الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 49الرجوع إلى "الثقافة"

لماذا نضحك ؟ . . .

Share

لقد قال قائل فى تعريف الانسان إنه حيوان ضاحك ، لأن الضحك ظاهرة تفرد بها دون سائر الحيوان ، ولذا استحق أن يكون موضع بحث عند كثير من الفلاسفة وعلماء النفس ، وكان طبيعيا أن تختلف الآراء فى تعليله .

ففريق من أصحاب النزعة المادية يزعمون لك أنه عملية جثمانية أرادت بها طبيعة الحسم أن تكون منصرفا للطاقة الزائدة ، وأنه فوق ذلك نافع للرئتين ، فلا يرى هذا الفريق من الباحثين فى الضحك معبرا عن شعور ، ويؤيدون وجهة نظرهم بما يحدث عند الدغدغة من انفجار فى الضحك ، فهاهنا نرى مؤثرا جسديا ، ينتج ظاهرة جسدية لا أكثر ولا أقل .

ولسنا نقصد فى هذه الكلمة إلى ذلك التعليل المادى لظاهرة الضحك ، وإنما نريد أن نبسط أمام القارئ بسطا سريعا مختلف الآراء التى تنظر إلى الضحك على أنه ظاهرة نفسية يعبر بها الضاحك عن حالة عقلية ، فلماذا يضحك الضاحك ؟

أول الآراء أنه يضحك حين يرى ما يدل على التناقض بين عظمة الانسان فى داخله ، وهو أن أمره فى خارجه . . إن الانسان ليشعر فى دخيلة نفسه أنه عظيم لا يقاس إلى هذه الكائنات الحقيرة من حوله ، فأين هو من الحيوان الأعجم والصخر الأصم ؟ إنه مفكر شاعر مريد ؛ أما سائر الكائنات فمجبرة مسيرة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فأى غرابة فى أن يتيه الانسان ويزهى ، وأى عجب فى أن يظن بنفسه العظمة والجلال بالقياس إلى سائر الأحياء والأشياء ؟ ! لكن الطبيعة الخبيثة قاسية لا ترحم ، فسرعان ما تصيبه فى موضع عزته ، وتستخف به فى مكان غروره ، كانها تلقى عليه درسا أنه فى رأسها كائن كسائر

الكائنات ، فنراها حينا تلقى به من شاهق كما تلقى بالحجر الصامت ، وتدفعه حينا آخر بالغريزة دفعا آليا كما تدفع الحيوان الأبكم ؛ عندئذ يظهر التناقض حادا شديدا بين الوهم والحقيقة ، بين ما ظنه الانسان بنفسه وبين ما ظنته الطبيعة فيه ؛ ومن هذا التناقض بين داخل الانسان العظيم ، وخارجه الهين الصغير ينشأ الضحك . فأنت تضحك حين تشاهد الرجل المتأنق يزل فيهوى على الأرض ، ولكنك لا تضحك إن رأيت شجرة ساقطة أو حجرا هاويا ، لأنك تعلم أن الشجرة أو الحجر ليس يختلج فى باطنهما شعور بالعظمة يناقض ما أصابهما فى البيئة الخارجية من صفار .

ورأى آخر - زعيمه هويز - يعلل الضحك برغبة الإنسان فى السيادة والسيطرة ؛ فأنت مدفوع بغريزتك أن تسود وتعلو ، فيسرك أن تصادف ما يحقق لك ذلك السلطان ، ويحزنك أن تلاقى ما يحط من شأنك كائنا ما كان ! وكلما نهض لك الدليل على أنك متفوق فى ثرائك أو فى ذكائك أو فى قوتك ، آثار ذلك من نفسك راحة وطمأنينة ، وكلما شهدت البرهان قائما على أنك بين الناس قليل تافه أحسست كآبة وضيفا . . . وأما هذه السيطرة التي تنشدها فقد تتحقق تارة بارتفاعك على أقرانك ، وطورا بإنخفاض أقرانك من دونك . ومن هنا كان الذى يصيب سواى من صنوف الزواية والتحقير ، يشيع السرور فى نفسى ، لأنه يرضى غريزة متأصلة ، هى بين الغرائز من أقواها وأشدها فعلا بالنفس ، بل لعلها أقواها جميعا - كما ذهب نيتشة ، وارتأى من بعده أدلر - فإن أبصرت رذاذ الوحل يصيب الرجل الشامخ بأنفه ، والذى أخشى أن يكون أرفع منى منزلة ، آثار ذلك فى الضحك ، مع

