ومع ذلك فإن الدين ما زال مخيفاً لنا منذ أجيال أفراداً وجماعات ، والأمثال المتداولة في لفتن تعبر بوضوح عن هذا الخوف الشديد ، فالدين ذل بالنهار وهم بالليل ، والفقر بلا دين هو الغني الكامل .
ونقول ركبه الدين ، وتورط في الدين إلى آخر ذلك مما يدل على نظرتنا إلى ثقل ومطأته ، وعظم مخاطره . ولكن ما أحرانا كأمة حديثة أن ننظر إلي الدين نظرة أخري
ما آحرانا أن ننظر إلي دول أوربا التى تحسب ديونها بآلاف الملايين من الجنيهات ، والتي تعتبر الاستدانة وسيلة طبيعية في الأزمات الحربية ، أو في أوقات الحاجة الملحة إلي الإصلاح السريع .
بل إن النظام الاقتصادي في العالم كله قد أصبح قائماً على الاستدانة ، سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فليست شركات التأمين إلا قائمة على نوع من الاستدانة ، والأسهم والسندات في كل شركات الإنتاج ليست سوى أنواعاً من الاستدانة ، واقتصاد العالم كله قائم على جهود مثل هذه الشركات بغير نزاع .
فليس هناك في حقيقة الاستدانة ما يجدر بنا أن نرهبه في هذا العصر .
هذه كلمة عرضية ثارت في نفسي عندما قرأت تصريحاً لدولة رئيس الوزراء بشأن خطة مصر المستقبلة في الإصلاح الشامل الذي تتطلع البلاد إليه
استعرضت في نفسي ميادين الإصلاح التي تحتاج إلى أن نقطعها بغير تردد . فوجدت تلك الميادين متعددة وكل منها مترامى الأطراف ، يتسع لجولان أسرع الطائرات الإصلاحية . فكلما خطونا خطوة تبين لنا أن هناك إصلاحا ضروريا لابد لنا منه في الخطوة التالية.
فسير في الطريق نحو القرية لزيارة أو لتجارة ، فنبدأ السير في طريق المعاهدة مثلا . وهو طريق مرصوف جميل نظيف لا نحس فيه قلقاً ولا وجعاً من الارتجاج ، يخيل إلينا ونحن نسير فيه أن مصر من أجمل بلاد العالم منظراً وأطيبها هواء ، حتى الغبار الذي كنا نشكو منه دائماً قد اختفي ، فلا يعكر الجو حولنا ولا يملأ صدرنا . ولكننا لا تلبث أن نعرج عنة أو يسرة نحو القرية التي تبعد ميلا واحداً عن الطريق ، فماذا نجد ؟ هناك تذكر الضرورة الملحة لإصلاح الطرق ، وتحملنا المشاق التي نجدها على أن تفكر في الفوائد العظيمة التي نجنيها من ذلك الإصلاح .
فإن محصولات القرية يمكن أن تبلغ البندر في سرعة وسهولة ، فعربة نقل من اللورى تستطيع أن تجمع خضر القرية في ساعة واحدة إلى السوق الذي تباع فيه ، ويعود صاحب الخضر بما يملأ جيبه . وتاجر القرية الذي يسير على قدمه أو على حماره إلى السوق أو من السوق حاملا بضاعته مكدسة في خرج يضغطها ويفسدها ، ولا يستطيع أن يبلغ نهاية رحلته إلا بعد جهد وضياع وقت طويل ثمين ، هذا التاجر بقدر على أن يصل إلى غرضه في سهولة إذا أصلح الطريق له ، ويمكنه عند ذلك أن يحافظ في أثنا الرحلة على سلامة بضائعه . والطبيب الذي يريد زيارة القرية لا يتردد ولا يتعطل ، والعلم كذلك ، والتلميذ الذي تبعد المدرسة عنه نحو ميل لا يتردد في الذهاب إليها ، بل يجد في قطع الطريق لذة إذا كانت طريقاً نظيفة ممهدة
هذا كله فيما يتعلق بالطرق
فلتنظر إلي المساكن إن مساكن القرى تثير في الذهن صورة كئيبة . فنحن إذا نظرنا إليها خيل إلينا أننا كنا نشارك في حرب طاحنة ، وأن هذه الأبنية ليست سوى بقايا حطام الغارات العنيفة ، ولكنها حطام تتخللها قاذورات من فضلات المواشي والناس .
