لقد أحببتها حب جنون .. ولا تسلنى لماذا يحب المرء، وهو إذا ما أحب تغيرت حاله وبات لا يرى من الناس إلا شخصا واحدا، ولا يختلج قلبه إلا برغبة واحدة، ولا تهمس شفتاه إلا اسما واحدا يتصاعد من أعماق الروح كما تتصاعد المياه من الينابيع .. اسما واحدا يردده العاشق على الدوام ويهمس به حيثما كان كالصلاة .
سأروى لك قصة حبنا، وما قصتنا إلا قصة الحب الخالدة التى لا تتغير أبدا الدهر ..
لقد قابلتها يوما وأحببتها .. هذا كل ما جرى .. ثم عشت معها حولا كاملا ذقت خلاله صفو الحياة وانطلقت بدنيا الحب ألحق بأجواء الغرام، أغرد فى أنس وأسكن فى أمن .. فكان لى من حبها دنيا جعلتنى سعيدا خليا لا أبالى بمقامى أو مآلى ..
ثم ماتت .. كيف ماتت .. لست أدرى ..!؟ كل ما أعلمه انها عادت إلى البيت ذات ليلة ماطرة مبللة الثياب. وفى اليوم التالي انتابتها نوبة من السعال أخذت حدتها تشتد يوما بعد يوم. ومضى أسبوع على هذا الحال فلزمت الفراش .. أما ما حدث بعد ذلك فلا أذكر منه إلا أن الأطباء حضروا وفحصوا الداء ووصفوا الدواء، وجاءت بعض النسوة لرعايتها وتمريضها .. كانت يداها ملتهبتين وجبينها يشتعل نارا وعيناها لامعتين حزينتين، وكنت أحدثها وتحدثنى .. أما ماذا كنت أقول وماذا كانت تجيب فلست أدرى .. فقد نسيت كل شئ .. ولست أذكر سوى أنها ماتت، وسوى تلك الآهة الواهنة التى انفلتت من بين شفتيها ساعة انطلقت روحها إلى بارئها
وحضر الكاهن وسمعته يقول لى .. (أهذه خليلتك ؟) فخيل إلى أنه يسئ إليها وينتهك حرمة الموت فطردته شر طرد،
وجاء غيره وكان وقورا طيبا، فراح يحدثنى عنها بلطف واحتشام ومقلتاى تهرقان الدمع مدرارا ..
وجاء المشيعون، وأودعوها نعشها، وثبتوا غطاءه بالمسامير
ثم حملت إلى المقبرة - مثواها الأخير - وواروها فى جثوة ضيقة عميقة باردة .. وأذكر أنى هربت، ورحت أعدو من شارع إلى شارع كمن به مس من الجنون، حتى بلغت البيت .. وفى اليوم التالى رحلت
وقد عدت يوم أمس .. ولما دخلت غرفتها ورأيت أثاثها وكل ما خلفته وراءها مر بخاطرى شريط متتابع الصور من الأمس الحبيب، فعاودتنى الأحزان وعصرت قلبى عصرا، وشعرت برغبة ملحة فى أن أقذف بنفسى من النافذة .. ولم أستطيع البقاء بين تلك الأشياء وبين تلك الجدران التى كانت تحتويها، فقد كنت أشعر بأنفاسها مازالت عالقة بجو الغرفة .. فاختطفت قبعتى واندفعت هاربا .. وفى طريقى إلى الباب مررت بالمرآة الكبيرة القائمة فى البهو - تلك المرآة التى وضعتها هى هنا لتتأمل فيها نفسها وتصلح من شأنها كلما أزعمت الخروج
واقتربت من تلك المرآة التى طالما انعكست صورتها على صفحتها، وخيل إلى أنها مازالت هناك .. فانتابتنى الرعدة وجرى فى جسدى تيار بارد، وتعلقت عيناى بالمرآة - ذلك الزجاج المنبسط الفارغ الذى طالما احتواها وملكها بكليتها كما ملكتها يوما وملكتها عيناى .. وشعرت كأنى أحب ذلك الزجاج الأملس فمددت يدى إليه فإذا هو بارد لا حياة فيه .. آه منك أيتها المرآة الفارغة الرهيبة ! وآه من تلك الأحزان القاتلة التى تبعثينها فى قلوب الرجال !
سعيد ذلك الرجل الذى يستطيع أن ينزع من قلبه كل ما احتواه ويسدل على أمسه سترا ويكفن ماضيه ويواريه حفرة نائية، يا إلهى لشد ما أتعذب.!
وخرجت من البيت دون ما شعور أو تفكير ورحت أضرب فى شوارع المدينة على غير هدى، حتى وجدتنى أتجه إلى المقبرة .. وهناك وجدت قبرها البسيط وعليه صليب أبيض من الرخام حفرت عليه هذه الكلمات -
(أحبت وأحبت، ثم ماتت) ... نعم ماتت، وهاهي هنا تحت الثرى وقد تعفنت وحالت إلى تراب .. يا لله .. وبكيت طويلا ورأسى مسند إلى قبرها ..
