهوب تطوى لهم حتى شفهم الملل والكلال. ووصلوا بعد ثلاثة أشهر انقضت على هذه الرحلة الشاقة الجميلة ، إلى قلعة ( فان كوفر » ، وماتت إحدى السيدتين من جهد السفر. وكانت بلدة «كوفر » مقصد سائر المسافرين فاضطر «سوتر » إلى مواصلة الرحلة بمفرده . وعبثا حاول رفقاء الطريق أن يستبقوه معهم . وكم زينوا له المعيشة في مدينتهم . وكم حذروه أخطار الرحيل بمفرده في الأقطار النائية الموحشة . ولكن بلاد "ألدورادو» كانت شغله الشاغل، وكان كالفه بها قد جرى فى دمائه، فركب لها البحر. ثم قطع في سبيلها جانباً كبيراً من «ألاسكا» على ساحل المحيط الهادى . وتجشم السرى ، وعانى الطوى حتى وصل إلى ثغر بسيط قائم على المحيط ، تائه بين صحراءى الأرض والبحر يدعى "سان فرنسيسكو». وليس بين ذلك الثغر القديم وبين مدينة سان فرنسيسكو المزدهرة في هذا العصر وجه للمشابهة. وإنما كان موطن بعض صائدى

الأسماك تابعاً لولاية كاليفورنيا المكسيكية تلك الولاية المهملة ، رغم أنها أخصب ولايات القارة الجديدة تربة، وأغناها موارد طبيعية .

ما جال «سوتر» في تلك البقاع. ونزل وادى سكرامنتو». ورأى الأشجار الباسقة والأعشاب الكثيفة حتى وثق من شدة تلك الأرض البكر وأيقن أن قطوف آماله دانية. وأنه لا يستطيع أن ينشىء فى تلك الربوع مزرعة مثمرة فحسب ولكنه يستطيع أن ينشيء فيها مملكة مترامية الأطراف ينصب نفسه عليها مليكا

وعاد من جولته جدلاً راضياً، وقابل حاكم الولاية وصارحه بما اعتزم من وضع يده على وادی ( سكرامنتو ) وتمهيده للزراعة والاستغلال ، فوافق الحاكم على المشروع ووعد برعايته وتأييده.. ونشط «سوتر » للعمل ، فاستأجر عمالا وطنيين، واقتنى خيولا وماشية وآلات نجارة وزراعة . وسار إلى بلده الجديد على رأس موكب كبير قوامه ثلاثة أتباع من الأوربيين ، ومائة وخمسون خادما وطنياً وثلاثون عربة محملة أنواع المبرة والذخيرة والآلات المختلفة ، وخمسون حصاناً ، وعدد عديد من البغال والثيران والبقر والخرفان. وحط الرحل على شاطئ نهر مسجور. حيث قامت المستعمرة الجديدة التي أطلق عليها «سوتر» اسم ( هيائسيا الجديدة) تخليداً لذكرى بلاده العزيزة عليه

أشعل النار في الشجر ، فاندفعت ألسنتها مع الرياح والتهمت الغابات الشاسعة ، وانكشفت الأرض بهذه الطريقة الهينة منبسطة صالحة للزراعة، ودار العمل فقامت المنازل الخشبية وتكاثرت، واتسعت رقعة الأرض المنزرعة ، وتوالدت السوائم وتضاعفت ، وأثمر المجهود المبذول ، وأربى نجاحه حتى جاوز الأحلام والأطماح ولكن (سوتر ) لم يشبع ولم يهدأ، وواصل الجهاد.

فجاء بأشجار الفاكهة من البلاد النائية ، وزرع منها  مساحات ،مديدة، وجلب أحدث الآلات البخارية المعروفة ، إذ وجد الأيدي العاملة والهم لا تكفي العمل الكبير ولا تسعف، وأتت منزله برياش فاخرة طلبها من باريس. ودفع عن كل شبر من أرضه غارات الهنود الحمر واللصوص الطامعين في ماله ، ولم يمر على هذه الحال عشرة أعوام حتى صار من كبار الأثرياء، وذاع اسمه بين بيوت المال الكبيرة في أوربا ، وتوهم أن العمل إذا سار على هذا المنوال من التقدم والازدهار فلن يلبث أن يصير أغنى رجل في العالم ، ولما استراح إلى هذه الآمال ، عاودته بعد الأعوام الطويلة ذكرى زوجه وأولاده المجورين في أوربا ، فكتب لهم يدعوهم إلى اللحاق به.