وهناك في وسط هذه الأكداس المخربة يوجد مبني
ابيض اللون في بعض الأزقة . هذه هي المدرسة التي واظب على الحضور فيها ربع تلاميذها ، ولم يواظب ثلاثة أرباعها ، وحضر نصف مدرسيها وتخف عنها النصف الآخر . وهناك على مقربة من المدرسة في زقاق ضيق آخر بناء آخر ممكين .
هو المستوصف الذي يصيح محتجاً علي إغفال كل قواعد الصحة فيما حوله .
وهناك كومة قعد الأطفال فوقها وهم عراة . ماذا يعملون هناك ؟ إنهم يخطئون فيحسبونها دورة صالحة الحياه ، ولهم العذر في ذلك لأنهم لم يروا في حياتهم دورة مياه .
وأما ماء الشرب ، فإنه يحمل على الرؤوس من أقرب ترعة ، فإذا لم توجد ترعة ، فمن أقرب جدول ، فإذا جف هذا وتلك ، فمن حفرة في الطين الملوث .
فإذا نحن تركنا القرية ، وذهبنا إلى ما هو أعظم من القرية ، وجدنا في كل ركن مسألة نقف عندها نلوم أنفسنا أحياناً ، ونلوم غيرنا أحياناً ، ولكنا في كل الأحوال نتمني ان ننهض يوماً من الأيام نهضة حقيقية نحو الإصلاح.
كل مرافقنا محتاج إلي الإسلام بغير شك ، وقد عرفنا ذلك ولسناء . بل لقد خرجنا من بحوثنا الكثيرة على حقيقة واحدة ، وهي أننا في أشد الحاجة إلى الإنشاء والتعمير ، وإن حاجتنا إلى هذا الإنشاء وهذا التعمير ليست أقل من حاجة الأمم المسكينة التى طحنتها هذه الحرب طحناً .
والفرق الذي بيننا وبين هذه الدول هو أن القرون الماضية هي التي تولت طحننا على مهل.
فماذا نصنع في هذا كله ؟ إننا إذا أردنا أن نقنع بالمقدار الذي نتحمله ميزانية الدولة سنوياً من الإصلاح التدريجي كان علينا أن ننتظر طويلا إذا لم يكن علينا أن ننتظر إلي الأيد ، لأننا إذا بدأنا أول الإصلاح الآن - في مثل هذه الميادين الواسعة - لم نكد نبلغ نهاية الإصلاح حتى يفسد الجزء الأول منه . فيكون علينا أن نبدأه من جديد .
ولن نقدر على الاستفادة الصحيحة من الإصلاح إذا تمهلنا فيه بمثل هذا التقسيط ، فمثلا إذا أصلحنا جزءاً من الطريق لم نستطع أن نستفيد به لأن الذي يريد السير على الطريق يحتاج أن يصل فيه إلى نهايته.
ويمكن أن نفيس على هذا كل ميادين الإصلاح . هناك رجل مصري واحد استطاع بذكائه وإرادته أن يدرك الحقائق التي لم نستطع إدراكها إلى الآن ، ومع ذلك فإن هذا الرجل العظيم قد تعرض إلى كل أنواع الدعاية الفاسدة حتى كان من العسير على الناس أن يعرفوا مقدار عظمته إلا بعد مرور حقبة طويلة من الزمن .
