طالعتنا النهضة الجديدة بخمس كلمات , لو أنعمنا النظر فيها وعرفنا دلالتها ومغزاها , ثم رجعنا إلى تاريخ المجتمعات البشرية , وتتبعنا العوامل التي هيأت لها القوة فى أطوار قوتها , والعوامل الأخرى التي أنزلت بها الضعف فى أطوار ضعفها - لوجدنا هذه الكلمات تعبيرا صادقا عن عوامل الضعف التى يجب أن تكافح , وأن تقصى عن محيط الحياة الجماعية للإنسان , ولوجدناها فى الوقت نفسه تعبيرا صادقا كذلك عن العوامل التى يجب أن تتخذ أساسا لبناء المجتمع عليها . تلكم الكلمات هي :
التحرير, والتطهير, والاتحاد, والنظام, والعمل كلمات خمس , نطقت بها طبيعة إنسانية بريئة, صيغت على الإيمان بالله واستشعار عظمته, وتفرده بالملك والسلطان, فلم يمسها دنس الطغيان, ولا خبث الرجس, ولا عصبية التفرق, ولا عبث الفوضى, ولا ترف العجز والكسل . وكان منها العلاج القوي من جراثيم المرض الذى يقعد بالمجتمعات عن مواصلة السير فى سبيل الحياة الجادة النافعة , وكان منها مزيج القوة التى تدفع بالمجتمعات إلى بلوغ أقصى درج الكمال الممكن للإنسان فى هذه الحياة
وهي بعد هذا وذاك تصور بمعناها ووحيها المبادئ الإلهية التي جاء بها الإسلام ليعتمد الإنسان عليها في الوصول إلى الأهداف السامية النبيلة, ويحقق بها حكمة استخلافه فى الأرض, فالإسلام يدعو إلى تحرير العقل من أسر الوهم والتقليد, ويدفع بالإنسان إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء, ليتعرف أسرار الله في خلقه, ونواميسه في كونه, ويتخذ منها وسائل العمران
والتقدم . وهو المعبر عن خصائص ما خلق الله, يقرر أن للإنسان إرادة مستقلة , هى أساس مسئوليته, ومرجع محاسبته, وبها تتحقق إنسانيته, وبها يكون جزاؤه, ويعلن أن على الإنسان أن يحتفظ بتلك الإرادة احتفاظه بإنسانيته, وأن على الجماعة البشرية أن تمكنه من الاحتفاظ بها والرجوع إليها, وبذلك لا يقبل الإسلام من الإنسان وقد كرمه الله هكذا بالعقل والإرادة أن يطفئ مصباح الكون على عقله, ولا أن يسلم عقله لعقل غيره, ولا أن يذيب إرادته فى إرادة غيره, ولا أن يجعل نفسه ظلا لغيره : يسكن إذا سكن, ويتحرك إذا تحرك, وينحرف إذا انحرف, ويستقيم إذا استقام, ويؤمن إذا آمن , ويكفر إذا كفر, وأخيرا يحيا إذا حي, ويموت إذا مات
وفى سبيل هذا كله فتح الله للإنسان كتاب كونه, وأرشده إلى أبواب ثمانية فى آية واحدة من كتاب وحيه, ثم ذيلها بما يوجه أرباب العقول إلى ولوجها واستثمار ما يصلون إليه منها فى قوة الإيمان, وتقدم الحياة . واقرأ في ذلك قوله تعالى: "وإلهكم إله واحد, لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار, والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس, وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها , وبث فيها من كل دابة, وتصريف الرياح, والسحاب المسخر بين السماء والأرض, لآيات لقوم يعقلون". ثم اقرأ قوله تعالى فى تحرير العقل ونعيه الشديد على من أهمل عقله, وحرم نفسه نعمة النظر والتفكير " أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء؟" وقوله " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يفقهون بها, ولهم أعين لا يبصرون بها, ولهم آذان لايسمعون بها . أولئك كالأنعام، بل هم أضل, أولئك هم الغافلون" وقوله " وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال
مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة, وإنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون, فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين"