أنى قد لا أضحك حين أرى ذلك بعينه يحدث للعامل الأجير ، إذا كنت أدرك أنه ليس منى بالقرين المنافس ، وأشعر نحوه برفعة غير منازعة

ورأى ثالث أخذ به كثيرون - من بينهم شوبنهور- يفسر علة الضحك بالانحراف عما يتوقعه الانسان من مجرى الحادثات أو من سياق الحديث انحرافا فاجئا مباغنا . فإذا ارتفع ستار المسرح عن قرد ، وكنا نتوقع أن نرى إنسانا ، كان ذلك باعثا قويا على الضحك . وإذا قابلت شخصا قد ارتدى من الملابس ما لا تنتظر أن يرتديه في زمان المقابلة ومكانها ثار منك الضحك ؛ وهذا التعليل يفسر لنا سر الضحك من نكات كثيرة ؛ فالنكتة تضحك حين تنحرف بمنطق التفكير انحرافا لا ينتظره السامع . انظر مثلا فى أمثال هذه النكات : شوهد ( جحا ) مرة ، وقد امتطى حماره ، ووجهه إلى ذيل الحمار ، فسأله سائل عن هذا الوضع العجيب ، فأجابه فى دهشة : لماذا تعجب وأنت لا تدرى إلى أين أعتزم المسير ؟ وقيل لمدمن خمر : لماذا تشرب كل هذه الخمر مع أن ذلك انتحار بطئ ؟ فأجاب : ولماذا تريد أن أسرع فى الانتحار ؟ . . وغير ذلك من هذا الضرب كثير .

ورأى رابع - زعيمه برجسون - يرى أن مبعث الضحك انتكاس فى مجرى التقدم والرقي . فمراحل التطور قد انتهت بالجماد إلى الكائنات الحية التى يقف الانسان عند ذروتها ؛ فإن رأينا إنسانا يتصرف بما يدل على رجعته إلى مرحلة الجماد ، أثار ذلك الضحك ؛ فأنت حين ترى السائر يقع في الطريق يتدحرج كما يحدث لقطعة الحجر ، ارتسم فى ذهنك الشبه بينه وبين الصخرة الجامدة فى خضوعها لقانون الجاذبية ، فتندفع إلى الضحك . وهكذا فى كل حالة من حالات الحياة إذا شابهت حالة آلية ؛ كأن يمشى الإنسان مشية معينة تخلو من يسر الحركة الحية ونعومتها ؛ أو إذا رأينا صورة من الحياة ناقصة مشوهة ، فنلمح فيها نكوصا فى مجرى التقدم ، فإن ذلك يبعث الضحك ، مثال

ذلك أن ترى فزما شائها ، أو مخبولا يخلط فى الحديث .

ومما لاحظه برجسون أن الضحك ظاهرة اجتماعية لا فردية ، أى أن الإنسان ما كان ليضحك لو كان يعيش فى غير جماعة ، ولذا فلست ترى أحدا يضحك وهو بمفرده وإن فعل كان سلوكه هذا موضع تعجب وتساؤل . فقد تجلس إلى جانب جماعة من المسافرين فى القطار - مثلا - فيضحكون من نكتة قالها أحدهم ، فلا تشاطرهم فى ضحكهم ، حتى وإن كانت النكتة بارعة تستدعى الضحك حقا ، ولو كنت واحدا من جماعتهم لانفجرت ضاحكا ؛ ولكنك لا تفعل ، أو تحاول ألا تفعل بكل وسائل الكبت ، لئلا تضع نفسك موضع السخرية إن ضحكت وحيدا . وما نقوله فى الضحك قل مثله فى البكاء - وإن يكن فى حالة الضحك أشد - فقد سئل رجل وهو يستمع إلى واعظ فى كنيسة ، وكان غريبا عابرا : لماذا لا تبكى وكل من حولك يكون من فرط التأثر ؟ فأجاب : لست من أتباع هذه الكنيسة لأنى غريب .

