"الى الصديق الذى سألنى هذا السؤال وهو طليق الحرية فى بغداد فأجبته عنه وهو سجين لاسقدام فى كركوك"
تسألنى لماذا ترجمت فرتر ... والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غدا سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها:
قال (جوت) يوما لصديقه (اكيرمان): "كل امرئ، يأتى عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) انما كتب له خاصة"
وأنا فى سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين!: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع فى دائرة ليس فيها من الواقع غير وجوده ... واحساس مشبوب يتوقد شعورا بالجمال، وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواطف سيالة ما تكاد تتماسك ...! فالطبيعة فى خيالى شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة! .. وكان فهمى لكل شيء وحكمى على كل شخص يصدران عن منطق أفسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى. ثم غمر هذه الحال التى وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه مليح، فسبحت منه فى فيض سماوى من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودى الخالى قد امتلأ، وقلبى الصادى قد ارتوى، وحسى الفائر قد سكن، وتخيلت أن حياتى الحائرة قد أخذت تسير فى طريق لاحب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور! .. ورحت أسلك هذا الطريق السحري محمولا على جناح الهوى كأنى (فوست) على جناحى (ميفستوفاليس) حتى ذكرنى الزمان الغافل فأقام فيه عقبة أصطدم عندها الخيال بالواقع، والحبيب بالخاطب، والعاطفة بالمنفعة!! على أننى بقيت على رغم الصدمة حيا ولابد للحى أن يسير!!
تطلعت وراء العقبة انظر الطريق فاذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض، والعرائس وحوش. فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس! .. ولكن أين
أنشدما أبغى وحولى من الفراغ نطاق مخيف، وأمامى على أسنة الصخور أشلاء وجثث!!؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينى، وهذه أرواح قتلاه تتهافت على، وهذه سجلات مصارعهم بين يدى، فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلى، وأقطع بمناجاتهم مراحلى، وألتمس فى مواجعهم لهواى عزاء وسلوة؟؟
قرأت هيلويز الجديدة، ورينيه، واتالا، وأدولف، ودومينيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان دكريف، وتوثقت بأشخاصها صلاتى، وتصعدت فى زفراتهم زفراتى، وتمثلت فى نهايتهم المحزنة نهايتى. ولكنهم كانوا جميعا غيرى، نتفق فى الموضوع ولكن نفترق فى الوضع، كالنساء النوادب فى مناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد هو الموت!!
فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحا غير ذلك النواح، ورأيت روحاً غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالا غير تلك الحال!!
كنت أقرأ ولا أرى فى الحادثة سواى، وأشعر ولا أشعر إلا بهواى، وأندب ولا أندب إلا بلواى، فهل كنت أقرأ فى خيالى أم أنظر فى قلبى، أم هو الصدق فى نقل الشعور والحذق فى تصوير العاطفة يظهران قلوب الناس جميعا على لون واحد؟؟
كنا يومئذ فى مايو والطبيعة تعلن عن حبها بالألوان والاحان والعطر، ونفسى تحاول أن تعلن عن هواها بالدموع والشعر، فآلامى تجيش فى عينى، وعواطفى تتنزى على لسانى، وبلابلي تتوثب فى خاطرى، وكلها تطلب السبيل إلى العلانية، - والشكوى فى الحب كالطفح فى الحمى كلاهما عرض ملازم - فلما قرأت (فرتر) تنفس جواي المكظوم، واستغنى عن البيان هواى المكتوم، لأننى لو كنت صببت مهجتى على قرطاس لما كانت غير (فرتر)، وهل فرتر إلا قصة الشباب فى كل جيل؟ رجل شديد الحس قوى العاطفة يتقسم الخيال "والايديال" نواحى نفسه، ورجل آخر بارد الطبع عملى الفكر يعرف دائما كيف يجر النار إلى قرصه، وامرأة بينهما يجذبها إلى الأول طبعها الغزلى وقلبها الشاعر ويربطها بالثانى عقلها المادى ووعدها المأخوذ ... هذا هو موضوع آلام
فرتر وهو عينه موضوع آلامى ... فلم لا أنقله إذن إلى لغتى لينطق عن لسانى، كما ترجم صادقا عن ضميرى؟؟
فنيت فى (جوت) وقادنى إلهامه وروحه، وأهبت بلغة القرآن والوحى أن تتسع لهذه النفحات القدسية فأسعفتنى ببيانها الذى يتجدد على الدهر ويزهو على طول القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسى صلاة حب ونشيد عزاء ورقية هم!! كأنما كان (جوت) يناديها من وراء الغيب حين يقول فى تقدمته لفرتر: "وأنت أيتها النفس ... إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى فاستمدى الصبر والعزاء من آلامه وتلمسى البرء والشفاء فى أسقامه، واتخذى هذا الكتاب صاحبا وصديقا إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدى من الأصدقاء من هو أقرب اليك وأحنى عليك؟؟
