-١-
١ - هو أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب بشهاب الدين السهروردى المقتول .
وتكاد تجمع الروايات على صحة هذه التسمية ، وقد لقب بالمقتول بسبب الحادث الذى أودى بحياته نتيجة لتألب الفقهاء عليه وحكمهم بمروقه عن الدين ؛ وقد حرص أهل السنة على إطلاق هذه التسمية على شهاب الدين مخافة أن يعتبر الشيخ من شهداء العقيدة ، ولكن هذا لم يمنع تلامذته الإشراقيين فيما بعد من أن يضمروا لفظ مقتول بمعنى شهيد .
ولد السهروردى بين سنة ٥٤٥ هـ ، ٥٥٠ هـ . ويقال إن مولده كان ببلدة سهرورد من أعمال زنجان من عراق العجم وينسبه إليها القزوينى ( آثار البلاد ص ٢٦٥ طبع فوستنفلد ) وأيضا راجع دائرة للمعارف الإسلامية مادة Suhraward لـ M.Plessner وتلقى العلم فى مراغة من أعمال أذربيجان . فدرس الفقه والحكمة على أستاذه محمد الدين الجبلى وهو أستاذ الفخر الرازى وكانت بينه وبين السهروردى مساجلات ، ثم انتقل الفيلسوف الشاب إلى أصفهان حيث قرأ بصائر ابن سهلان الساوى على الظهير الفارسى ، والبصائر تلخيص لمنطق الشفا لابن سينا ؛ وفى أصفهان العمل وذهب ابن سبنا ودرس المشالية وترجم رسالة الطير لابن سينا إلى الفارسية . وتشير بعض المراجع ولعلها أوثقها كالشهرزورى تلميذه إلى أن السهروردى كان يحب الإقامة بديار بكر وفى بعض الأوقات بقسم الشام وفى بعضها يقيم بالروم (راجع الشهرزورى مخطوط السلطان أحمد خان صورة شمسية بجامعة فؤاد رقم ٢٤٠٣٧ ورقة ٢٣٤ ) وكانت له اتصالات بقره ارسلان السلجوقى أمير خربوط فأهدي إليه الألواح العمادية . ويشير ما سبقبون إلى أن السهروردى قد أسس مدرسة إشراقية فى بلاط الأمير السلجوقى ، وقد تأثر بها فيما بعد جلال الدين الرومى صاحب المثنوى .
٢ - ويؤرخ ابن أبى أصيبعة انتقال السهروردى إلى حلب حيث ينسب إليها مقامه فى آخر ايامه ويذكر أنه انتقل إليها سنة ٥٧٩ هـ ( الطبقات حـ ٢ ص ١٦٨ ) . ولا يعطينا.
ابن أبى أصيبعة أو غيره من مؤرخى التراجم وصفا تفصيليا لحياة السهروردى فى حلب ، بل إن معظمها لا يكاد يذكر شيئا عن نشاطه العلمى فى حلب ويكتفى بأن يورد اتهام الفقهاء له بالزندقة والإلحاد والمروق عن الدين ، ثم يسجل واقعة مقتله . وقد كان السهروردى لا يكترث لآراء الفقهاء وكان الفقهاء من ناحية أخرى - لاسيما فى القرنين الخامس والسادس للهجرة - يتلمسون لأصحاب النظر العقلى مظان المروق عن المذهب السنى ، فيطالبون الحكام بإقامة الحدود عليهم بعد أن يحرروا وثائق تكفيرهم ، ويجتمع المسلمون الشهود هذا الحادث الجلل فتجمع كتب المطعون فى عقيدته وتحرق على الملأ.
وكان الحكام - وجلهم من أهل السنة - بعد أن دالت سلطة الفاطميين ، يتحدثون عن الحركات الباطنية ويشتطون فى محاربتها ، ولم يكن القرن السادس الهجرى الذى عاش فيه السهروردى صالحا أصلا لنشوء مذهب فلسفى جديد ، وذلك بعد أن حوربت الفلسفة فى الشرق إثر هجوم الغزالى على الفلاسفة ، ولكن الشيخ الإشراقى لم يكن يأبه لما يحيط به من تطورات سياسية وسط الفوضى التى نشأت عن اندحار المذهب الفاطمى وهجوم الصليبيين على المشرق ، مما أدى إلى أن يكون المذهب السنى فى مركز الصدارة فى العالم الإسلامى .