في ليلة من ليالى يناير سنة ١٨٤٨ جاء جيمس ميشيل النجار إلى سيده «سوتر" ممتقع اللون مضطربا، وقدم له حفنة من التبر المخلوط بالتراب، وأخبره في صوت متهدج بأن بريق هذا المعدن الوهاج خطف بصره أثناء قيام العمال بحفر قناة فى مزرعة "كولوما". واحتبست أنفاس "سوتر" واختلج قلبه لشدة وقع النبأ ، ولم ينتظر الصباح لينتقل إلى تلك المزرعة النائية، بل جرى إلى عربته في غير وعى ، وركبها إليها غير عابئ بهول الظلام وعصف الريح في تلك الليلة الشانية الداجية ، وطار النوم من عينيه ، ولم يكف أثناء الطريق عن مناجاة نفسه . سيصبر إذا أغنى رجل في العالم، بل سيصيب غنى لم يصبه أحد قبله ، ولن يصيبه أحد بعده فمن ذا الذي يملك أراضي شاسعة كأراضيه ؟ وها هي هذه الأراضي تحوى تبراً خالصاً ؟ من الذى يتدفق الذهب من بين أصابعه هذا التدفق ؟ هل من شك في أنه أغنى أغنياء العالم ؟ فجاء بأشجار الفاكهة من البلاد النائية ، وزوع منها

وصل إلى كولوما في الصباح، وأسرع إلى الكنز المسحور  . وفتح العمال سدود القناة فتدفق منها

الماء حتى ظهر قاعها الرملي انحدر «سوتر» إليه وأخذ منه حقنة ما تأملها في كفه حتى تلألأت ذرات التبر الخالص، وتلفت حوله فرأى رجاله متكأكئين عليه يستطلعون رأيه فيما رأى فلم يحاول تمويه الحقيقة واستحلفهم بشرفهم أن يكتموا الأمر حتى يغربلوا التبر وينقلوه إلى مكان أمين، ووعدهم بالجزاء السخي في حالة برهم بيمينهم.

ثم عاد إلى عربته واستوى فيها ساهما. وظهرت عليه سياء الجد والوقار وقفل راجعاً بها إلى داره . وطال به الطريق. وأبطأ الزمن. وافترست روحه أطماح عنيفة لا قبل لإنسان بها، وعاد إلى مناجاة نفسه : أهذا الكنز ملك حقاً ؟ أنا أغنى أغنياء العالم ؟ :

ولكن هل قدر له حقاً أن يصبح أغنى أغنياء العالم ؟ لا . بل أشقى من في الوجود ، وأشدهم فقراً ، وأولاهم بالشفقة والرثاء .

حدث له ما لم يحدث لغيره من الناس . وقع ما لم يقع نظيره في التاريخ، فقد ذاع خبر منجم الذهب . وهل يمكن أن يبقى مثل هذا النبأ مكتوماً ؟ تناقلته الألسنة . وانتشر انتشار البرق في سهول سكر منتو» . فجن جنون القوم، والدفع خدم سوتر وصناعه وزراعه إلى «كولوما » تاركين خلفهم أعمالهم وصناعتهم ومنهم ، حاملين ما حصلوا عليه في لهفتهم وعجلتهم من غرابيل وأوعية لغربلة التبر وحفظه ، وفى بحر ساعات قصيرة ، آضت شارع «سوتر» الآهلة قاعاً صفصفاً ، وتلف أكثر ما فيها ونفق. فالبقر الحلوب لم تجد من يحلبها . فانتفخت ضروعها حتى تفزرت. وجاءت الماشية فحطمت قيودها وجرت وراء أكلها فى الحقول. قدمت الحرث وأتلفته وتعطلت مصانع الجبن وآلات الفلاحة والرى . وقسمت الأنبار، وهم الخراب