ويؤيد القول بأن الضحك ظاهرة اجتماعية ، أنه كلما ازداد النظارة فى المسرح ، كانوا أسرع إلى الضحك مما يسمون ؛ وجدير بنا أن نلاحظ فى هذا الصدد أن كثيرا جدا من النكات لا يترجم من لغة إلى أخرى ؛ لأنه يشير إلى عادات القوم وأفكارهم ، أى إلى بعض ظواهر المجتمع .

ورأى خامس مؤداه أن الضحك وسيلة يهون بها الإنسان على نفسه عبء الحاضر ، كما يدرى بالنسيان كوارث الماضى ، ويستعين بالأمل المشرق على ظلمة الغيب المجهول ؛ وليس للإنسان منصرف ولا محيد عن هذه السبل الثلاثة يخفف بها عنف الزمان وقسوته ، فلولا النسيان لازدحمت الذاكرة بفوادح الماضى ، حتى ينوء بحملها فلا يقوى على فكر أو عمل ؛ ولولا الأمل لاجتمعت مخاوف المستقبل ، فيرتد أمامها الإنسان جازعا فازعا ، ولولا الضحك نواجه به الحاضر لكان لنا من حادثاته ما ينقض ظهورنا ويهد بناءنا هدا .

وقريب من هذا الرأى مذهب مكدوجل فى تعليل الضحك ، إذ يقول فيه إنه وسيلة ابتكرتها الطبيعة  لتنشى ما يشبه التوازن فى نفسية الإنسان ؛ فهو مضطر بحكم اجتماعه بسائر الأفراد ، وبحكم ما غرز فى جبلته من ميل نحو مشاركة غيره فى أحزانه وهمومه ، أن يحمل كثيرا من مصائب الناس ؛ ولو كلفه المجتمع بهذا العبء - دون تحد منه - لفدحه وأبهظه ؛ فكان جتما أن نضحك من غيرنا فى المصائب الصغرى لنحزن معهم فى الكوارث الكبرى ، فإذا خدش القط أصبع الطفل ثار منا الضحك ، أما إذا عضه كلب فهشم أصابعه تحرك فى نفوسنا الحزن والآسف ؛ وإذا أصيب رجل فى وجهه برذاذ من الوحل فكنا ؛ أما إذا أصابته شظايا قنبلة فعرضته للخطر ، حزنا لموقفه ، وهكذا .

ورأى سادس فى تفسير الضحك أنه أداة اصطنعها المجتمع لتأديب أفراده ؛ فقد تواضع الناس فى كل جماعة

على لون من السلوك لا يجوز للفرد أن يخرج عليه ، إلا إذا أراد أن يضع نفسه موضع الضحك المتصل والسخرية اللاذعة ، حتى يرتد إلى حظيرة المجتمع . فقد اصطلح المصريون - مثلا - على أن يكون ( زر الطربوش ) إلى وراء ، فإن عكست الوضع فدليته فوق جبهتك ، ضحك الناس منك إلى أن تعود إلى الصواب . وكم من شاب شهدناه يعود إلى أرض الوطن من بلد اوربى ، وهو يشتعل حماسة إلى تبديل جانب من سلوكه المصرى القديم ، فما هى إلا أن تنصب على رأسه النكات صبا حتى يرتد إلى مصريته من جديد .

تلك أجدر الآراء التى قيلت فى تعليل هذه الظاهرة الإنسانية التى يعبر بها الناس عن سرورهم ، وقد عرضناها عرضا سريعا ، وأرجو أن يكون مفيدا .

اشترك في نشرتنا البريدية