هذا الرجل العظيم هو ساكن الجنان إسماعيل باشا أبو الملوك . فقد عرف أن إصلاح مصر يجب أن يكون سريعاً إذا أردنا أن نستفيد منه ، ووجد أنه إذا تمهل وأصلح شيئا فشيئا لم يفد إصلاحه شيئاً ، وقد يتعرض الإسلام للفساد أو النقص . وعلي كل حال فإنه قد أدرك أن إصلاح الشئ الواحد يجب أن يكون شاملا في مرة واحدة . فاستطاع مثلا أن ينشيء لنا الطرق الحديدية ، وأن يصلح ميناء الإسكندرية ، وميناء السويس ، وأن ينشئ طريق الأهرام فعلينا كلما سافرنا في أنحاء البلاد ، أو وردت إلينا بضاعة من الخارج ، أو ذهبنا إلى نزهة إلى الأهرام المجيدة ، علينا أن يذكر اسمه مقروناً بالحمد والاعتراف . واستطاع كذلك أن يبني لنا قصوراً عظيمة لدخل اليوم إلى واحد منها للتنزهة وهو حديقة الحيوان ، وتقيم وزاراتنا في بعضها الآخر ،
بل لقد اتسعت هذه القصور لغير أهل مصر . فعلينا جميعاً أن نترحم عليه كلما تنفسنا نفساً طلقاً أو تبسمنا للحياة .
ثم استطاع أن يشيد دار الأوبرا في ميدانها الفسيح ، وأن ينشئ دور الكتب والآثار ، ومعاهد العلم ، وأن يبعث البعثات . وأن وأن وأن. . .
ولم يخف من القيام بذلك الإصلاح كله في مدة حكمه القصيرة ، ولم يخف من الاستدانة . ونحن اليوم إذا أردنا
أن نحسب فوائد إصلاحاته الجمة ، أمكننا أن ندرك أنها ندر علينا من الفوائد المادية والعنوبة ومن المسرات ما يربو على فوائد تلك الديون التي تحملتها البلاد . وإذا كان أصحاب هذه الديون قد مكروا بإسماعيل العظيم وخادعوه في حساب الديون ، فليس ذلك بمانع لنا محن من عظيم الإعجاب بجرأته ، وثقوب نظره ، وحبه لمصالح مصر.
فإذا نحن سرنا على مبادئ العصر الحديث ، والتجأنا إلي الوسائل الاقتصادية السليمة في تدبير الاستدانة ، استطعنا أن نقوم بهذا الإصلاح العميم الذي نحس شدة الحاجة إليه وإلا قطعنا الدهر كله قطعة بعد قطعة ، ونحن ندب نحوال الإصلاح ، ولا نستطيعه . فليس أمامنا من وسيلة سوي أن نتجرأ ولا نخشي الدين كما كان يخشاء واضمو الأمثال . إننا نعيش في القرن العشرين ، فلا مناص لنا من مسايرة القرن العشرين .
لقد أصاب دولة رئيس الوزراء الهدف الذي نتطلع إليه جميعاً عندما قال : إننا نستعد للوثبة الجديدة استعداداً جديا ، وإذا كنا إلي الآن لم نخط خطوة عملية تبشر بتحقيق الأمل ، فقد وعد دولته بأنه سيتوفر على درس وجوه الصلاح دراسة صحيحة تمهيداً لأن يأخذ في أسباب تحقيق الآمال بالعمل لا بالوعود ؛ وإنها لكلمة طيبة ننتظر بعدها الفعل الطيب .
ولاشك أن الدراسة الصحيحة ستنتهي بنا إلي التأكد من أن العمل الذي تريده عمل هائل يحتاج إلي جهد الجبابرة والكنوز الزاخرة . فأما الجهد فكل مصري مطالب بأن يبذل منه ما تشاء المصلحة العامة ؛ وأما المال فقد كان دائماً عقبة كأداء ، فإذا وقف مرة أخري في سبيلنا كان علينا أن نتساءل : لم لا تستدين ؟