ولم يقف نبأ العثور على الذهب عند حدود كاليفورنيا ،

وإنما تعداها إلى الولايات المجاورة . ثم شغل جميع أنواع المواصلات ، فاهتزت به أسلاك البرق ، وجرى به سماة البريد . وتناقله الراكب والراجل ، وطوى البلاد واجتاز البحار ووصل من أمريكا إلى أوربا، فبدأ الزحف العام إلى الذهب. وتجمع الناس من الشرق والغرب. ومن كل حدب وصوب. من كل ضارب فى الأرض بقدميه ، ومن كل فارس أو راكب عربة، وانقضوا على «كولوما » في صفوف متزاحمة متسابقة لا ترى العين آخرها .

وتوزعت هذه الجموع المحتشدة. هذه الأمم المنوعة الأجناس، المختلفة الأشكال والألوان ، الناطقة  بكل لسان، فى ضياع "سوتر" ومنازله ، فاكتسحتها في طريقها ، ولم يردعها رادع من قانون ، أو وازع من ضمير أو إقرار حق ، أو عاطفة إشفاق ورحمة ، وإنما استمانت في سبيل الوصول إلى الذهب، غير معترفة إلا بحق القوة والغصب، أو خاضعة إلا لعاطفة الأثرة والجشع .

نزل هذا الجمع ربوع (سوتر) عنوة واقتداراً . واحتلها احتلالا ، وقطع شجر الفاكهة ليعنى منها منازل تؤويه ، واقتحم المخازن فهب ما تحتويه من فاكهة وجين وسمن وحب ، وذيع الماشية والتهمها ، وشق وجه الأرض حفراً كأنما هى أرضه، ونقب عن الذهب في كل مكان ، وقلب كل حجر ومعلم ، وعاث في الربوع المخصية حتى أحديث

ولم يقف الهرج والمرج عند حد، بل ظل الخطب يقدح والكارثة تتفاقم ، فقد تألقت الشركات لتوفير وسائل جديدة للنقل ، وأخذ بعضها في مد سكك حديدية من شرق الولايات المتحدة لغربها وفى بناء سفن تدور بركابها حول رأس هورن ، وصار لاسم «الدورادو » وقع كوقع السحر ومرت الأيام وسيل أولئك الوفود يشتد ، حتى خشيت الدول أن تتحول رعاياها إلى غرب أمريكا ، وتترك أوطانها خاوية على عروشها وانقلبت الهجرة إلى

غزوة استباح فيها الغزاة البلاد المغزوة ، فاغتصب أقوياؤهم أراضى "سوتر" وأخذوا يبيعونها لضعفائهم . كأنما هي حلال لهم. وقامت على أنقاض "سان فرنسيسكو"-  ذلك الثغر القديم الذي سبق لحكومة المكسيك أن نقلت إلى «سوتر» حق ملكيته وملكية الأراضى المحيطة به - مدينة عظيمة زاهرة. وضاع وسط طوفان الغاصبين اسم هيلفيسيا الجديدة» كما ضاع حق مالكها .

حاول «سوتر» الغبين أن يشارك الغاصبين في الحصول على شيء من تبره الدفين. وطلب عون أتباعه القدماء . فازوروا عنه وأهملوه . ولم يهتم أحد منهم إلا بشأنه، وضاع المسكين في معمعان النهب والسلب. وهجر أراضيه وهو يستنزل اللعنة على الذهب ويوم ظهوره في قاع الجدول المشئوم ولاذ بمزرعة نائية مهجورة صفر اليدين يكاد يستجدى السابلة، فصار مثل « ميداس» الذى اختنق بالذهب الذى تمناه.