ثم انظر قوله تعالى فى تحرير الإرادة واحترامها "وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا" وقوله حكاية عن موقف الأتباع من المتبوعين بعد أن أسلموا إليهم إرادتهم وحريتهم , وعاينوا مسئوليتهم وحسابهم على ذلك "ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ضعفا من العذاب, قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون" "وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار "
بتحرير الإسلام عقل الإنسان وإرادته هكذا, كافح أن يستعبد الإنسان الإنسان, فمنع أن يسترقه بالبيع والشراء, وقصر ذلك على أن يكون جزاء لمن حارب دعوة الله ووقف في سبيلها, وقاتل المؤمنين بها, لا شيء سوى أنهم آمنوا بها, ومع ذلك فقد حبب فى فك رقابهم وكفر به كثيرا من الأخطاء الدينية, وجعل فك الرقبة, العقبة التى إذا ما اقتحمها الإنسان كان من أصحاب الميمنة "فلا اقتحم العقبة, وما أدراك ما العقبة, فك رقبة, أو إطعام فى يوم ذي مسبغة, يتيما ذا مقربة, أو مسكينا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, أولئك أصحاب الميمنة"
ومنع أن يسخر الإنسان الإنسان بالعمل والخدمة , وأن يتخذه آلة فى سبيل شهوته وهواه , وجعل قيام الناس بالقسط , وتمكين كل ذي حق من حقه - فردا كان أم جماعة - الهدف الذي جاءت به الرسل , ونزلت لأجله الكتب " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط "
وإذا كملت للإنسان حريته فى عقله وإرادته, واستقام له أن يفكر وأن يريد, وارتفعت عنه يد الضغط والتسخير، وجب عليه أن يخطو الخطوة الثانية, فيطهر نفسه من الأخلاق الرديئة التى تنزل بإنسانيته عن المستوى الذى كرمها الله به, والتى تفسد عليه وجوه الانتفاع بحريته؛ فلا يحقد, ولا ينافق, ولا يجبن, ولا يبخل, ولا يشي, ولا يكذب, ولا يخون, ولايرجف
وعنصر التطهير الخلقي كان من أوائل ما وضع في مهمة الرسالة المحمدية " قم فأنذر, وربك فكبر, وثيابك فطهر, والرجز فاهجر, ولا تمنن تستكثر, ولربك فاصبر"
وقد بينت الرسالة عليه جميع أحكامها حتى حرمت به الغش، والاستغلال، والتغرير في المبادلات المالية
وإذا كملت للإنسان حريته, وطهرت نفسه كما أمر الله, صار لبنة صالحة لبناء مجتمع فاضل, منه ومن أمثاله الذين كملت حرياتهم وطهرت نفوسهم, وبتساند تلك اللبنات الصالحة, وتعانقها, تصير الجماعة قوة واحدة, لها شعارها, ولها هدفها, يؤثر الفرد فيها حاجتها عن حاجته, وترى هى أن حاجة الفرد من حاجتها, وذلكم هو الاتحاد المجمع للقوى, المحقق للتعاون, وقد طلبه الإسلام فى الجماعات كلها, صغيرة كانت أم كبيرة : طلبه من أبناء الأسرة الواحدة "وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله" وطلبه من أبناء الدين الواحد "إنما المؤمنون إخوة . والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض". وطلبه من أبناء الوطن الواحد" ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيها معايش, قليلا ما تشكرون" امتن على الجماعات الإنسانية بأن مكن كل جماعة منها فى أرضها وإقليمها, وبأن وهبهم فيها موارد العيش والرزق والحياة, وأوحي إليهم بالمحافظة عليها, واستثمارها, والانتفاع بها، شكرا على تلك النعمة : فمن الكفر بها أن تتخاذل الجماعة عن الدفاع عنها؛ واستخراج كنوزها
ثم طلب الاتحاد بعد ذلك من أبناء الإنسانية جميعا، وفى سبيله ناداهم بوصف الإنسانية العام، وأعلنهم بوحدة الأصل الذي يجمعهم فى رحم عامة واحدة "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها, وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"
