( مناسبة ظهور كتاب قصتي الكبرى للصحفي الأشهر هائن سوافر )
قبل أن أجول مع قارئ الثقافة في عالم الروحيات ، أود أن أؤكد له أنني لست في هذا الميدان سوي عابر سبيل محايد ، اجتذبته الأنوار فتأمل فيها عينيه دون أن يأخذه بريقها ، أو سائر علي الشاطئ رأي الأمواج عن بعد تعلو وتنخفض حتي إذا ما اقتربت من الشاطئ الميسر في اذنه قصتها التي لن تنتهي رغم بدئها مع الزمان ، حاد عن طريقها فلم تسمس له ثوبا أو تبلل له حذاء ، حتى إذا تضاءلت وتلاشت وعادت منسحبة إلى حيث انت ، عاد يتأمل من جديد كيف يتفادي الموجة التالية ، ويا ليته يفلح . ولقد كنت أفلح في معظم الأحايين متعمدا أن أخرج من المناورة محايدا كما بدأتها لأقص عليك يا قارئي العزيز أمتع القصص واحسنها دون محاباة أو مغالطة ، لعلك واجد فيها السلوي علي غصن ذوي أو حبيب مات وقضي ، وياليتنا تعرف ونحن نقترب من خريف الحياة أو نجتازه لأي غرض نعيش ونكافح ، وماذا بعد تلك الحفرة التي فيها تودعون .
في أمسية باسمة من أمسيات الشهر الماضي كنت أسير في شارع من أكبر شوارع القاهرة فاجتذبتني لافتة إحدي المكتبات الكبرى ، وكانت منسقة في بساطة وإبداع ، فأخذت أتأمل محتوياتها فلفت نظري كتاب بعنوان " قصتى الكبرى " لها نن سوافر . وكنت اثناء إقامني بإنجلترا اطلب العلم ، أقرا لهذا الكاتب في كبريات الصحف والمجلات وكنت أعلم أنه من عمالقة ( فليت ستريت ) وهو حي الصحافة في إنجلترا . ومن طبيعة هذا الكاتب الهجوم والهدم والتدمير والنقد المر والسخرية
اللاذعة في كتاباته ، حتى أصبح الكل يخشونه ويعملون له ألف حساب وكان لا يقبل كل ما يقال ولا يستسيغ إلا ما يعتقده الحقيقة التي لا مرية فيها . لذلك كانت دهشتي عظيمة عندما وجدت كتابه يبحث في عالم الروح ولم أكن أظن أن هذا الملحد - وكان يعترف علنا بإلحاده - يسمو في بحثه وتفكيره إلى عالم ما بعد الموت ، وهو الذي كنت اتخيله يهتم بيومه دون غده . وعجبت عندما قرأت أن هذا البحث قد شغل تفكيره خلال العشرين سنة الأخيرة ، وبداه ساخرا متحديا هداما كعادته ، ثم دخل قلبه الإيمان رويدا رويدا حتي اتخذ من الروحيات دينا فبدأ كتابه بالكلمات الأتية :
" أنا لا اعترف إلا بديانتين : الروحية والإشتراكية أنا أومن بوجود إله فوق الجميع يدفعنا إلي الخير والشر حسبما تقتضي مصلحة العالم . وإني أعتقد بإخلاص أنه إذا آمن الناس بديانتي وجعلوا منهما أساسا للمعاملة لزالت الأحقاد ولدفت الخلافات الدينية إلى الأبد ، ولبدأ عالم جديد يعيش الكل فيه كافراد عائلة كبيرة لا يمتاز الواحد فيها عن الآخر إلا بما يسديه من خير المجموع لقد ثبت لي بصفة قاطعة وبعد تجارب طويلة مرهقة أن الحياة لا تنتهي عند القبر وأن هذه الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومتاعب ماهي إلا روضة أطفال لتهيئنا لمهمة أكثر روعة واكتمالا في عالم آخر ، سوف تتاح الفرصة فيه لمن قصر في أداء مهمته في هذه الدنيا ، ان يصل ما انقطع ويجرب حظه مرة أخرى ليسدي بعض الخير لمن حوله " .
