الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 620الرجوع إلى "الثقافة"

كيف, طرائف عن النمل

Share

قصة تجارب طريفة أجراها العالم الروسي الأشهر " فرولوف ، على النمل ؛ تلك المخلوقات الصغيرة العجيبة ذات الأفعال المثيرة للاهتمام .

من منا لم ير النمل ولم يعجب به ؟ .

إن في حياة هذه المخلوقات طرافة وإبداعا ، وإن في أعمالها ما يثير الاهتمام ويدعو إلى التأمل وإعمال الفكر . . تراها وهي تتعاون مع بعضها كل التعاون ، وتعمل وتعمل بغير كلل ولا توقف ، من مطلع الفجر حتى مغرب الشمس . . فطوال اليوم تجد جموع النمل وهي تحمل إلى بيوتها ومستعمراتها حمولا مختلفة من مؤن وأطعمة ومواد متباينة للبناء أو لإصلاح عمد البيت وما انهار منه . وإذا ما أعيا نملة رفع ثقل ما أو واجهتها أية صعوبة تجد عديدا من أخواتها وقد اتجهت إليها تساعدها وتأخذ يدها . فالتوافق بين أفراد الجماعة الواحدة تام والتفاهم متوافر . .

وما أبدعه من منظر حين تري آلاف النمل وقد خرجت من بيتها لتستقبل الجمع القادم الذي يحمل الطعام والمؤن . . إنها لتنطلق من المستعمرة كانطلاق النهر لا تحيد يمنة أو يسرة ، وغالبا ما تصطدم مع النمل القادم المحمل وتتلامس قرون الاستشعار ، وكانها لقول وبعضها : " كيف الحال ؟ " .

ويتقدم النمل كما قلت في طريق مستقيم . فإذا اعترضه جذع شجرة مثلا فليس ذلك بالشئ المهم . . إنك لتجده

بكل سهولة وبروح مثابرة وقد أخذ يتسلق جانب هذا العائق ، الذي يعنى للنملة تقريبا ما تعنيه ناطحة من ناطحات السحاب للانسان . .

معارك مخيفه :

وأفراد الجماعة الواحدة يتعاونون كل التعاون ، ولكن تحدث في بعض الأحيان معارك مخيفة بينهم وبين الغرباء من جماعة اخرى . . وحدث ذلك العراك والشجار عادة . كنتيجة لوجود طعام شهي يرغب الاثنان في الاستيلاء عليه . فإذا ما انتهت المعركة فإنك تلقي الأشلاء وقد تناثرت في الساحة التي شهدت المعركة الحامية الوطيس ، فهنا وهناك تري أرجلا ورءوسا وأجساما مقطعة مشوهة وغير ذلك من بقايا الضحايا النعمة التي استشهدت أثناء الحرب

وأوضح مثل لهذه الحروب ما يقع بين جماعات الأرض الأمريكي ) النمل الأبيض ( .

مسرح وستار

والآن لنتقل إلى وجه بديع من وجوء قصة النمل فأدع الأستاذ " فرولوف " وهو عالم روسي شهير من علماء

الأحياء يعرض لنا بعض ما أجراه من تجارب على النمل فيها من الطرافة والروعة الشئ الكثير

" إن الأعمال التي يقوم بها النمل الشائع تثيرنا وتدعونا إلى أن نلاحظها . ومن أجل ذلك فقد أنشأنا مستعمرة نمل صناعية . وقد يبدو للقارئ أن هذا شيء من الصعوبة بمكان ، ولكنه كان في الحقيقة جد سهل وبسيط ، فقد استخدم في بناء المستعمرة صندوق خشبى عادي ، رفع أحد جوانبه ووضع عوضا عنه لوح زجاجي شفاف حتى يمكن مشاهدة كل ما يحدث داخل الصندوق ، وسدت جميع الحروف والفتحات بعجينة من الجبس والماء ، ولكن ترك أعلى الصندوق مفتوحا ليدخل منه الهواء ، وفقط غطى بإحكام بقطعة من الموسلين حتى لا يتاح للنمل أن يهرب .