٣ - وينفرد العماد الأصبهانى المعاصر لصلاح الدين بإيراد القصة الكاملة لمقتل السهروردى ( راجع Bulletin d'etudes Orientales, Tomes VII-VIII années 1937-1938
وقد نشر Claude Cahen فى هذه الضبطة نصا من البستان الجامع لتواريخ الزمان لعماد الدين الأصفهانى
فيذكر " سنة ٥٨٨ هـ وفيها قتل الفقيه شهاب الدين السهروردى وتلميذه شمس الدين بقلعة حلب . وكان فقهاء حلب قد تعصبوا عليه ما خلا الفقيهين ابنى جهيل فإنهما قالا هذا رجل فقيه ومناظرته فى القلعة ليست ( بحسن ) ينزل إلى
الجامع ويجتمع الفقهاء كلهم ويعقد له مجلس . فى الخلاف ما ترجح لهم عليه بحجة وأما علم الأصول ما عرفوا أن يتكلموا معه فيه . وقالوا له أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا وهذا مستحيل فقال لهم : ما حدا لقدرته أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه . قالوا : بلى . قال : فالله قادر على كل شىء . قالوا : إلا على خلق نبى فإنه مستحيل . قال : فهل يستحيل مطلقا أم لا ؟ قالوا : كفرت وعملوا له أسبابا ، لأنه بالجملة كان عنده نقص عقل لا علم ومن جملته أنه سمى نفسه المؤيد بالملكوت " .
وأهمية هذا النص ترجع إلى أن مؤلفه ، وهو عماد الدين الأصفهانى ، كان معاصرا لسهروردى ولرأيه قيمة تاريخية كبرى . وتفصيل ما حدث أن الفقهاء فى حلب واجهوا السهروردى بعد أن شنع عليهم وظهر عليهم فى حضرة الملك الظاهر صاحب حلب ، وأخذوا يناقشونه فى الفقه وكذلك فى علم الأصول فيزهم ، وكانت هذه المناقشة العلنية فى مسجد حلب . ولما أسقط فى أيدى الفقهاء وجهوا إليه سؤالا عن النبوة وإمكان وجود نبى بعد محمد .
وكان الفقهاء يتمسكون بالنصوص الدينية التى تقرر أن محمدا خاتم المرسلين . أما السهروردى فإنه يميز بين النقل والعقل ، بين الإمكان التاريخى والإمكان العقلى وفى رأيه - لا توجد استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية .
وكما يبدو من نصوص المناقشة وحدها نجد أن السهروردى لا يهاجم النص الدينى القائل بأن محمدا خاتم المرسلين ، إلا أنه حفظا للقدرة الإلهية من دواعى النقص إذا ما حددت هذه القدرة ، من حيث عدم إمكان الله خلق نبى جديد ، رأى الشيخ أن قدرة الله وسعت إمكان خلق نبى جديد ، وهذا الإمكان ليس من نوع الإمكان الذى يخرج من القوة إلى الفعل - حسب أرسطو - بل بمعنى أن هذا الإمكان قوة محضة لا تخرج أبدا إلى الفعل ؛ فمن ناحية لا يعترض السهروردى على صحة النص الدينى ، ومن ناحية أخرى يتفادى تعطيل القدرة الإلهية بإيجاد تبرير عقلى للمشكلة عن طريق الإمكان المطلق .
وهذا الإيضاح لموقف السهروردى ينقصه الرجوع إلي كتبه لتبيان حقيقة موقفه من مشكلة النبوة حيث يتضح لنا السبب الذى دعا الفقهاء إلى مناقشته فى هذه المشكلة بالذات .
وقد ألقى فون كريمر وهورتن الضوء على علاقة السهروردى بالدعوة الباطنية ، فذهبا إلى أنه يعتنق مذهب الإمامة الباطنى ، وأنه يدعو إليه وأن هذا هو سبب مقتله على وجه التحديد . فقد جاء فى مقدمة حكمة الإشراق ص ١٩ طبعة طهران : " العالم ما خلا قط عن الحكمة وعن شخص قائم بها عنده الحجج والبينات " .