ولحقت به في ذلك الأوان زوجه وأولاده، وكأنما جاءوه بالعهد القديم وما اشتمل عليه من إملاق وشقاء . ولم تلبث الزوج المسكينة أن لقيت حتفها من شدة حزنها على النعيم المفقود. ولم يطل عهد النكد والضيق . إذ وجد سوتر » في أولاده شبابه المتجدد. واعتمد على سواعد أولئك الفتيان الثلاثة في إدارة مزرعة جديدة. واستعان بأعضادهم القوية على حرث الأرض وتربية الماشية ؛ ولم يلبث اليسر أن والاء بعد العسر ، بفضل خبرته ومثابرته وخصوبة أرضه

انسلخت كاليفورنيا عام ١٨٥٠ من المكسيك  وانضمت إلى حكومة الولايات المتحدة. وكان لمنجم الذهب الفضل الأول فى هذا التغيير السياسي لأن المهاجرين من ولايات الغرب أربوا على عدد القاطنين الأولين ، فصاروا

حزب الأكثرية ، وآثروا الانضمام إلى بلادهم الأصلية. وسارعت حكومة وشنطن إلى القبض على ناصية الحال في تلك القاطعة الهائجة الناتجة، وقضت على الفوضى ، فاسترد القانون سلطانه . وتوطدت دعائم النظام. وخفت وطأة حمى الذهب .

وما فتحت محكمة سان فرنسيسكو، أبوابها حتى كان ( جوهان سوتر » أول عميل من عملائها . ادعى أنه مالك المدينة وتخومها وضواحيها وما جاورها من البساتين والحقول الممتدة حتى سفوح الجبل. وقاضى عشرات الآلاف من الملاك مطالباً برد ما اختصبوا من أملاكه ومن تبر مناجمه ، وبتعويضه عما تلف من مصانعه الكبيرة ومحصولاته الوفيرة ، وبساتينه الزاهرة ، وسوائمه التي لا تعد ، وأرسل ابنه الأكبر «أميل» إلى واشنطن ليدرس القانون، ثم يباشر بنفسه هذه الدعوى الكبرى حتى يأمن خيانة المحامين ، وطالت إجراآت التقاضي ، واستمر نظر الدعوى أربع سنوات

وفى ١٥ مارس سنة ١٨٥٥ صدر الحكم في الدعوى، وجد ( طومسون ) القاضى العدل الذي لم يستخفه وعده ولم يرهبه وعيد، أن «سوتر» محق في مطالبه ، فقضى له بها فانتعشت الآمال بعد مواتها ، وإذا بالحظ يعود إليه بعد النحس ، وإذا بالذهب يرجع بعد اليأس منه ، وإذا . يصل إلى هدفه

عاد قلبه إلى الخفوق، وأعصابه إلى الاختلاج ، ها هو في هذه المرة أغنى أغنياء العالم بغير منازع .... ولكن هل يرضى القدر بتحقيق هذه الأمنية الكبرى ؟

أغنى أغنياء الأرض ؟ كلا. وكلا ، بل أشأم أهل الأرض طالعاً ، وأنكدهم حظاً ، وأكثرهم بلاء .

قوبل حكم القاضي « طومسون » بالسخط العام وأخذ الجرئ من القوم في إعلان تذمره ، فثار العامة الذين اعتادوا منذ استوطنوا كاليفورنيا » أن يعبثوا بمبادئ القانون، ويستخفوا بحرمة الحق والعدل. وحال