كلام جميل ، يا ليته يصح ! ألفاظ تستسيغها نفس كل من في قلبه جرح لم يحن بعد ميعاد التئامه . معان يتقبلها بترحيب هائل كل من فقد حبيبا فيتمزي بتخيله سعيدا في جوه الجديد بين السابقين ممن عرفهم ومن لم يعرفهم ، ويتيقنه أن يوم اللقاء لا بد آت إن عاجلا أو آجلا . عقيدة تتفق مع مختلف الكتب السماوية التي أنزلها العزيز الحكيم ، والتي أجمعت على وجود روح ويوم
حساب ، يوم تجزي كل نفس بما عملت ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
ولهؤلاء الروحيين منطق لطيف كالنسيم العليل ، ينزل على الجرح العميق في النفس الحائرة الحزينة كالبلسم الشافي فيلتئم على غير ميعاد وقد اعتنقوا منطقهم كدين لا يقبلون فيه نقاشا ، وهو يتلخص في أن هناك جسما أثيريا يفارق جسد الإنسان عند الوفاة ، ويتكون من مادة اسمها الإكتو بلازم توصل العلماء إلى تحليلها ميكروسكوبيا وإلى تصويرها بالأشعة تحت الحمراء فوتوغرافيا سينمائيا . والروح حسب اعتقادهم خفيفة لطيفة مهما بلغ ثقل دم صاحبها وسماجته أثناء رحلته في العالم الفاني ، إذ يبلغ وزنها بضع عشرات من الجرامات ، وهذه المادة هي التي تنبثق من جسوم الوسطاء لتصول وتجول مخترقة الحجب ومتعدية حدود الفضاء والزمن ، فهي تتخطى آلاف الأميال في ثوان او دقائق ، فتصل إلى اماكن قاصية ، فتمكن الوسيط وهو جالس أمامك من وصف منزلك او الاتصال بشخص آخر في قارة بعيدة كأمريكا مثلا . وهم يفسرون إسراء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه طرح روحي لا جسدي ،
ويصفون محمدا في مختلف الكتب التي تبحث في هذا الموضوع بأنه من اعظم الروحيين الذين وجدوا على سطح البسيطة منذ بدء الخليفة ، ويفخرون بهذا . وهم يعتقدون أن الأنبياء والرسل قد أغدق عليهم الله ميزتين عظيمتين أولاهما الجلاء البصري اي القدرة على الرؤية بشكل يخالف العرف ودون استعمال الحواس العادية ، وثانيهما الجلاء السمعى أى القدرة على إدارك التأثيرات الصوتية مما يخالف العرف دون تقيد بالزمان او المكان ويفسرون نزول الوحي على الرسل بأنه قد تعتريهم - كوسطاء روحيين من الدرجة الأولى - غيبوبة تصحبها تغييرات فسيولوجية كتيبس الجسم مثلا ، نغادر خلالها الروح الجسد مع بقائها متصلة ، به بحبل اثيري ، وفي الوقت نفسه تكون روح اخرى
قد هيمنت على الجسد فتنطقه الإعجاز المبين . ويقول المؤرخون الإسلاميون إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي مضي في شبه غيبوبة وانتابته رعدة وتيبست منه الاطراف ، وفي خلال نوبات الغيبوية هذه أنطقه الله بالقرآن الكريم الذي هو الإعجاز بعينه والذي لو حاول الإنس والجن مجتمعين ان يأتوا بمثله لعجزوا وارتدوا خاسرين . والذي يقرأ القرآن يدرك دون إجهاد ذهن أنه فوق طاقة البشر وأنه لا يمكن إلا أن يكون تنزيل العزيز الحكيم على لسان نبيه الكريم .
