الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 336الرجوع إلى "الثقافة"

لون من ألوان الفكاهة، المصرية

Share

امتاز المصريون بالفكاهة الحلوة يتفنون في صنعها ويتذوقونها ويحتفلون بها . لماذا ؟ لا أدري .

كما لا أدري لماذا كانت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب احسن الناس غناء دون ملايين المصريين

ولماذا كانت القاهرة اقدر على هذا الفن من غيرها من مدن الشرق كله ؟ لا ادري ايضا . . وليست المسألة

مسألة تقدم في المدنية والحضارة ، فهناك في المدن الغربية ما يفوق مدينة القاهرة مدنية ، ولكن لا يجاريها في النكتة ، وفي العالم مدن صغيرة فاقت في ذلك المدن الكبيرة كما فاقت مدينة رشيد الصغيرة فى ذلك مدينة طنطا الكبيرة .

والفكاهة أشكال وألوان . فهناك السخرية بالفكرة ، والسخرية بالاشخاص ، والتنكيت عن طريق التورية بالألفاظ ، الخ  الخ

ولوننا الذي نعرضه اليوم لون طريف له تاريخ لطيف . فقد حدث في القرن الماضي من سنة ١٨٥٧ إلى سنة ١٨٦٣ ان كان في القاهرة شابان موسران من اسرتين كبيرتين يعيشان عيشة بوهيمية ، وهما - إلى استهتارهما ومرحهما وإفراطهما في الشراب - اديبان ظريفان ، يقرآن الكثير من كتب الأدب ، ويعرفان الشعراء معرفة دقيقة ، ويتخيران الشعر الجيد يحفظانه ويرويانه ، ولهما مجلس ظريف فيه الشراب وفيه الشعر وفيه الفكاهة ، هما ابراهيم افندي طاهر ، وعبد الحميد بك نافع . فكان مما خطر لهما ان يستعرضا الادباء والعلماء في عصرهما ، ويخلعا على كل واحد منهما لقبا من القاب الأدباء القدماء يناسبه ويلبسه وينسجم معه .

وهي مهمة ليست باليسيرة ، فلكل اسم وحيه ودلالته ، ولابد ان يتفق وحي اللقب مع الملقب به اتفاقا بارعا يقابله

الجمهور بالضحك والاستحسان . فبعض الأسماء لو سمي به كناس كان مناسبا ، ولكن لو سمي به اديب اوشاعر  او وزير لم يكن منسجما ، وهكذا . . وبعض الاسماء يوحي بالظرف . وبعضها يوحي بالثقل ، وبعضها يوحي بالذكاء . وبعضها يوحي بالغباء ، وهكذا .

وأثار عملهما هذا ضجة في الأوساط الأدبية فأشاع فيها الضحك والمرح حينا ، والغضب والخصومة حينا ، فكانت معركة حامية لطيفة . ونحن نذكر بعض القابهما .

كان في القاهرة " علي أغا الترجمان " ، وكان عينا من الأعيان ، فيه جلال ووقار ، بعمامة نظيفة وشيبة ظريفة فسمياه " القاضي الفاضل " .

وكان " عبد الله باشا فكري " أديبا ظريفا ، رقيق اللفظ ، عذب العبارة ، سهلا في طباعه يرسل الحديث على سجيته ، والنكتة على فطرته ، فسمياه " ابن سهل " .

وكان له صديق اسمه " عبد الغني بك فكري " ضخم كبير الرأس ، فسمياه الأخطل " . وعرض عليهما " محمود صفوت الساعاتي " الشاعر المشهور ، وكان نحيفا قصيرا كثير اللفتات والحركات فسمياه " ديك الجن " . وقد غاظه هذا اللقب لما شاع في الناس ، وعمل قصائد هجاء في إبراهيم افندي طاهر

وكان الشيخ ابراهيم الدسوقي ، الاديب المصحح في مطبعة بولاق ، طويل القامة ، قوي البنية ، كبير الهامة ، كثير الفكاهة ، حلو السمر ، يجلس عند الباب الأخضر لسيدنا الحسين ويسمر مع اصحابه ، وله ضحكة عالية تسمع من آخر الشارع ، فسمياه مهيار الديلمي والشيخ محمد قطة العدوي ، احد علماء  الازهر ، وكبير مصححي المطبعة الأميرية ، كان إذا درس تمايل يمينا وشمالا ، فإذا قال بيت شعر مال يمينا عند المصراع الأول ويسارا عند المصراع الثاني ، فسمياه " أبو شادوف " .

والسيد علي أبو النصر ، والشيخ علي الليثي كانا نديمي الخديو إسماعيل ، وكانا معروفين بالظرف والتنادر . وكان

أبو النصر طويلا جدا ، فسمياه " ابن العماد ( وسميا الشيخ على الليثي " أبو دلامة " إذ كان فكها مضحكا ، كما كان أبو دلامة للرشيد . وكان إبراهيم بك مرزوق أبي النفس شجاعا جريئا في قول الحق حتى نفي إلي الخرطوم ومات بها ، وكان شاعرا قويا ، فسمياه " أبا فراس " .

ومحمود سامي البارودي ، كان ايام هذه التسمية جميل المنظر ، لطيف القد فسمياه  ابن رشيق " .

ومحمد عثمان جلال الزجال كان اديبا ماجنا يملأ القاهرة فكاهة ، فسمياه " الخليع البغدادي " .

والسيد صالح بك مجدي كان شاعرا ، وكان لونه يميل إلى السواد ، وفي عينه بعض حول فسمياه " الاحوص " . واسماعيل افندي الخربتاوي كان نحيف الجسم جدا من أكل الافيون ، وانحنت قامته ، وتقرنص فسمياه " ابن قرناص " .

والشيخ عثمان مدوخ صاحب التوشيحات والأزجال كان يمشي كأنه يتدحرج فسمياه " دعبل " .

والشيخ حسين المرصفي ، كان كفيفا نحيفا يتهم بالزندقة ، فلقباه " ابا العلاء المعري " ، ونسيبه الشيخ زين المرصفي كان قليل الكلام فسمياه " ابن السكيت " ومصطفى كامل افندي معلم اللغات الشرقية بخان الخليل ، كان قصير القامة ، قصير الرجلين ، بهما اعوجاج فسمياه " العكوك.

والشيخ  عبد الهادي الابياري ، كان يداخل الأغنياء ويحب الظهور ويتكلم دائما بنون التعظيم فيقول قلنا وفعلنا ويضخم العين في نطقه ، واخيرا ولي القضاء في بلدته " برمة " وما حولها ، وقد اشتهرت برمة بتفريخ الدجاج فسمياه قاضى الدجاج " .

ومحمد شراره أفندي كان ينطق بالصاد فيها صفير فقالا عليه إنه أفصح من نطق بالصاد وسمياه " أبا الشيص " . وكان للشيخ محمد بخاتي لحية صفراء كبيرة قليلة العرض

من بدايتها آخذة في العرض شيئا فشيئا إلي نهايتها فسمياه " ابن مكانس " .

وكان السيد أحمد الرشيدي إمام المعية أبيض اللون له هيبة ووقار غزير شعر الشارب كثيف اللحية يلبس فرجية واسعة فسمياه " هرقل " الخ

ولما فرغا من منح الألقاب طلب كل منهما من صاحبه ان يلقبه فلقب إبراهيم أفندي طاهر " بالشاب الظريف " وعبدالخميد بك نافع بالصاحب بن عباد وهكذا ملآ مصر بعملهما هذا مرحا وضحكا أيام كان الضحك رخيصا

اشترك في نشرتنا البريدية