الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 824الرجوع إلى "الرسالة"

كلمة أخيرة في نيتشة وفاجنر:

Share

حين قارب نيتشة الثلاثين كان كما قال في كتابيه زرادشت - وما  وراء الخير والشر - قد مر بالمراحل التي مرت بها الإنسانية  في تفكيرها، إذ كان قد عب بشراهة ونهم شديدين من الفنون  والفلسفات قديمها وحديثها. وكان الفيلسوف في السن التي اتصل فيها  بفاجنر أستاذاً في أرقى الجامعات الأوربية؛ فهو في صلته بالفنان رجل  له مكانته الفكرية ومركزه الاجتماعي، لا شاب ناشئ كما يريد أن  يصوره الأستاذ المعداوي منساقاً مع قول رومان رولان المتعصب  لبيتهوفن كل التعصب حيث مجده في كتاب سماه بيتهوفن الخالق  - وإن محاضرات الفيلسوف    (الناشئ)  ودراساته في تلك السن لا زالت أهم المراجع فيما عالجته  من موضوعات - وقد كانت الفلسفة الإغريقية وعلى الأخص  أفلاطون أهم الينابيع التي استقى منها نيتشة، إذ يصور نفسه في إحدى  رسائله٣ إلى فاجنر في ذلك الحين جالساً بين عدد من كتب هذا  الفيلسوف يكاد يحجبه عن الرائي - ولا أظنه بهذا يتملق الفنان  أو يدّعي - أما في الفلسفة الحديثة قد تتلمذ على شوبنهاور حتى  رفعه إلى الدرجة العليا التي رفع إليها فاجنر في عالم الفن.   (انظر  كتابيه - شوبنهاور المعلم - والفاجنرية الكاملة)  وكان قد  أستوعب أيضاً فلسفة ماركس وله عنها تنبؤات صدقت بشكل  يدعو إلى الدهشة - إذ أن نيتشة هو الذي تنبأ في كتابه ما  وراء الخير والشر لفلسفة ماركس بالذيوع، وعين بالذات الدولة  التي ستحمل مشعلها وهي روسيا في وقت كان لا يتصور هذا  أحد؛ لأن روسيا كانت ترزح تحت حكم القياصرة الحديدي -  وقد صح ما تنبأ به نيتشة فاحتضنت روسيا الماركسية الألمانية  وحملت مشعلها - وقد كان هذا العصر الذي ضم فاجنر وشوبنهاور  ونيتشة يموج بأحداث جسام. فقد حدث أن اهتزت أوربا كلها  لموجة فكرية عنيفة كان لها ما للقنبلة الذرية في عصرنا من وقع،

بل ربما أكثر، فهذه جاءت في عصر ألف فيه الناس  العجائب وكانت القنبلة منتظرة منذ سنوات.

أما ذلك الحدث الخطير فقد كان مفاجأة عنيفة. . .  وذلك هو نظرية التطور لداروين ١٨٥٩ التي زلزلت الأفكار  في أوروبا بل العالم طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولما  أوشك نيتشة أن يكمل الحلقة الرابعة من عمره كانت نفسه تجيش أعظم  جيشان عرفته نفس مفكر. . . إن نفسه التي امتلأت بفلسفة الإرادة  عند شوبتها وعالم المُثل عند أفلاطون وألهبتها روائع موسيقى  فاجنر أخذت تنتفض انتفاضاً شديداً. . . إنها تتمحض عن مولد  فجر جديد قد يغير مجرى التفكير الإنساني كله! وظل فكره في هذا  الميلاد قرابة عقده الخامس. لقد بدأ داروين حبل الخليقة من الخلية  إلى الإنسان فجاء نيتشة   (حين أحس بأنه امتلأ كالنحلة التي ملّت  حمل عسلها)  وتهيأ للرسالة، فمد يده وتناول الحبل من داروين  ليعبر به قنطرة الإنسان الحالي إلى السوبرمان. . . ومن هو السوبرمان؟!  إنه الهدف الذي تسعى إليه البشرية في تطورها. . .   (وكما صار الفرد  بالنسبة إلى الإنسان فسيصير الإنسان بالنسبة إلى سوبرمان. . .) !

وهكذا خرج زرادشت نبي نيتشة بإنجيل دينه الجديد. دين  السوبرمان الذي لا بد أن تصل إليه البشرية   (في زعمه)  محطمة في  طريقها كل شيء يعوق هذا المسير فوجب إذن أن نتسلح بالقوة  والعنف - وهكذا تطورت فلسفة الإرادة عند شوبنهاور إلى إرادة  القوة عند نيتشة وسقط شوبنهاور المتشائم أمام سوبرمان نيتشة المتفائل  وتحطم إ له المسيحية الشفوق الحنون بما فيه من مشابه من أفلاطون    (ليست المسيحية إلا الفلسفة الأفلاطونية ختمت بخاتم إلهي)  ٤  لأن الشفقة والحنان أخطر العوائق في طريق السوبرمان. . . وأصبحت  موسيقى فاجنر التي كانت تحلق بنيتشة في سماء الفكر لا تستطيع  اللحاق به في آفاق السوبرمان.