وهم يدللون على إمكان وجود الغيبوبة الوساطية بأمثلة كثيرة لا حد لها أن الوسيطة الشهيرة مرجري عقيلة الدكتور كلاندون أستاذ الجراحة بجامعة هارفارد كتبت وهي واقعة في هذه الغيبوبة تسعة موضوعات مختلفة بتسع لغات مختلفة ، من بينها اللغة الصينية التي لا تعرف منها حرفا . ويذكر الدكتور كلاندون أن زوجته ، وهي وسيطته ، تكلمت في إحدي الجلسات بست لغات مختلفة مع أنها لا تعرف غير اللغتين الإنجليزية والسويدية . وكل هذه الأمثلة تدل على استحواذ شخصيات غير منظورة على هؤلاء الوسطاء تنطقهم بما لا يعلمون في حياتهم الجسدية . وهم يعتقدون أن النوم طرح للروح وأن الأحلام سياحات بالروح . فالروح تغادر الجسد خلال النوم وتمضي في سياحتها فتجوب في عالم المادة وعالم الروح وينعدم لديها الزمان والمكان بالمعنى المفهوم لدينا ، وتبقى متصلة بالجسد المادي بحبل أثيري يستطيل وينكمش وينشئ وينفذ من الجدران . وأن انسحاب الروح من الجسم خلال ساعات النوم يهي لها الحصول على تقوية وتغذية روحيتين خلال استيطانها المؤقت في عالم الروح . والغريب أن هذا ينطبق مع قوله تعالى في كتابه العزيز : " الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمي أي أن النوم
طرح روحي مؤقت والموت طرح روحي مستديم ، كما يقول أصدقاؤنا الروحيون . والغريب أنهم يدللون علي صحة هذا بصور فوتوغرافية مأخوذة بالأشعة تحت الحمراء تبين بجلاء ووضوح انسلاخ الروح من الجسد في حالات الغيبوية وهناك اشخاص عندهم ميزة الجلاء البصري - أي رؤية ما وراء الحجب - تمكنهم من رؤية أرواح الموتى وأرواح الأحياء ، المطروحة .
والطرح الروحي في عرفهم نوعان : إجباري ، وهذا يمارسه الناس كلهم عند النوم ، واختياري وهذا لا يقوم به إلا الموهوبون . ويقولون إن هذه الموهبة تولد مع الشخص ولا توجد إلا في أشخاص معينين قد يعثر عليهم بطريق المصادفة ، وهم لا يعلمون أن الله قد أغدق عليهم نعمة الاتصال بالعالم الآخر وقد تتجسد الروح بعد طرحها فتشعر أهل المكان الذي وصلت إليه بوجودها فيرونها أحيانا ويسمعونها تتكلم . وأحيانا يحسون بها وهي تلمس أجسامهم أو يرونها وهي تكتب أمامهم كتابة تبقي ظاهرة بعد انصرافها ، أى أن هناك جسدا جديدا ثانيا مؤقتا له نفس ميزات الجسد القديم من حيث الشكل والتكوين يمكن الشخص العادي من رؤية الروح بعد طرحها وروي أن سيركارن راش رؤي في مجلس النواب البريطاني بينما كان طريح الفراش في داره ، وأن سير جلبرت باركر وسير أرثر هيتر قد رأياه بوجهه الشاحب وجسمه الذي أمضه المرض ثم اختفي فجأة . ويروي بأترزني أن الدكتور مارك ما كدونيل قد ظهر في المجلس بينما كان مريضا طريح الفراش في داره ، وقد رآه زملاؤه أعضاء المجلس في يومين متتاليين وهو يعطي صوته .
