الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 343الرجوع إلى "الثقافة"

لحظة رهيبة، قصة لانطون تشيكوف

Share

حدث هذا من زمن ليس بالبعيد في دائرة محكمة موسكو ، وقد بدأت المناقشة بين المحلفين الذين ظلوا في المحكمة ليلا مجتمعين قبل أن يذهب كل إلى فراشه - عن اللحظات الرهيبة التي تصادف الإنسان في حياته ،بمناسبة ما ذكره احدهم عن شاهد في احدي القضايا قد تلعثم واصقر وارنج عليه ، وهو يرجح ان ذلك كان راجعا إلي تلك اللحظة العصيبة المخيفة . وقر رأي المحلفين ان يبحث كل في ذكرياته ويحكى لهم قصة تتضمن مواقف مشابهة لتلك ، إذ ان الحياة على قصرها لا تخلو من لحظات قاسية عنيفة.

فروي أحدهم كيف كان على وشك الغرق . وقال ثان كيف انه سمم ولده في مكان خال من اي طبيب أو صيدلي بأن أعطي الطفل مسحوقا من النحاس بدلا من الصودا ، ولكن الطفل لم يمت ، إلا ان والده كان على وشك الجنون . وحكى ثالث وهو رجل ليس متقدما في السن ولكنه سقيم كيف انه حاول الانتحار مرتين ، إذ اطلق على نفسه عيارا ناريا مرة والقي بنفسه بجانب قطار مرة اخري . أما الرابع وهو رجل قصير ، على وجهه دلائل الصحة والقوة . ملابسه وجيهة نظيفة فروي القصة التالية :

" كنت لا أتعدي الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين حين اقعم قلبي بحب زوجتي الحالية فطلبت يدها . وكان حبي لها حارا من ذلك النوع الجنوني الذي يذكر في القصص والروايات ، وقد غمرني بالسرور ولم أعرف كيف أتخلص منه ، فضايقت والدي وأصدقائي وخدمي بتكرار ذكر حبي لهم دائما . والمسرورون - كما تعلمون - هم أكثر الناس تعبا وضيقا ، إذ كنت دائما حنقا مغيظا حتى إني أخجل من ذكر ذلك الآن .

وكان لي صديق محام ناشئ حينذاك ، وهو مشهور الآن في روسيا بأسرها ، ولكنه يومئذ كان يخطو خطواته الأولى نحو الشهرة . ولم يكن موسرا ولا مشهورا حتى يحق له ان يغفل صديقا له إذا ما قابلة او الا يرفع قيمته لأحد . وكان من عادتى أن أزوره مرة أو مرتين في الأسبوع . فإذا ما ذهبت إليه اضطجعنا على اريكتين وبدأنا في الفلسفة.

وكنت يوما مضطجعا على الأريكة كعادتي ، وكنت أتجادل معه حول أن مهنة المحامي هي مهنة كلها عقوق ونكران للمعروف ، وحاولت أن أبين له كيف أنه بعد سماع الشهود في المحكمة يمكن الاستغناء عن المحامي . فإذا كان هناك محلف يافع معافي العقل والروح وأثبت أن هذا السقف أبيض أو أن هذا مذنب فليس هناك من شخص لديه القوة الكافية ليقاوم إقناعه وإثباته . ومن ذا الذي يثبت لي أن شاربي أحمر بينما أنا أعرف أنه أسود . ولربما إذا أصغيت إلي خطيب أثر علي وانتزع دموعي ، ولكن عقائدى الثابتة المبنية على الحقائق الجلية لا يمكن تغييرها ولكن صديقى المحامي جاهد في إقناعي أني مازلت صغيرا غبيا ، اتكلم كالأطفال كلاما لا معنى له ولا قيمة . وقال : إن الحقيقة الظاهرة حينما يلقي عليها الضوء إخصائي خبير عادل تزداد جلاء ، وإن الذكاء قوة هائلة يمكنها تحويل الحجر إلي تراب ، وقال إنه لا يتكلم عن ذلك الذكاء الطفيف التافه كذكاء أصحاب الأملاك والمحال . ومن الصعب للإرادة البشرية الضعيفة أن تقاوم رجلا ذكيا ، كمن ينظر إلي الشمس دون أن يغلق عينيه . وبقوة الكلمات أمكن لشخص واحد أن يجعل الألوف يعتنقون المسيحية ، وما التاريخ قائم إلا على لحظات وحوادث كتلك.