وبإستخدام جاروف وإناء خشي أمكن نقل بيت من بيوت النمل بسكانه ) حوالى الألف ( من الغابة ووضعه في في الصندوق . كما وضع ستار على الجانب الزجاجي للصندوق يمكن إنزاله وإزاحته يمنع الضوء أو يدعه يمر خلال الزجاج . . وما كان أشبهه بستار المسرح . .

في البيت الجديد :

وقد أقيمت استعراضات متميزة على هذا المسرح الصغير الفريد في نوعه . . ١ فبعد أن استقر النمل في بيته الجديد بعد الرحلة التي قطعها في الإناء الخشبي من الغابة إلى الصندوق ، بدأ يتابع أعماله العادية ، وكأنه ما زال يعيش في الغابة . . فبدأ يجمع إبر الصنوبر من مكان إلى مكان ، ويعيد بناء البيت المهدم ، ويدفن البيض في أعماق البيت . وكم شعر زوارنا بالبهجة والانبساط حين رفعنا ستار الصندوق وأبنا لهم نتائج أعمال النمل ، إذ رأوا مبني عديد الطوابق ، به مداخل ومخارج وممرات تحت الأرض . وحجر تجمعت فيها مئات من النمل وأما كن للفقس حمل إليها النمل البيض الذي ستخرج منه الصغار . .

اختفاء النمل :

وقد دعتنا هذه الأعمال إلى أن نفكر في أن النمل قد تأقلم للجو الجديد ، ورتب حياته ليعيش في هذا المحيط ، وأنه سيمكث امنا تحت مشاهدتنا وملاحظتنا لأمد طويل . ولكنا كنا نخدع أنفسنا . ففي الصباح الثالث حين أزحنا الستار لننظر إلى مستعمرتنا لم نجد هناك أية علامة من علامات الحياة ، وكل ما بدا لاعيننا لم يتعد كومة من المهملات تبدت وكأنها أطلال مدينة قديمة مهجورة . وكان أول ما خطر ببالنا أن النمل كنتيجة لحادث سئ ما قد مات وقضي عليه . . ولكن بنخل أطلال المستعمرة لم نعثر على جسد حشرة واحدة منه ، والاعجب من ذلك أننا لم نجد بيضة واحدة . وبالكشف عن الصندوق لم تتبين به أى شق أو فجوة يمكن أن يهرب منها النمل .  فما هو السر ؟ .

إعادة السكرة :

وعدنا ثانية إلى المكان الذي أخذنا منه النمل أول الأمر ؛ فنحن لم نكن قد نقلنا كل ما حوته المستعمرة ، بل بالقدر الذي أمكن للإناء الخشبي أن يسعه . وهناك وجدنا أن أعمال الترميم كانت قد قاربت التمام ، وأن المستعمرة بنيت من جديد . وباستخدام جاروف وإناء خشبى أعدنا الكرة ونقلنا ما وسعه الإناء من مستعمرة النمل إلى بيت النمل الذي أنشأناه . ولكن في هذه المرة علمنا عددا كبيرا من النمل بطلاء أحمر بمساعدة فرشاة دقيقة ، وقد أخذ البعض يتلوي من جراء هذا الدهان الأحمر ، ولكن لم يلبث أن اعتاده ، وبدأ عمله في إصلاح وبناء ممراته ، وحمل بيضه إلى الأماكن الآمنة . وكنا قد أزلنا من قبل مخلفات النمل الهارب من الصندوق . .

النتيجة

فماذا كانت النتيجة ؟ . هل اعتاد النمل الجديد بيته الجديد ؟ ؟ وهل بدأ

يحيا في سكون وهدوء حياته العادية التي كان يحياها في الغابة

كلا - إنه لم يلبث هو الآخر أن هرب واختفي حين تفقدناه في صبيحة اليوم الثالث . . ١١ فأخذنا نفحص جميع جوانب الصندوق بعدسات مكبرة ، وإذا بنا نافي خروقا غير بينة للعين العادية في غطاء الموسلين صنعها النمل وهرب منها . .

