فقر الدم الخبيث منطق يقول لا ، وطبيب يقول نعم
وصل الفائت : طبيب شاب أمريكي اسمه مينوت ، من آل " مينوت ، وهي أسرة في الطب عريقة ، وداء حياء هو فقر الدم الخبيث .
أولع مينوت ، بفحص الدماء ، وأولع بالأمراض التي تتسبب عن اختلال في الدماء واتخذ من فقر الدم الخبيث دراسة له
ووجد فيما وجد أن مرضي هذا الداء تتحسن حالهم أحيانا لغير سبب ظاهر ، فينظر دماءهم تحت المجهر ، فيري فيها كريات جديدة غريبة ، هي كريات دم حمراء وليدة نزلت حديثا إلى الدم ، أنزلها مصنع الكرات الحمراء بالجسم وهذا المصنع هو نخاع العظام
ويزول هذا التحسن في المرضي لغير سبب ، فتختفي من الدم هذه الكرات الوليدة .
واشتغل مع عالم الأمراض ، الدكتور ريت فعلمه أن فقر الدم الخبيث إن هو إلا فساد في نخاع العظام يجعلها تصنع كرات دم حمراء قاصرة غير نامية .
واشتغل مع الدكتور لي . فقام الاثنان فجاءوا تجركاحين نزعوا الطحال من أجسام تسعة عشر مريضا ، فتحسنت حالهم حينا ، وكثفت دماؤهم . ولكنها عادت بعد ذلك سيرتها الأولى . وماتوا جميعا
وقام " مينوت ، و "لى" ينقلون الدم من رجال أصحاء إلى رجالهم المرضي ، فثخنت دماء بعض هؤلاء المرضي ، ولكن إلى حين أيضا ، وماتوا جميعا ،
حزن " مينوت " لموتاه حزنا كبيرا ، وحزن لحيته ، ولكنه لم يرفع الراية البيضاء ابدا والآن اقرأ :
ثم رقوه في مدرسة الطب بجامعة هرفرد ، وقلدوه إدارة مصلحة طبية في مستشفى هننجتن Collis Huntington وفيها كان يدرس السرطان في مرضاه ،
وفيها كانت تدرس تلك الأمراض التي تنشأ عن خلل في صناعة الدم بالأجسام ، كمرض اللوكيميا أو مرض الدم الأبيض . وهو مرض لعين يتميز بزيادة في كريات الدم البيضاء . وإلى جانب هذين العملين كان يعمل طبيبا مساعد في مستشفى ابرجهام Peter Beat Brighamوخبيرا بأمراض الدم بمستشفاه القديم ، المستشفى العام بماساشوست . وبين كل تلك الاعمال استطاع " مينوت " ان يجد ساعات لعيادته الخاصة . وفي كل تلك الأعمال ، وبينما هو يجري ابحاثه في السرطان ، رأي كثيرا من فقر الدم الخبيث . وأخذ صباحه ومساءه يفكر في سر الخلية البشرية وسر نمائها ، ويحاول ان يفسر كيف ان بعض الخلايا ببعض الناس تقف دون النمو الكامل ، وتظل ، في مثل فقر الدم الخبيث ، قاصرة تؤذن صاحبها بالدمار ، على ما رأي الدكتور ريت
ويأتي عام ١٩٢١ فيحس " مينوت ، بالضعف ينزل به ، ويحس برجليه تنوء عن حمل جسمه كان مينوت " طويل القامة رقيق الجسم ، وسافر يستمتع بإجازة له ، ولكنه عاد بعد إجازته أررق جسما . وألقى نفسه قبيل العصر يشتري الموز على غير عادة . ويأكل الموز ، ثم يأكل كالمسعور ، فلم يزده الأكل وزنا . ولم يستطع أن يتوقف في عمله ، حتى اليوم الواحد لم يسترحه . وآلمه ظهره ، ودام عطشه ، واستمر ضعفه ، فلم يجد بدا من دخول معمله الصغير يستوضح حال نفسه كانت ما كانت . ودخله وحده ذات مساء ، وأغلق الباب وراءه . وما هي إلا برهات حتي كان واقفا إلي منضدة عليها مصباح ذو لهب . وكانت في يده أنبوبة اختبار بها سائل ، فوضع الأنبوبة في اللهب حتى سخن السائل وغلا . وأخذ بنظر إلي هذا السائل في إمعان ولونه ينقلب من الأزرق ، إلي الأصفر ، إلي اللون الأحمر المشئوم ، قال مينوت لنفسه . " نعم نعم . إنه البول السكري . وليس في الأبوال بول يحتوي من السكر أكثر مما احتواه بولي هذا ؟ .
ولم يكن له من العمر عندئذ غير أربعة وثلاثين عاما . وتلك سنرة كان لا يجيء السكر صاحبها حتى يترحم عليه الناس . وكان " مينوت ، له زوجة وله اطفال . وأسلم نفسه لأحد الأطباء الخبراء في داء البول السكري ، فوصف له تدبير الغذاء المعروف لمرض السكر ، وهو إلي تدبير إجاعة اقرب منه إلى تدبير تغذية . فلزم امر طبيبه في كل دفائقه لزوما يضحك المتأمل إذا هو نسي أن " مينوت " إنما كان يدفع بذلك عن حياته . كان مينوت " يزن بالميزان كل لقمة ، وكل فتاتة من الطعام تنزل إلي معدته . وكان يدعي إلي العشاء خارج بيته ، فلا يقبل الدعوة إلا أن يكون له بالداعي ألفة لا يتحرج معها أن يحمل ميزانه الصغير إلي داره ليقدر به كل ما يعطاه على المائدة من طعام
وعضه الجوع كل يوم ، وكل ساعة ، وهو صابر ، علما منه أنه إن أجاب داعي الشهوة فقد أجاب معه داعي الموت ، ونحف جسمه فصار نصف رجل . ومع هذا لم يتوقف عن العمل قط . كانت إرادته العارمة تمسك بأطراف الحياة إمساكا . وحفظ هذا الموت المقدر الموزون على شمعة روحه شحمها فظلت تتقد . وعرف " مينوت " من هذا قيمة الطعام يديره المرء ، نوعا ومقدرا ، وفقا لحاجته فنشيع للطعام وتدبيره ، وعلا ، فحسب فيه النفع لكل داء .
وكان أن اكتشف " بنتنج أنسولينه ، فنجا به " مينوت " في الناجين . وعاد به إلي قوته في سرعة مدهشة كأنما لعبت به عصا ساحر . فهكذا كان يعود مرضي السكر بالأنسولين .
وزاد إيمانه بالطعام وتدبيره ، وزاد تحمسه له ، فأدي .به هذا الإيمان وهذا التحمس لاشك إلى حيث طلع على اكتشافه الغريب الذي ظل ينتظره على افق الزمان وهو لا يدري عما ينتظره شيئا
وأتى عام ١٩٢٢ فوجد " مينوت " حيا ، يحيا الحياة بالأنسولين في قوة كعهده الأول بها ، وعلي القرب منه في جدول الزمان اكتشافه المستقبل البديع . وليس بقلبه خاطرة بأنه منه قريب . كان ا كتشافه بنظره عند ركن في سبيل حياته ، فلذلك لم يره وكان قدر له الا يراه إلا فجأة إذا هو بلغ تلك الزاوية من الطريق
كان " مينوت " يهتم بالذي يأكل مرضاء . بدأ اهتمامه بذلك من ذلك العام القديم عام ١٩١٦
كان يسأل كل مرضاء ، من فقراء الدم ومن غير فقرائه ، ماذا يأكلون وكيف يأكلون . وكان بالمستشفى صبية صغار يرومون الفكاهة حيثما وجدت . فكنت تراهم على مرضهم يتناقلون النكتة همسا " إن الدكتور اكتشف أن السيدة العجوز فلانة لم تأكل السبانخ قط حتى بلغت العاشرة من عمرها " . ثم هم يضحكون كبتا .
ولم يلبث " مينوت " أن أحس من تسآله الكثير انه علي وشك أن يكتشف أمرا عجبا عن فقراء الدم من مرضاه . فقد وجد الكثير منهم لا يأكلون كما يأكل الناس . وجدهم لا يأكلون كل شئ ، ويتقززون من أكثر الأشياء ، ويتخيرون الطعام تخيرا غريبا ، ثم هم لا يطعمون في ميعاد . وطفق يسأل مرضاه أسئلة لا يتسع وقت الطبيب ولا صبره لسؤالها . ولم يرض الجواب منهم إلا تفصيلا . فإن قالوا له إنهم يأكلون اللحم كل يوم ، سألهم هل هم حقا يأكلونه ، وأي نوع يأكلون ، وكم يأكلون منه ؟ وعندئذ يجد الكثير منهم لا يأكلونه حقا لأنهم لا يشتهونه ، وانه إنما يظهر علي المائدة ولكنهم لا يقربونه . ووجد بعضهم يشتهي الزبد والدهن اشتهاء خارقا
ويتهامس الصبية الصغار من المرضي ، وأكفهم على أفواههم : " إن الدكتور اكتشف أن المريضة فلانة تأكل في كل وجبة قرصين فأكثر من الزبدة " ، ثم هم يتضاحكون
هكذا تابع مينوت سؤال مرضاه ، وهم بين ضيق السؤال وضيق المرض آخذون سبيلهم إلى الموت المحتوم ، بوجوه تزداد كل يوم بهتا، وجلد يزداد كل يوم تشهما ومنهم من أصابه الشلل قبل أن يصيبه الفناء كل هذا وصاحبنا الطبيب يقترب رويدا رويدا من تصور صورة الطعام براء أوفق وأجدر بهؤلاء المرضى.