هكذا طلب الإسلام "الاتحاد" وجعل لكل جماعة من هذه الجماعات حقوقا خاصة تساهم فيها أفرادها, وتتعاون عليها, دون ان تطغى حقوق على حقوق, وهذا هو دين الله ونظامه الذى أمر الناس أن يتمسكوا به, ويستظلوا بظله, وحذرهم أن يتفرقوا فيه "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شيء" " وتعاونوا على البر والتقوى , ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "
وبهذا قضى الإسلام فيما بين الناس على نوازع العصبية : الجنسية , والإقليمية , والحزبية , والأسرية . وجعل من بنى الإنسان وحدة عامة شاملة , تعمل لغاية واحدة , هى : عمارة الكون على نحو يملؤه بالأمن والاستقرار , ويكون مظهرا لرحمة الله بعباده
وإذا اتحدت القلوب هكذا , وتبادلت الشعور بالحاجة , لزم لاستثمار هذا الاتحاد فى الوصول إلى الأهداف , تنظيم القوى , وسبيله توجيه كل قوة إلى العمل فيما تحسن وتجيد ؟ فقوى العلم للعلم , وقوى التجارة للتجارة , وقوى الزراعة للزراعة , وقوى الصناعة للصناعة , وبذلك تسند الشؤون إلى أربابها , ولا يطغي ذو شأن على ذي شان , فتضطرب القوى وتصطدم الرغبات , وتصاب الجماعة بالكساد وشلل الإنتاج . وذلكم هو " النظام " الذى بنى الله عليه كونه , وجعل لكل عنصر من عناصره فى أرضه وسمائه عمله الخاص , وإنتاجه الخاص , تم لفت إليه نظر الإنسان ليتخذ منه المثال الذى يحتذيه فى حياته .
وانظر نظام الله فى كونه : للشمس الضياء , وللقمر النور , وللسحاب المطر , ثم للوحى ملك , وللموت ملك , وللجبال ملك , وللنفخ فى الصور ملك , وللأرض الزرع والسكن، وللماء فى الأنهار والبحار الري والسقي , وللإنسان فى الأرض السعي والعمل , وللجهاد والحيوان التسخير. "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون , والشمس تجري لمستقر لها , ذلك تقدير العزيز العليم , والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم , لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر , ولاالليل سابق النهار , وكل فى فلك يسبحون "
"سبح اسم ربك الأعلى , الذي خلق فسوى , والذى قدر فهدى" . وما التقدير وما القدر فى هذا وأمثاله إلا نظام الله الذى سوى عليه العالم وجعله يسير بمقتضاه
هذا نظام الله فى كونه . أما نظامه فى شرعه , فتراه فى كل شىء شرعه , حتى فى العبادة وصور التقرب إليه . فللصلاة في وقتها وأدائها نظام . وللصوم في وقته وأحكامه نظام , وللحج فى وقته ومناسكه نظام . وللزكاة فى مقدارها وأنواعها نظام
وإذا كمل للأفراد التحرر والتطهر , وكمل للجماعة الاتحاد والنظام , وجب على الجميع خوض غمار العمل , فلا يقعد إنسان والكون من حوله يتحرك , ولا يتمتع إنسان وغيره يكد ويعمل , فبالعمل تضع الأمة على مفرقها تاج العزة والسيادة , وتصير فى أمن من الذل والاستعباد
والإسلام لا يعرف سبيلا للعزة والسيادة بعد التحرير والتطهير , والاتحاد والنظام , سوى العمل . وقد طالب به كل قادر عليه وجعله أحد عنصرين بهما الحياة , وبهما كمال السعادة , وهما وصية الله لعباده , وهما سبيل السلامة من الخسران , وسبيل الخير والفلاح , هما : الإيمان والعمل , والإيمان هو القوة التي يجعل من نفس الإنسان وقلبه الحفيظ على هذه المبادئ , فى سره ونجواه , وهو القوة التي
ترهب بها عين الرقيب الذى لا يسهد ولا ينام " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم , ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة , إن الله بكل شيء عليم " أما بعد
فهذه هي مبادئ النهضة لمن يريد أن يفهم النهضة ؛ وهي مبادئ الإسلام لمن يريد أن يدين بالإسلام , فابنوا حياتكم عليها , واتخذوا " الإيمان بالله وشرعه " جنتها , يحفظها الله لكم ويرعاها , ويمكن لكم فى الأرض , ويجعلكم أئمة ويجعلكم الوارثين " والعصر إن الإنسان لفي خسر , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "
