الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 926الرجوع إلى "الرسالة"

كوريا

Share

قبلة الطامعين وموطن الصراع بين المتنازعين ومقبرة المحاربين  من كلا الفريقين. معركة بدأت ولكن لا تبدو لها نهاية. كلما  آذنت شمسها بالأفول عادت إلى التجدد والاشتعال، وكلما صرع  قوم من البشر جئ بآخرين فأكلتهم المدافع ولم تبق منهم  ولم تذر !!

هنا فى كوريا التقى الدب الروسى بالحمل التركي. لقد كان  الدب شديد الهجوم على الحمل فى القرن التاسع عشر وأوائل  القرن العشرين وكان الناس ما يكادون ينتهون من سماع أنباء حرب بين  الدب والحمل إلا عادوا إلى قصة أخرى وغارة أخرى فكان  النزاع والصراع دائمين يتجددان فى كل لحظة ويبدآن بين فترة  وفترة. ثم خفت النزاع وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى  وعاد الشوق إلى الدب الروسى فأراد أن يرتشف من دم الحمل  التركى وعز عليه اصطياده فى الشرق الأوسط، ولكن الحمل ألقى  بنفسه بين يدى الدب الروسى فى كوريا فتلقاه الدب فرحا متهللا

وهناك شرب الدب من دم الحمل وارتوى بعد أن طال به الظمأ ! قبلة الطامعين :

ولعلك تسألنى ما قصة هذه الحرب وكيف بدأت ؟ لقد  تنفس الناس الصعداء منذ سنين خمس حين أفلت شمس الحرب  العالمية الثانية وظنوا أنهم سينعمون بالسلام طويلا وبأن الرخاء  سيعود إلى العالم من جديد بعد أن مزقته سيوف الحرب وقنابلها  الذرية. ولكن هذا الحلم الجميل لم يتحقق، فما يدرى الناس  أهم فى حرب أم فى سلم أم أنهم فى هدنة قد تؤدى إلى الحرب،  ذلك أنه للآن لم تعقد معاهدة للصلح كما جرى العرف عقب انتهاء  كل حرب، وزاد الطين بلة أن حلفاء الأمس أصبحوا اليوم  أعداء بعضهم لبعض. فقد وقف الروس بجانب الإنجليز  والأمريكان للقضاء على طاغية القرن العشرين هتلر، فلما فرغوا  من عدوهم تنازعوا أمرهم بينهم وانقسم العالم إلى كتلتين إحداهما  شرقية والأخرى غربية لكل منهم مطامعها وأمانيها، واستيقظ  الناس على دوى المدافع تؤذن بحرب جديدة وكان الميدان كوريا أين تقع :

هنالك فى أقصى شرق القارة الآسيوية تقع الجزائر اليابانية  أو ارض الشمس المشرقة وفى مواجهة هذه الجزائر تقع شبه جزيرة  كوريا وهى مفتاح القارة الآسيوية ولا تستطيع أية حكومة  يابانية أن تطمئن على نفسها إلا إذا كان هذا المفتاح فى يدها أو فى  جيبها فإن من يملك كوريا يهدد اليابان

وفضلا عن هذا الموقع الحربى الهام فإن كوريا تتمتع بثروة  اقتصادية: زراعية ومعدنية عظيمة كانت اليابان فى أشد الحاجة  إليها، فهى تنتج كميات وافرة من الأرز والشعير وفول الصويا  والتبغ والقطن كما تزرع أشجار التوت وتربى الماشية، وثروتها  المعدنية عظيمة ففيها مناجم الذهب والحديد والفحم والجرافيت ومن أجل هذه العوامل مجتمعة تطلعت اليابان إلى الاستيلاء  عليها مما أدى إلى قيام حروب أهمها: الحرب الصينية اليابانية  والحرب الروسية اليابانية .

الحرب الصينية - اليابانية ١٨٩٤ ظلت اليابان دولة متأخرة، حتى إذا كان منتصف القرن التاسع  عشر استيقظت من نومها فزعة على أصوات المدافع الأمريكية

والإنجليزية لترى مدى تأخرها وضعفها، فهبت من رقادها  وقامت تعمل على إدخال المدنية الحديثة فى بلادها ولم تمض سنون  طويلة حتى كانت اليابان دولة متحضرة قوية تقاتل بأسلحة  الغرب وتنافسهم فى ميدانى العلم والصناعة

هنا وجدت اليابان نفسها فى حاجة إلى توسيع تجارتها وإيجاد  أسواق لها ونافست سفنها وتجارتها الأوربيين فى الأصقاع  المجاورة لها؛ بل إن تجارتها لاقت رواجا أكثر من التجارة  الأوربية والأمريكية

على الشاطيء الآسيوى المقابل وجدت كوريا. كانت كوريا  دولة مستقلة وقد سبق أن غزتها اليابان فى القرن السادس عشر  ولكن تمكن الكوريون بمساعدة الصينيين من طرد اليابانيين  واستردت كوريا استقلالها وقد اتفقت الدولتان على تقسيمها إلى  منطقتى نفوذ فظلت موضوع تنافس بين الدولتين

وفى النصف الثانى من القرن التاسع عشر احتلت  التجارة اليابانية فى كوريا مكانة أثارت الحقد فى نفس الصين مما  أدى إلى قيام الحرب بينهما ١٨٩٤. وفى هذه الحرب انتصرت  اليابان لأنها كانت تقاتل بالأسلحة الحديثة بينما كان الصينيون  من أشد أعداء المدينة الحديثة وأدواتها وآلاتها، وطرد الصينيون  من كوريا وانتقل ميدان القتال إلى منشوريا واستولت اليابان  على ميناء بورت آرثر .

استنجدت الصين بالدول ولكن هذه لم تنجدها فاضطرت  الصين إلى عقد معاهدة شيمونسكى وفيها اعترفت الصين باستقلال  كوريا ولكن هذا كان معناه انتقال كوريا إلى اليابان وسلمت  الصين ميناء بورت آرثر وجزيرة فرموزا لليابان .

على أن الدول وخاصة روسيا لم تلبث أن تدخلت لمنع اليابان  من وضع قدمها فى القارة الآسيوية وكانت روسيا تطمع فى  هذه المنطقة فأنذرت اليابان بإخلائها. ولما كانت اليابان قد  أرهقتها الحرب مع الصين. فقد اضطرت إلى قبول مطالب الدول  وأخلت منشوريا وميناء بورت آرثر . 36029

وهكذا انتهت هذه الحرب وحكم على الصين بغرامة مالية تدفعها  لليابان. وقد احتاجت الصين إلى المال للوفاء بدينها فلم تجده إلا  لدى روسيا .

الحرب الروسية اليابانية ١٩٠٤ كان من نتائج مساعدة روسيا للصين أن ارتمت الصين فى  أحضانها وانتهزت الفرصة روسيا فعملت على نشر نفوذها فى  منشوريا وكوريا، ففى ١٨٩٥ أنشئ بنك روسى صينى وسمح  لقيصر روسيا بمد خط حديدى عبر أراضى الصين فى منشوريا  إلى فيلاديفوستك وسمح له أيضا بوضع جنود فى منشوريا لحماية  السكة الحديدية .

وفى ١٨٩٨ استأجرت روسيا ميناء بورت آرثر لمدة ٢٥ سنة  وبدأ الروس يعملون على تحصينه وأنشأوا خطا حديديا إلى  خربين ليتصل بسكة حديد سيبريا وهكذا تحقق حلم روسيا فأصبح  لها على المحيط الهادى ميناء لا تتجمد مياهها شتاء .

استاءت اليابان من احتلال روسيا لمنشوريا وبورت آرثر  وهى مناطق كانت تطمع فيها ثم زاد الطين بلة أن روسيا أخذت  تعمل على نشر نفوذها فى كوريا فاحتجت اليابان . أعلنت الروسيا أكثر من مرة عزمها على إخلاء منشوريا  ولكنها لم تفعل وأعلنت روسيا احترامها لاستقلال كوريا ومع  ذلك بدأت تتعدى عليها .

فى صيف ١٩٠٣ ضاق صدر اليابان فطلبت من روسيا  إيضاح نواياها فى منشوريا وكوريا فلجأت هذه إلى المماطلة  والتسويف فاضطرت اليابان إلى إعلان الحرب فى ٥ فبراير ١٩٠٤

كانت اليابان قد أعدت عدتها وهى قريبة من الميدان فحطم  الأسطول اليابانى الأسطول الروسى فى بورت آرثر وكذلك  هزم الأسطول الروسى فى فلا ديفوستك وأصبحت لليابان  السيطرة البحرية فى الشرق الأقصى . ثم نزل اليابانيون إلى البر وتمكنوا من حصار بورت آرثر  وطاردوا الروس إلى مكدن وفى أول يناير ١٩٠٥ اضطرت بورت

آرثر إلى التسليم .