إنه بدأ تخليق صورة هذا الطعام النافع المزعوم من لا شئ ، وانتهي من تخليقها بمنطق كمنطق من يقول : كلبان وكلبان تساوي خمسة أحمرة . أما العلم الذي دبر به هذا الطعام فعلم يضحك منه حتى هؤلاء الصبية المهامسون المتضاحكون من صغار المرضى .
وجد " مينوت " ان فقر الدم الخبيث إنما يكثر في الولايات الشمالية من الولايات المتحدة .
وأخذ " مينوت " يقول لنفسه : إن الولايات الشمالية هي ايضا ا كثر الولايات إنتاجا للألبان ومشتقات الألبان . حسن ، فأي شيء ينتج من هذا ؟ ! إن كثيرا من سكان تلك المناطق يأكل أشياء كثيرة غير الزبدة والقشطة . ولا شك أن ملايين من الناس تأكل الزبدة والقشطة ، وليس بها عرض واحد طفيف من أعراض فقر الدم الخبيث .
ويحدث " مينوت " نفسه " وإذن فلعل طعاما به قليل من الزبد ، قليل من الدهن ، يكون ولكن تمهل وتعرض له فكرة اخري : " إن فقر الدم الخبيث يشبه مرض البلجرة كثيرا - فم موجع ، وهضم مرتبك ؛ وأعصاب مختلة
وذكر أن جلدبير جر Ooldberger أرجع سبب البلجرة إلي أن مريضها لا يأكل الكفاية من اللحم ، لا يأكل الكفاية من الزلاليات ، من البروتينيات
وذكر أيضا أن الأطباء تصف أكل الكبد للمرضي بداء القلاع ، وتقول على عادتهم قولا عاما : إن الكبد تفيد فيه . ثم أليس في داء القلاع شيء من فقر الدم ؟
على هذا الأسلوب جري تفكير " مينوت " وبهذا المنطق تحسس طريقه . وهو منطق لو حضر به في امتحان عند استاذ منطق لأعطاه عليه صفرا : فهل البلجرة حقا تشبه فقر الدم الخبيث هذا الشبه الذي زعم ؟ ثم أليس شفاء البلجرة في أكل اللحم واللبن واللبنيات ؟ ثم ألم يطعم هو مرضاه اللحوم والزلاليات ، ويطعمهم منها الكثير ، فلم يمنعهم ذلك من الموت ؟
ويقرأ في كتاب ضخم عنوانه " أحدث المعارف في التغذية " فيجيء على ذكر فضائل خافية للزلاليات في الكبد . وبقرأ ان الكبد تزيد في سرعة النمو في الصغار من بيض الفئران . ويقرأ أن أكباد هذه الفئران لما أكلتها خنازير غنية Guinen Pigs أاداف ، وبها داء الحفر Scurvy زاد مقدار الدم الأحمر - الهيمجلوبين - في هذه الخنازير .
ولكن حتى هذا ، ما دخله بالذي هو فيه ؟ إن فقر الدم الخبيث ليس نقصا في الهيمجلوبين فحسب . لا وتذكر " مينوت " صاحبه القديم العزيز الدكتور " ريت " يصبح في وجهه : " إن نخاع العظام هو مكان الداء ، إن كريات الدم التي يصنعها النخاع صغيرة تعجز في النمو عن بلوغ حجمها الطبيعى فتظل قاصرة . .