ولكني أصررت على أن قوة العقيدة لا يضعفها أي ذكاء . وكنت أقول ذلك مع اني لا يمكنني ان احدد

تماما ما هى العقيدة وما هو الذكاء . ومن المحتمل انى كنت أتكلم لمجرد الكلام ليس إلا !

ولكن صديق المحامي قال : " خذ مثلا ، شخصا مثلك ، فأنت مقتنع أن خطيبتك ملاك ، وانه ما من قلب في البلدة مفعم بالسرور كقلبك . ولكني اؤكد لك ان بضع دقائق تكفي تماما لجلوسك على نفس هذا المكتب لتكتب إليها قاصما علاقتيكما "

فقهقهت ساخرا ، إلا أن صديقي قال : " لا تضحك فاني أتكلم الحقائق . فإذا رغبت في ذلك فستصبح سعيدا بعد عشرين دقيقة فقط ، لاني انقذتك من ذلك الزواج " .

فقلت : " حسنا . . جرب من فضلك " .

- " كلا . لماذا افعل ذلك وانت شاب مهذب رقيق . إنى أشفق عليك كي أجعل منك هدفا لتجربتي القاسية ،

وجلسنا للعشاء . . ولما غمرتني الخمر بتخيلاتي عن ناتاشا حبيبتي كان سروري عظيما حتى إن عيني المحامي الخضراوين ظهرتا لي وكأنهما مكتئبتان . فاستفززته قائلا : " حاول يا صديقي . . أرجو منك أن تحاول " .

فهز المحامي رأسه وعقد حاجبيه ، وكنت قد ضايقته ، فقال : " أؤكد لك انك ستشكرني وستدعوني بالمنقذ حينما تتم التجربة . ولكن يجب على ان اذكر خطيبتك ايضا ، فهي تحبك ، وعدم مبادلتك إياها حبها سيؤلمها ويشقيها . ولكن كم هي جميلة ؟ . إني أحسدك " .

وزفر المحامي زفرة حارة وهو يرشف الخمر ، وبدأ يتحدث عن جمال صديقتي . وكان وصافا بارعا وهو يتحدث عن اهدابها أو إصبعها الصغيرة . وبدأت انصت إليه وأنا فرح.

وكان يقول : " رأيت نساء كثيرات ، ولكني أصدقك القول أن ناتاشا درة لامعة ، فتاة نادرة ! وبالطبع لها عيوبها ، ولكنها مع ذلك كله مدهشة .

وبدا المحامي يتكلم عن عيوب عشيقتي ، والذي افهمه أنا انه كان حديثا جامعا عن النساء . . عن النقط

الضعيفة من اخلاقهن . إلا أني تخيلت حينئذ انه يقصد ناتاشا بحديثه ذاك . واطال صديقي وهو ذاهل فرح ، في وصف انفها الأفطس ، وصوتها المثير ، وضحكتها المجلجلة ، وتكلفها وتظاهرها.. وعن كل ما أكرهه فيها . وكل هذا كان في رأيه محبوبا جميلا مفعما بالآنوثة!

وبدون أن أشعر انتقل من تلك الحرارة والحماسة إلي التربية الابوية ، وكان يتكلم في صوت لين كله تهكم وسخرية. ولم أجد أنا الفرصة لأفتح فمي . . فماذا أقول : فصديقى لم يذكر شيئا جديدا ، وكل ما قاله كان صادقا فيه ولم يكن موضع السم في كلماته ، ولكنه كان في تلك اللهجة الشيطانية التي كان يتكلم بها ، واقتنعت ان لكل كلمة آلاف المعاني بحسب الطريقة التى تنطق بها وتغيير موضعها في الجملة .