إلى الغابة :

وعدنا إلى الغابة ، إلى مكان المستعمرة التي تركناها قاحلة لا ديار فيها ولا نافخ نار من جراء غاراتنا عليها . . لم تكن هناك دلائل على الحياة ، لم يكن هناك إلا مجموعة قليلة من إبر الصنوبر ، ولكا لاحظنا قرب المكان عددا من النمل الذي دهناه يدهان أحمر . . لم يكن هناك كثير منه . إذ ربما كان الباقي ما زال في الطريق إلي الغابة ، أو هلك ، أو عاد إلى البيت ، وهو الآن مجمع إبر الصنوبر ويبحث عن الطعام .

النمل يتغلب :

ولكن يمكن أن يقال إن النمل قد حل مشكلته . فهو قد تغلب على العوائق التى وضعناها في طريقه . فظل يبحث حتى وجد الطريق إلى البيت القديم الذي يبعد ثمانين ياردة عن البيت المصطنع برغم انه لم تكن لديه آية معرفة بالطريق الذي سلكناه في نقله

عناد النمل :

فما هو أعجب شيء في هذه القصة عن النمل ؟ إنه بلا شك التصميم العنيد للعودة إلى الوطن . . فهذا العناد من خصائص النمل ؛ فمرتين نجده قد نجح في احتراق الصندوق . والهرب أثناء الليل وتحت جنح الظلام ، والقيام برحلة تماثل الذهاب من لندن إلى إدنبرة على الأقدام

حالة غريبة :

ولكن لعل أغرب حالة تتطلب التفسير ، هي أن النمل استغرق في العمل والبناء مرتين ، فشيد في صندوقنا الذي اصطنعناه له بيتا صالحا بممراته الأرضية وحجره وأماكن للبيض . فإذا نحن تصورنا أن لهذه المخلوقات مثل هذا الحنين الرائع والعاطفة المنقذه لوطنها الأول ، وبيتها الأصلي في الغابة ، حتى إنها كانت على استعداد للتغلب على كل الصعوبات للعودة ، بل وملاقاة الموت والهلاك في الطريق ؛ فما الداعى لبذل هذا المجهود وتلك الطاقة في بناء بيت جديد داخل الجدران غير المألوفة للصندوق الخشي ٢ ولماذا يتحمل النمل كل هذه المتاعب ما دام لا ينوي البقاء والاستقرار ؟ ؟ .

هذه في الحق أشياء تتطلب التفسير ، ولكن ليس لنا أن نسأل النمل عنها أو نحاسبه عليها ، لأنه لا يتبع في أفعال أصول المنطق والأسباب والمسببات كما تفعل ، بل هو محيا ويحيش وخضع افعاله للغريزة ، والغريزة دافع فطري وهذا الدافع الفطري أو الغريزي متأصل في دماغه وفي كل جهازء العصب ، وهو أساسي للحيوان كلونه أو كتكوين حسه .

لقد دفعت الغريزة النمل حين نقل إلى الصندوق الخشبي أن يبني بيتا ليستقر فيه ، ولكن بعد أن أشبعت هذه الغريزة ، وبعد أن أنشئ البيت ، اكتشف النمل انعدام الطعام وعدم وجوده في المحيط الجديد ، فانطلق عائدا إلى مكانه الأصلي في الغابة ، تاركا البيت المصطنع ، وهو هنا هذه المرة يعمل مدفوعا بغريزة جديدة هي غريزة البحث عن الطعام . كما دفعته غريزة ثالثة هي غريزة المحافظة على النوع ، إلى أن يجمع بيضه ويأخذه معه في عودته . .

وفي هذا ما يفسر لنا سلوك النمل الغريب .

اشترك في نشرتنا البريدية