وهذا الشخص القائم بالحكمة هو خليفة الله فى أرضه ، وهذا الشخص يجب أن يكون متوغلا فى التأله ، أى أن يكون مرتاضا ذا مجاهدات روحية وفتوحات ربانية ، يتلقى عن الله العلم الروحانى ، وهذه هى صفة النبى ويفضل السهروردى الإمام المتأله الباحث لأنه يزيد على المتأله فى تعمقه البحث العقلى أى أنه يجمع بين العلم الروحانى والعلم العقلى الاستدلالى . ويعتنق السهروردى مذهب الإمامة العالمية الذي يدين به الصوفية والإسماعيلية ، فالعالم لا يخلو من خليفة وقد يكون ظاهرا وقد يكون مستترا ، ويسمى القطب ، وهذا الخليفة أو الإمام قد يتساوى فى مرتبة النبوة مع النبى وقد يعلو على هذا فى المرتبة .
وإذا فالنبوة فى نظر السهروردى ممكنة دائما ضرورية الحصول من وقت لآخر لحفظ النظام ولمصلحة النوع .
٤ - وكان الفقهاء يريدون إحراج السهروردى وحمله على إظهار مذهبه الباطنى فى الإمة ، وقد حاول السهروردى أن يتحاشى الإفضاء بمذهبه الحقيقى ، واستند إلى أسلوب من الجدل الفلسفى تجاهله الفقهاء ولم يردوا عليه ، بل عملوا محضرا بكفره وسيروه إلى صلاح الدين وذكروا له أن هذا الشاب أى السهروردى إن ترك وشأنه فسيكون سببا فى فساد عقيدة ابنه الملك الظاهر . وقيل إن صلاح الدين أمر بالقبض عليه ، وتذكر بعض الروايات أنه قتل بحلب وبعضها يذكر أنه قتل بمصر .
أما كيف قتل فإن ابن العماد يذكر عن ابن الأحول جـ ٤ : " قيل قتل وصلب أياما وقيل خير أنواع القتل فاختار القتل بالجوع لاعتياده الرياضات فمنع من الطعام حتى تلف "
ويذكر ابن أبي أصبيعة أنه لما تأكد الشيخ من أنه محكوم عليه بالقتل اختار أن يترك بدون طعام إلى أن يلقى الله تعالى . وتم له ذلك فى قلعة حلب ؛ وإذا صح خبر مقتله فى حلب فيكون الملك الظاهر هو الذى نفذ أمر والده فيه .
ويقال إنه ندم على فعلته وقبض على الفقهاء الذين كانوا سببا فى محضر كفره وسجنهم وأخذ منهم أموالا طائلة .
٥ - وللسهروردى قصيدة ينسبها إليه المؤرخون ويذهبون إلى أنه أنشدها عند موته ومطلعها:
قل لأصحاب رأونى ميتا فبكونى إذ رأونى حزنا
أنا عصفور وهذا قفص طرت عنه فتخلى وهنا
ويقال إن السهروردى تنبأ بالمصير الذى لقيه فى قصيدته المشهورة التى مطلعها :
أبدا نحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
إذ جاء فيها :
ورحمنا للعاشقين تكلفوا
ستر المحلة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباح
وقد تحقق هذا فما إن استدرجه الفقهاء بصدد مشكلة النبوة حتى كشف فى إشارة مركزة عن موقفه الباطنى ، وهو سر لا يستطيع الإفاضة فى الكلام عنه .
وكان أن أبيح دمه كما استبيحت دماء الصوفية والفلاسفة قبله
خاتمة:
٦ - هذه شخصية خصبة قدر لها أن تمثل الفرع الأفلاطونى فى الفلسفة الإسلامية ، فكان السهروردى وأتباعه يقولون عن أنفسهم إنهم أتباع أفلاطون صاحب الحكمة الذوقية الإشراقية ، وذلك فى مواجهة المشائين أصحاب الحكمة البحثية
وفى ظهور هذا المذهب دحض لما ذهب إليه جمهور مؤرخى الفلسفة الإسلامية من أن الغزالى قد قضى بهجومه على الفلاسفة على الفلسفة فى المشرق .