ثم بدأ الظلام يرخى سدوله. واكتسحتنى رغبة جنونية - رغبة العاشق اليائس - فى أن أقضى آخر ليله بجانب قبرها. ولكنى خشيت أن يبصر بى أحدهم، فما العمل .؟ ليس أمامى إلا الحيلة .. فرحت أتجول فى مدينة الموتى وأتنقل من هنا إلى هناك .. ولشد ما بدت لى هذه المدينة صغيرة بالنسبة لمدينة الأحياء .. ولكن ساكنيها ولا شك أكثر عددا وعديدا .. ومع ذلك فهم يقنعون بهذه البيوت الوضيعة بينما نحنو الأحياء نطلب القصور العالية والشوارع الواسعة والمأكل الشهى والمشرب العذب، لنعود فى النهاية إلى التراب وننظم إلى أجيال الموتى التى سبقتنا؛ ويطوينا المجهول وإياها بردائه
وقادتنى قدماى إلى طرف المقبرة حيث تقوم القبور القديمة المتآكلة الصلبان والتى حالت أجساد ساكنيها إلى تراب لا يلبث أن يصبح مهدا للمزيد من الأموات .. وكانت الأزهار فى هذا الركن تقف على سيقانها سقيمة الحسن ذاوية البهجة. ولا عجب، فأنها ترتوى من ماء الأبدان .. ولم يكن فى هذا الجزء أحد من الأحياء، فتسلقت شجرة عتيقة واختبأت بين أغصانها، ومكثت هناك طويلا متعلقا بجذع الشجرة كما يتعلق الغريق بحطام السفينة
وأخيرا نفض الليل على المكان حالكات نقابه، فنزلت من مخبأى وأخذت أسير ببطء وحذر فوق تلك الأرض المليئة بالموتى .. وتجولت بين القبور دون أن أهتدى إلى قبرها .. فسرت باسطا ذراعى أمامى اتحسس طريقى، ولكنى لم أعثر على قبرها .. وأعدت الكرة فلم أترك شيئا إلا ولمسته .. الصلبان والأحجار والأسوار الحديدية وأكاليل الزهر الاصطناعية وأكاليل الزهر الذابلة اليابسة، وقرأت أسماء أصحاب القبور بأطراف أصابعى، ولكن دون جدوى .. يالها من ليلة .. فقد كانت ليلة ضريرة النجم والقمر، ملأت قلبى رعبا وفزعا وأنا أتنقل فى الممرات الضيقة بين القبور. ولم يكن هناك سوى قبور. قبور فى كل مكان .. ومن ثم جلست على واحد منها بعد أن نال منى التعب وتملكنى اليأس. وكنت أسمع دقات قلبى بوضوح وأنا جالس هناك وحيدا مرتعدا .. ثم طرق أذني صوت آخر غامض انبعث من جوف الظلام أو باطن الأرض المزروعة بأجداث الموتى .. فتلفت حولى وأنا أكاد أختنق من الخوف والرعب. وفجأة شعرت أن السطح الرخامى الجالس فوقه قد أخذ يتحرك كأن يدا تدفعه .. فوثبت إلى قبر مجاور
ونظرت إلى القبر الذى كنت جالسا عليه فرأيت الحجر يرتفع ومن تحته هيكل بشرى يدفعه بظهر متقوس وبرغم الظلام الحالك فقد كنت أراه بوضوح، وقرأت على صليب قبره هذه الكلمات -
(هنا يرقد جاك أوليفانت الذى توفى عن ٥١ عاما وكان محبا لأسرته لطيفا شريفا، ومات فى محبة الله .)
وقراء الهيكل أيضا ما كان مكتوبا على قبره ثم انحنى والتقط حجرا صغيرا مدببا وراح يمسح ما كتب عنه بكل عناية حتى طمسها جميعا، وأخذ ينظر إلى ما فعل من محجريه الأجوفين .. وبخط أشبه بما يكتبه الأطفال على الجدران بالطباشير راح يكتب بعظمة إصبعه هذه الكلمات (هنا يرقد جاك أوليفانت الذى مات عن ٥١ عاما، ولقد عجل بوفاة والده بسبب معاملته الفظة وطمعه فى الحصول على الإرث .. وكان يعذب زوجته وأولاده ويخدع جيرانه ويسرق، وفى النهاية مات تعيسا شقيا )
وبعد أن فرغ الهيكل من كتابته انتصب بعظامه يحدق فيما خطت يده، وعندما تحولت بنظرى عنه شاهدت أن جميع القبور قد فتحت وانسلت منها هياكل ساكنيها وراح كل منهم يمسح ما كتب الأقارب والخلان على صليبه ويكتب مكانها بنفسه ما يعرف عن حقيقة نفسه. ولشد ما كانت دهشتى حين تبين لى أنهم كانوا جميعا كذابين منافقين، حاسدين أفاقين، معذبين لزوجاتهم وخادعين لجيرانهم، سارقين، ارتكبوا كل منكر وشائن ... كانوا جميعا الآباء الطيبون منهم والزوجات الوفيات والأبناء البررة والبنات العفيفات والتجار الأمناء، يكتبون على عتبات مثواهم لأبدى حقيقة أنفسهم المروعة تلك الحقيقة التى لم يكن أحد غيرهم يعرفها أو كان يعرفها ويتجاهلها عندما كانوا أحياء يرزقون
وخطر لى عندئذ أنها ربما تكون هى الأخرى قد كتبت حقيقة نفسها فرحت أعدو بين القبور المنشورة وسط الهياكل والأجداث الى حيث يوجد رمسها. ولم أجد صعوبة فى الاهتداء إليها هذه المرة، وعرفتها فى الحال رغم اختفاء وجهها تحت ملاءة بيضاء .. وعلى الصليب الرخامى حيث قرأت منذ حين أنها أحبت (وأحبت ثم ماتت) طالعتنى هذه الكلمات - (خرجت ذات يوم غزير المطر لتخون حبيبها فأصيبت بنزلة برد وماتت ..) ويبدو أنهم عثروا على فجر اليوم التالى ملقى على القبر مغشيا على ..