ويفكر " مينوت " في هذا النمو . . ويفكر في الكبد . ويقرأ في ذاك الكتاب الضخم فتمر به كلمة الكبد مرارا وتكرارا . ولكن ما العلاقة بين عجز النخاع عن صنع كرات دموية حمراء بالغة وبين هذه الكبد التي ساعدت على نمو الفئران البيض ؟ ثم هو يقرأ شيئا آخر عن أطفال الآساد ، عن أشبالها :
في جنائن الحيوانات كانوا يرشون الأشبال علي اللحم الأحمر ، فيصيبها الكساح ، ثم تموت
وينفكسر " مينوت " في هذا الكساح . إنه عظام مريضة . ثم يأخذ يقرأ في الكتاب : " ولكن رجال هذه الجنائن عمدوا إلي هذه الأشبال
فغذوها بالكبد والدهن والعظام . . فكان أن نمت واشتدت وصارت آسادا نعم الآساد " .
هذه هي الكبد تعود ويعود ذكرها : تضعف العظام والطعام بلا كبد ، ثم تشتد العظام والطعام به الكبد . وفقر الدم الخبيث يعزي إلي خلل بنخاع العظام . إذن . إنها فكرة بعيدة جدا ، ومع هذا أخذت تختمر في رأس " مينوت " في كل مكان وكل زمان ، وهو غاد إلي عمله ، وهو رائح منه ، وهو عند اسرة المرضى يرقب شفاءهم ، وهو عند اسرتهم في الليل يحضر احتضارهم ، وفي الصباح وهو يحلق ذقنه
لم تكن تلك الفكرة وليدة بحث منظم . فإن أحدا لم يعط " مينوت " عشرة مليون دولار ليؤسس بها معهدا يكتشف فيه علاجا لفقر الدم الخبيث ، او يكشف فيه عن فضائل أكل الاكباد . إنه اهتدي إلي ما اهتدي إليه في عيادته الخاصة ، وليست عيادة المريض بالمكان الذي يعالج فيه العلم أو تجرى فيه على الأسلوب العلمي بحوث . إن هي إلا فكرة مبهمة مغيشة كالضباب ، فكرة ظلت تطفو وتغطس في لجة عقله مع صنوف من أفكار أخري ، وعديد من مشاغل اخرى .
وإليك تجربة في العلم أخري أجراها الدكتور وبيل Whipple والدكتور هوبر Hooper ، والدكتور رويشبت وهي تجربة من شأنها تخذيل " مينوت " فيما هو بصدده أكثر من تشجيعه جاء هؤلاء الثلاثة الأطباء بكلاب ، ثم نزفوا دماءها نزفا شديدا حتى خفيت وترهفت . ثم أطعموا هذه الكلاب أكبادا ، فعاد إليها الدم كما كان ثخينا كثيفا .
إن هذا الذي أحدثه الأطباء الثلاثة في الكلاب فقر في الدم يقينا . ولكنه ليس بالفقر الخبيث ، ليس بالفقر الأساسي الأولى ، ولكنه الفقر الثانوي الذي يطاوع غلة أخري ، وينفعل لفعلة أخري خارجية عنه ، ليس منها وليست منه . وفقر الدم الثانوي لا شأن له مطلقا بفقر الدم
الخبيث ، ولا علاقة به ، ولا نسب بينه وبينه . وإن كان في مقدور الطبيب ان يصيب الكلاب بالفقر بالثانوي ، فليس في مقدوره ان يصيبها بالفقر الخبيث . وهذه حقائق يعرفها الطبيب الناشئ
والدكتور " وبيل " نفسه لم يقل إن الكبد تفيد في فقر الدم الخبيث شيئا . وليس في التجربة ذاتها شئ يحمل على إفراد الكبد بميزة أو فضل . فقد قال " وبيل " إن لحم القلب من الآبقار ، وكذلك عضلها ، يشفيان ما أصاب الكلاب في دمائها من فقر . أعني أن اللحم والكبد سيان فيما يصنعان .
ولقد علم " مينوت " أن لحوم أبقار الدنيا كلها ، لو اجتمعت ، ما أفادت مرضي الفقر الخبيث في جوهر دائهم شيئا . لقد أكلوا هذه اللحوم فماتوا برغمها . إنها تنفع في فقر الدم الثانوي كالذي كان بتلك الكلاب كما تنفع الأكباد تماما . واللحوم لا تنفع الفقر الخبيث ، وكذلك لابد أن تكون الأكباد ، فلماذا تجرب الاكباد في مرضي بني الإنسان
المنطق يقول لا . ولكن منطق " مينوت " يقول نعم . وإذن أخذ بطعم الا كباد مرضاه من بني الإنسان .