وأقبل الشتاء فتحمل الروس خسائر فادحة، وفى ٩ مارس  ١٩٠٥ سلمت مكدن وخسرت روسيا ٤٠ ألف قتيل و١٠٠  ألف جريح .

وقد أبدى اليابانيون فى هذه الحرب بسالة نادرة ودقة فى  النظام كانت مضرب الأمثال وأثارت إعجاب العالم عامة  والشرقيين خاصة لأنهم كانوا يرون فى انتصار اليابان انتصارا

لهم. وقد خلد شاعر النيل هذه الحرب فى قصيدته التى مطلعها :

أساحة للحرب أم محشر ؟ ... ومورد الموت أم الكوثر ؟

وهذه جند أطاعوا هوى ... أربابهم أم نعم تنحر ؟

قد أقسم البيض بصلباتهم ... لا يهجرون الموت أو ينصروا

وأقسم الصفر بأوثانهم ... لا يغمدون السيف أو يظفروا

فمادت الأرض بأوتادها ... حين التقى الأبيض والأصفر

وأثمنتها خمرة من دم ... يلهم بها الميكاد والقيصر

والبيض لا ترضى بخذلانها ... والصفر بعد اليوم لا تكسر

فما لتلك الحرب قد شمرت ... عن ساقها حتى قضى العسكر

ويختتمها قائلا :

تسوءنا الحرب وإن أصبحت ... تدعو رجال الشرق أن يفخروا

أتى على المشرق حين إذا ... ما ذكر الأحياء لا يذكر

ومر بالشرق زمان وما ... يمر بالبال ولا يخطر

حتى أعاد الصفر أيامه ... فانتصف الأسود والأسمر

فرحمة الله على أمة ... يروى لها التاريخ ما يؤثر

وقد حاولت روسيا إنقاذ الموقف فأرسلت أسطولا من بحر  البلطيق فوصل فى مايو ١٩٠٥ إلى مياه كوريا حيث حطمه  اليابانيون بقيادة الجنرال توجو. وإلى هذا يشير حافظ بك  إبراهيم بقوله

وذلك الأسطول ما خطبه ... حتى عراه الفزع الأكبر

ظن به طوجو فأهدى له ... تحية طوجو بها أخبر

تحية من واجد شيق ... أنفاسه من حرها تزفر

فهل درى القيصر فى قصره ... ما تعلن الحرب وما تضمر

فكم قتيل بات فوق الثرى ... ينتابه الأظفور والمنسر

وكم جريح باسط كفه ... يدعو أخاه وهو لا يبصر

وكم أسير بات فى أسره ... نفسه من حسرة تقطر

وأخيرا تدخلت الولايات المتحدة وطلبت فتح باب المفاوضة  للصلح وأمضيت معاهدة بورتموث وبها :

(١) اعترفت روسيا بالنفوذ اليابانى فى كوريا واعترفت  اليابان باستقلالها ولكن فى ١٩٠٧ أرغم إمبراطورها على اعتزال  عرشه وضمت لليابان . (٢) قرر الفريقان إخلاء منشوريا وبورت آرثر ولكن  تقرر أن تنتقل الحقوق التى نالتها الروسيا إلى اليابان. وهكذا انتهت الحرب الحرب الحالية :

ظلت اليابان فى تقدمها وأخذ نفوذها يزداد ووقفت بجانب  الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى ولكن فى الحرب الثانية غيرت  خطتها ودخلت الحرب بجانب ألمانيا وإيطاليا وانتهى الأمر  بهزيمتها وباحتلالها إذا احتلها الأمريكان ١٩٤٥

أما كوريا فقد قسمت إلى إقليمين كوريا الشمالية وهذه  تدين بالشيوعية وتعتبر منطقة نفوذ روسى، وكوريا الجنوبية وهى  تعتبر منطقة نفوذ أمريكية. حاول الشيوعيون ضم كوريا الجنوبية  فلم توافق أمريكا واعتبرت هذه عدوانا عليها وهكذا تجددت  المأساة؛ فالأمريكان فى اليابان يرون الآن مارأنه اليابان منذ نصف  قرن وأكثر من أن وجود كوريا فى يد دولة معادية خطر عليهم  ومن هنا قامت الحرب الحالية وهى ما تزال سجالا بين الفريقين

اشترك في نشرتنا البريدية