وقمت ثائرا وأنا أقطع الحجرة جيئة وذهابا . ووجدتني أصدقه حين أخبرني والدموع تلمع في عينيه انى شاب في مقتبل العمر ، امامي مستقبل مشرق ساقوم فيه بعمل باهر عجيب يمنعه زواجي . واطبق بيديه على يدى وهو يقول : " ارجوك . . بل آمرك . . ان تقف عند هذا الحد قبل ان يسبق السيف العزل . إن الله سينقذك من تلك الخطيئة الغريبة ! لا تحطم شبابك يا صديقي " .

ومن الغريب أني جلست إلي المكتب وكتبت إلي خطيبتى أفصم عري صداقتنا . وكنت فرحا إذ هناك متسع من الوقت لأصلح ذلك الخطأ الذي ترديت فيه . وألصقت الغلاف وأسرعت إلي الشارع ووضعته في صندوق البريد . وكان صديقي المحامي معي يمدحني على ما فعلت

ولما اختفي خطابي في ظلمة الصندوق سمعته يقول :

" عمل باهر عظيم . . إني اهنئك من كل قلبي . إني فرح من أجلك "

وبعد أن سرنا معا ما يقرب من عشر خطوات كان صديقى يقول : " بطبيعة الحال للزواج ناحيته البهيجة ايضا ، فأنا مثلا انتمي إلي ذلك النوع من الرجال الذين يجدون

في الزواج والحياة العائلية كل آمالهم " . وجعل يصف حياته الزوجية فظهرت لي بشاعة حياة العزوبة وغلظتها . وكان يتكلم بحرارة وحماسة وإخلاص عن زوجته . عن سعادة الحياة العائلية ، فهزني يأس مميت حين وصلنا إلي باب منزله وقلت وأنا الهث : " ما الذي فعلته معى ايها الرجل الملعون ؟ لقد حطمتني ! لماذا جعلتني أكتب ذلك الخطاب المشئوم ؟ إني أحبها ! أحبها ! "

وأقسمت إني أحبها . كنت أخاف نتيجة فعلتي المتهورة . سادتي . . إنه من الصعب تصور لحظة ارهب من تلك . فلو وضع رجل رحيم مسدسا في يدي حينئذ لأطلقت رصاصة في رأسي بكل ارتياح .

وضحك المحامي وهو يمسك ذراعي بلطف وقال :

" لا تصرخ ! إن الخطاب لن يصل إلى صديقتك . لقد كتبت أنا العنوان - لا أنت - على الغلاف ، وقد غيرت من كتابته حتى إنهم لن يقدروا على حل رموزه في

مكتب البريد . وليكن هذا درسا لاتنساه حتي لا تجادلنى  مرة اخري في أشياء لا تفهمها "

والأن يا سادتي فليقص الخامس قصته . .

ولما تأهب المحلف الخامس للكلام دقت ساعة الكنيسة الثانية عشرة فقال أحد المحلفين :

" ما رأيكم أيها السادة في الحالة الرهيبة التي عليها سجيننا الان ؟ ما الذي يحسه وما الذي يشعر به وهو في القفص ؟ إنه يقضي ليلة هنا في زنزانة ، ولربما كان جالسا أو مضطجعا ، ارقا بطبيعة الحال ، مصغيا إلى دقات الساعة طوال الليل. وما الذي يفكر فيه ؟ ما هي أحلامه وتخيلاته ؟ "

ونسي الحاضرون فجأة كل ما قيل من قبل عن اللحظات الرهيبة ، وتبين لهم أن قصة صديقهم الذي كتب اللحظات إلى خطيبته لم تكن إلا تجربة تافهة مضجرة ، ولم يتكلم أحد ، بل ذهب كل إلى فراشه هادئا ساكنا .

اشترك في نشرتنا البريدية