وهكذا هوت الآلهة من سمائها في نظر نيتشة تلك الآلهة التي  طالما قرب إليها قرابين العبادة وتسابيح العبودية. . ومن أفلاطون  الآن؟ ومن شوبنهاور؟ ومن فاجنر؟ بل من هو الشعب الألماني كله  الذي رماه نيتشة بأقسى النعوت؟ كل هذا لا شيء ما دام لا يؤمن  بالسوبرمان. . . وهل للقرود   (الإنسان الحالي)  قيمة في نظر السوبرمان؟  هذه قصة تحطيم نيتشة لآلهته الأولى. . . قد يكون هناك بعض

الأسباب التي عجلت بعضها قبل الآخر كزوجة فاجنر مثلا إن  كان حقاَ لها كل هذا الأثر، ولكن التحطيم كان آتياً لا محالة.  فهذا هو حكم التطور في عقلية الفيلسوف الذي بينا خطوطه البارزة  بقدر ما تطيقه عجالة في مقالة. . .

ويؤسفني بعد هذا أن أناقش الأستاذ المعداوي في التوافه  التي وقف عندها كل الوقف وركز فيها هجومه. . . ليس  لكلمة في الإنكليزية كلها إلا هذه المعاني: ' '

Birth' Creation' beginning

ولادة - خلق - سفر التكوين - لا الإخراج -   (أي خلق العالم)   فكيف يصدق أي عقل ترجمتها بلفظ إخراج؟! أما الجملة الأخرى  فمنصبة على خلق الكتاب   (مولد التراجيديا)   أي على القائم بخلقه وكلا الوضعين يؤيد ترجمتي. أما تملق الفيلسوف  الشاب للفنان الكبير ليأخذ بيده في طريق المجد، فهذه وصمة  لا تليق بالأستاذ المعداوي، فكيف تليق بنيتشة العظيم؟!

تقول (إن العبقري يولد وبذور العبقرية في دمه؟ كيف تعتقد أني  لا أقرر هذا؟ لكن هذه البذور ألا تحتاج إلى هواء وإلى شمس وتربة تمد فيها  جذورها؟! إنها بغير هذا تظل بلا شك بذرة عبقرية لا عبقرية. .  والشمس والماء والهواء لا تحيل البذرة يا سيد   (سروحي)  إلى شمس أو  إلى ماء أو إلى هواء، وإنما هي عوامل مساعدة على التفتيق والإنبات  وهكذا كل تأثير في العبقرية يا صديقي. ونقول:   (ما كان لهذا  المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان  مهما تكن مكانته في الحياة الفنية) . إن هذه الحياة الفنية هنا شأنها  شأن أي حياة. ليس العبرة بنوع التأثير بل بوقوعه على أي وجه.  ثم أنك تقول إن زارا قال لرفاقه وأنصاره ماذا يهم زارا من جميع  المؤمنين به؛ إذ عليكم أن تجحدوني لتجدوا أنفسكم. . . والصواب  أن تقول هذا للأستاذ المعداوي الذي ينكر أي إيمان سابق  لنيتشة بفاجنر ما دام قد جحده أخيراً، ويرى ذلك كان تملقاً  متحدياً كل حقيقة! مع أن نيتشة ظل يمجده فاجنر حتى أواخر  عقده الرابع.

أما سؤلك عن تأثير بتهوفن في جوته يا أستاذ معداوي فهو  مثل معكوس لأن جوته الفيلسوف كان يكبر بتهوفن بمراحل،  بينما نيتشة كان مع فاجنر فتي ناشئاً يخطو أولى خطواته كما تقول.  ومع هذا لا نستطيع أن نحكم بعدم تأثير موسيقى بتهوفن في تفتيق

عبقرية جوتة عن بعض المعاني. ونيتشة بالذات ذو سليقة موسيقية  لأنه شاعر لا ناقد - يا أستاذ معداوي - إذ هو القائل:   (إن  كتابي زرادشت أنغام موسيقية صدحت في داخلي فأصغيتُ  إليها وسجلتها) !

أما استشهادك بالناسخ والمنسوخ في القرآن فإننا نقول  بوقوع التأثير في عبقرية نيتشة والتأثير وقع أيضاً في فترة ما بفضل  الآيات المنسوخة قبل نسخها، فمثلا في آيات الخمر قد شرب الخمر بعض  الصحابة فعلا بمقتضى إباحة الآيات المنسوخة قبل وقوع النسخ  وهذا ما يؤيد لقولنا أيضاً. . . أما كلمة خلق العبقرية التي ذكرتها فلا  محل لها مطلقاً في المناقشة؛ وشتان بين الخلق والتفتيق! يا أيها  الأستاذ الناقد!

أما ما جاء في مقالك من لغو فنمر عليه كراماً. . .

اشترك في نشرتنا البريدية