والطريف في هؤلاء السادة أنهم لا يعترفون بوجود كلمة مات ومشتقاتها في قاموسهم ، فيقولون إن فلانا انتقل passed on ، وإذا اضطرتهم الحاجة إلى ذكر كلمة الموت وضعوها بين قوسين ، وكلمها كلمة اجنبية أو عامية دخيلة على معجمهم . وهم لا يحزنون لموت احد بل يغبطونه لانتقاله
إلي عالم سوف يجد فيه مجالا واسعا لتحقيق الرسالة التي خلق من أجلها كنت أقرأ أخيرا مجلة إنجليزية وردت من الخارج ، فاسترعي نظري عنوان ضخم عن ( انتقال ) المستر وبليام ياريش الطبيب الروحي المشهور الذي يقولون إنه عالج أربعمائة ألف حالة مستعصية دون سلاح أو دواء ذكر كاتب المقال أن وسيطتين معروفتين وهما إستل روبرتس وكاثلين باركل - بما حياهما الله من قدرة الجلاء البصري - شاهدنا روحه أثناء صلاة الجناز التي كان يقوم بها موريس باربانيل . وكانت الروح جالسة على كرسي بالقرب من النعش المغطي بالأزهار . وكان ( الميت ) - ولنضع الكلمة بين قوسين حتى لا يحتج علينا إخواننا الروحيون - يبدو سعيدا مرحا ، بنظر إلي جثته من آن لآخر ، حتى إذا ما حان ميعاد حرقها وذر رمادها في حديقة داره حسب وصيته ، انسحب وهو يبتسم ولوح بيديه ، مودعا جسده المادي . وكان مظهر زوجته أثناء الجنازة وحرق الجثة داعيا إلي الدهش والإعجاب . فلم تكن هناك دموع أو ملابس سوداء أو حزن أو شجن ، بل ابتسام ومرح وملابس زاهية ازدهرت بأحلي ورود الربيع . وكانت تبسم في وجه كل من يحدثها وكأنها في حفلة عرس ، وكتبت على البطاقة الملصقة بباقة الزهور التي وضعتها على نعشه : " عيد ميلاد سعيد في بيتك الجديد . أزهار على طول الطريق " وطلبت من عازف الأرغن أن يعزف القطع التي أحبها زوجها .
وعندما عادت إلي المزل مع اصدقائها مدت لهم موائد الشاي كالعادة وصبت الشاي في فناجينهم وأخذت في تسلية ضابط لم يتمكن من ضبط عواطفه فانهارت الدموع من عينبه ، قربتت على كتفه مشجعة طالبة منه ان يكون مرحا كباقي المدعوين ، لأن ما حدث اثناء النهار مدعاة للفرح والإنشراح لا للحزن والانقباض .
والله إن هذا لهو الإيمان بعينه مهما كان الدافع إليه . ألسنا في طريق الفناء سائرين مهما طال بنا المقام في هذا العالم ؟ وما الذي يدفعنا إلى الغرور والاعتقاد ان عالمنا هو
الأول والأخير ؟ قد تكون هناك كواكب أخري يتضاءل بجانبها شأن عالمنا الذي قد لا يزيد عن كونه حقل تجارب يهيء لمرحلة أخري أكثر جمالا وكمالا في عالم يسع آلاف الملايين من الأرواح التي صعدت إليه منذ بدء الخليفة حتى يومنا وحتى يوم تبعثون . ألم يأتك نبأ الاسطورة الخرافية التي لا يخلو من طرافة وعظة . قيل إن روحا نزلت إلي الأرض لتري ما حل بأهلها منذ ان تركتهم فوجدت ما لايسرها ، فصعدت ثانية تشكو إلى شخصية سمتها الاسطورة " حكمدار العالم " فلما رأي الروح سألها عما تريد فقالت :
إنى نزلت إلي الأرض حيث كان موطني قبل انتقالي واريد أن أبث لك شكواي مما رأيت فهل انت مستمع إلي ؟ . فتأمل فيها مليا وقال بعد تفكير طويل تتحدثين عن شئ اسمه الأرض . . دعيني اتذكر . . الأرض ؟ اسمحي لي بمهلة أرجع فيها إلى خرائطي لأتحسس موقع هذا
الكوكب الذي غاب عني موقعه ثم غاب عنها مدة ساعتين رجع بعدهما يقول : اف لك ! لماذا لم تقولي إنك تقصدين تلك الرقعة المظلمة التي تتطفل على الشمس لتضيها في النهار ، وعلى القمر ليهتدي أهلوها اثناء ، الليل وعلي السحب تروي أرضها لتخرج منها أرزاقهم . اذهبي عن وجهي واحمدي ربك ، انك انتقلت من هذه الرقعة الدنسة المظلمة المجهولة إلى عالم النور والفضيلة الذي تنعمين فيه الآن ، تنتقلين من كوكب لآخر وانت آمنة مطمئنة ، والويل لك إذا أرعجتني مرة اخري بترهات عالمك الأرضي . .
بعد هذه المقدمة المرحة الطريفة دعني انتقل بك إلي كتاب هائن سوافر الذي افتتحت به مقالي لاحدثك عما أعجبني فيه وأطربني ( للحديث بقية )