التذمر إلى تمرد وخطر لبعض الموثورين أن يتوجهوا إلى دار المحكمة محتجين. وساروا في مظاهرة ابتدأت هيئة الخطب، ولكنها تطورت فصارت خطيرة غير مأمونة بمن انضم إليها من الرعاع الذين يحفلون أبداً بالقلاقل والثورات. ليربي لهم الصيد في الماء العكر . وألقوا الوقود في النار بهتافهم الصارخ ضد الحكم الظالم وبندائهم الحار بسقوط محكمة الطغيان . وهرع الناس إلى المظاهرة من كل ناحية، وانضووا تحت لوائها . ودبت في أعصابهم كهرباؤها . واستفحل أمرها واستشرى حتى استحال إلى ثورة عامة، وأخذت الجموع المتكاثرة تموج كالبحر الزاخر. وتهدر هدير موجه التأثر وتتوق إلى العدوان والإتلاف . ووصلت إلى المحكمة فأضرمت فيها النار. وتهجمت على القاضي الوقور فأوسمته إهانة وضرباً ، حتى كادت تقضى عليه . ثم غادرت المحكمة فريسة للنيران واندفعت إلى مزوعة( سوتر ) الجديدة. وجرفت في طريقها كل ما صادفها من ماله ومتاعه حتى بلغت داره فحاصرته. وما رآها الرجل وهى مقبلة حتى أدرك العاقبة . وحاول الفرار وأولاده. فلم يقره على هذه الخطة إلا أصغرهم ، وأبي الآخران إلا أن يصمدا للثائرين - ويدافعا عن حق أبيهم ، ويقنعاهم بوجهة نظرهما . وحسبا أمر إقناعهم سهلا إذ كيف لا يقتنعون والحق ظاهر ؟ أليس لدى أيهما حجة شرعية بملكية المتاع المتنازع عليه ؟ ألم يقم بإصلاح هذه الأراضي شبراً شبراً حتى أخصبت واخصلت ؟ ألم يتفق شرخ شبابه ويستنفد قواه في العمل الشاق المضني حتى وطد هذه المستعمرة الزاهرة ؟ أفقد هؤلاء القوم كل شعور بالعدالة ؟ أأففرت قلوبهم من كل عاطفة انسانية ؟ أماتت ضمائرهم في جنوبهم ؟

وجابه أحد الأخوين الجماهير الحانقة. وبدأ يؤيد حق أبيه . ويسفه ثورتهم الأئمة . فضاع صوته بين الصخب الداوى ؛ وأخذ الرعاع يرجمونه حتى سقط مضرجاً

بدمه، وخطا الحانقون على جثته وهم يقتحمون الدار . ورأى الأخ الثانى أن يموت بيده فانتحر ، وأشعل المهاجمون النار فى المنزل الحرب بعد أن نهبوا كل ما حوى من رياش ومال. وحطموا أثناء عودتهم كل ما بقية سلياً في المزرعة . ويقروا بطون شائها وما شيتها، وغادروها يباباً بلقما . وكان سوتر » قد تمكن من الحرب مع ابنه الثالث الذى لحق بأخويه ، إذ مات غرقاً في طريق أوبته إلى مسقط رأسه .

لم يشف «سوتر» بعد فقد زوجه وأولاده وماله . من هول كارثته بقاء لياليه ، ولم ينهض عوض من كبوته . فقد قسم الهم كاهله . وطمس عقله الذى لم يبق منه إلا خلية واحدة سليمة تجنح إلى ناحية واحدة من التفكير ، إلى ناحية حقه المهضوم، والقضايا التى سوف يرفعها لاستعادته

وعرفت مدينة ( وشنطن ) شيخاً هرما يرتدى (رد نجوت) رثاً وجوارب ممزقة ، ويطرق في هيئته الغريبة أبواب المحاكم والمجالس النيابية والوزارات ، ويطالب بملايينه المغتصبة ، قضى ثلاثين عاما يسعى وراء هذه الملايين من غير أن بكل أو بيأس، وعرفه الناس باسم الجنرال ، واتخذه كل هازل ماجن موضوع مفاكهته فى مجالس الهو والمجون وكانت الحكومة تمنحه إعانة شهرية صارت من رزق المحتالين الذين أدخلوا في روعه أنهم قادرون على تحقيق مطلبه العزيز المنال

ظل هذا الصعلوك صاحب الملايين يجرى وراء سراب لامع ، لا يرى أو يسمع أو يعي غيره ، حتى توفى على عتبة مجلس النواب فى ١٧ يوليو سنة ۱۸۸۰ ، وحمله بعض المارة جثة هامدة ذليلة وفى جيب ردائها حجة تثبت امتلاكه مدينة تعد عاصمة الولايات المتحدة الثانية ، وولاية هى أغنى ولايات الأرض

اشترك في نشرتنا البريدية