ألمع ابن خلدون في مقدمته الشاملة إلى اقتراح السكان أواخر الكلمات تخلصاً من حركات الإعراب فقال: (ولعلنا لو اعتلينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد - عهد ابن خلدون - واستقرينا أحكامه نعتاض من الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى) . وقال أيضاً: (ولم يفقد منها - أي من لغة مصر مقارنة بلغة
عهد ابن خلدون - إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن) . ومن الملاحظ أنه لم يشرح شيئاً من (الأمور الأخرى) في قوله الأول ولا شيئاً من (القرائن) في قوله الثاني بحيث لا يمكننا أن نستنبط منهما وسيلة تنفيذية إلا التقديم والتأخير أي تقديم الفاعل وتأخير المفعول مثلا للتمييز بينهما وأظن أنها وسيلة غير كافية لأن اللغة ليست قاصرة على حالتي الفاعلية والمفعولية وليست قاصرة على حركتي ا لرفع والنصب وليس حتما أن تشتمل الجملة على اسمين اثنين لا غير مع هذا لا يزال ينادي بهذا الاقتراح الظريف باحثون معاصرون يرون في اللغات الأوربية المسكنة الأواخر برهاناً تطبيقياً نافذاً.
والذي يخيل إلي أنهم لم يبحثوا الموضوع على الأقل من الناحية الشكلية التي يبدو فيها خلاف كبير بين اللغة العربية واللغات الأوربية يستعصي معه إتباع هذا الاقتراح.
فأولا: صب اللفظ العربي يحتاج إلى ضبط كامل لا يفيد معه إسكان الآخر لأنه يتكون من حروف ظاهرة في الكتابة وحروف أخرى تظهر في النطق. ولا زلت أذكر قصة لأحد الظرفاء إذ شاهد مع بعض ضيوفه من الريف حيواناً عجيباً في حديقة الحيوان فسألوه ما هذا؟ فحار في قراءة كلمة (الببر) على قفصه لا لجهله بحركة آخرها طبعاً بل لجهله بحركات سائر الحروف.
فأولا: صب اللفظ العربي يحتاج إلى ضبط كامل لا يفيد معه إسكان الآخر لأنه يتكون من حروف ظاهرة في الكتابة وحروف أخرى تظهر في النطق. ولا زلت أذكر قصة لأحد الظرفاء إذ شاهد مع بعض ضيوفه من الريف حيواناً عجيباً في حديقة الحيوان فسألوه ما هذا؟ فحار في قراءة كلمة (الببر) على قفصه لا لجهله بحركة آخرها طبعاً بل لجهله بحركات سائر الحروف.
وثالثاً: حركة الآخر ليست خاضعة لاتصال اللفظ بغيره اتصالا مباشراً فحسب بل أيضاً تخضع للاتصال غير المباشر بالألفاظ المجاورة. فإسكان الأواخر يكثر من (التقاء الساكنين) أو تعذر النطق لتعاقب حركتين. . فإذا تعمدنا الوقوف عند كل كلمة قطعنا في المنطق تقطيعاً مضحكاً مرهقاً وإذا استرسلنا بغير ضوابط خرجنا على القاعدة خروجاً همجياً، وإذا اعتمدنا على
التقديم والتأخير أخفقنا في الجمل المتشابهة الكلمات والجمل التي تتكرر فيها كلمات معينة.
ورابعاً: كثير من الألفاظ ساكن ما قبل الآخر. فإسكان الآخر أيضاً ثقيل جداً. وهو بالغ الثقل عندما نصل مثل هذه الألفاظ بألفاظ ساكنة الأول أو طيعة الأول على الأصح.
وخامساً: بعض الألفاظ مبني على حركة تدل دون غيرها على معنى خاص. مثل: أنتَ - أنتِ فإسكان (أنت) يحرمنا من فهم المعنى إلا بالسياق والإطناب حيث يغني الإيجاز..
إلى غير ذلك من الأحوال الخاصة بطبيعة لغتنا وحدها. والعجيب أن اللغات التي تلائم طبيعتها قاعدة إسكان الآخر قد تجنح إلى أدوات شاذة لتعذر اطرادها. مثل إقحام حروف غريبة لا تمت إلى الأصول والأصلاب بصلة ما كالحرف في - أي: (هل هناك. . .؟) والجواب: بلا وجود للحرف الذي وجد لتحاشي التعقيد بالتخلص من تعاقب ولا أعرف لذلك ضريباً إلا في لغة بعض قبائل النوبيين فهم يقولون مثلا: (إتِّرْكِ اكِّرِى) (إتر: طعام - اكرى: هات - الكاف: زائدة لهذا الغرض. وللنوبيين عذرهم في لغة لا تكتب ولا تطرد لها قواعد مدونة.
وعلى العموم فإن إسكان الآخر عامل من عوامل إضعاف اللغات. حتى الأوربية بدليل الاختلاف بين سماعها وقراءتها إلى حد ما. فمعظم حروف الآخر فيها صامتة مثل: - beanx pere ذلك مستقبلا إلى ضمورها كما أدى تمهيدياً إلى انقطاع الصلة بين المكتوب والمنطوق. لذلك يلتزم بعض الفقهاء في فن القراءات ضرورة الاتكاء على الحرف الأخير في حالة السكون بالقلقلة والغن والتنوين حتى لا يعتريه ضمور أو إبهام أو إضغام.
وهب أننا سنهتدي إلى قواعد للغة المقترحة فلابد من بذل مجهود ضخم في تعليم العامي أن كلمة (مستأبل) خطأ وأن الصوابها (مستقبل) بإسكان الآخر وأنها تقدم في حالة الرفع وتؤخر في النصب. بمثل هذا المجهود تقريباً يمكن تعليمه أن الصواب (مستقبلٌ) ، (مستقبلا) .والفرق بين المجهودين بسيط لأن القواعد التي تسري على كلمة واحدة تسري على أشباهها جميعاً. وليس الإعراب بهذه الوعورة التي تنتهي بنا إلى القنوط. والذين لا تحتمل عقولهم بعض القيود المادية كالإعراب لا يرجى أن تحتمل آراء وعلوماً وفنوناً.

