الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 855الرجوع إلى "الرسالة"

ليلة في الصرب، قصة الكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز

Share

الساعة الحادية عشر ليلاً، تلك الساعة التي يغلق فيها مسرح  باريس أبوابه. وقد أخليت المقاهي والمطاعم من روادها قبل ذلك  بنصف ساعة.

وعلى إفريز الشارع، وقفنا زمرة حائرين. كانت جموع  الناس تخرج من أماكن اللهو فتختفي في ظلمات الشارع، والمصابيح  ترسل ضوءاً خافتاً سرعان ما يمتصه الظلام، والسماء الحالكة تجذب  إليها الأنظار بتلألؤ أضوائها، فيتطلع إليها الناس في نظرات من  اقلق. فقد كان ذلك الامتداد الفجائي للنور الكاشف أحياناً  ما يكشف عن منطاد، تغمره الأشعة فيبدو كالسيجار المتوهج.

وشعرنا بالرغم في الاسترسال في سهرتنا. ترى أين نذهب  وقد أغلقت باريس المكتئبة كل أبوابها؟. . . وحدثنا أحد  الصربيين عن مطعم لفندق معين، مفتوح الأبواب طول الليل،  يستقبل رواده من الضباط، فيدلفون غليه خلسة وكأنهم من  أصحابه. وكان يتردد عليه سراً إخوان في السلاح من مختلف الأمم،  قد قدموا إلى باريس لقضاء بضعة أيام فيها. وقصدناه، ودلفنا إلى  قاعة استقباله في احتراس، فشعرنا بالفارق الهائل بين أنواره  الباهرة وظلام الليل المداهم. كانت القاعة أشبه ما تكون بمدخل منار كبير، وقد أنعكس من مراياها عناقيد الثريات الكهربائية،  فخيل إلينا أننا ارتددنا بأعمارنا عدة سنوات. النساء بزيناتهن،  والشمبانيا، وتنهدات القيثارة، وزنجي يرقص وقد ارتعشت  أجزاء جسمه في الحرارة - كان كل ذلك من مشاهد عهد ما قبل  الحرب. بيد أنه لم يكن هناك من الرجال من يرتدي لباس السهرة.

وكان الجميع من فرنسيين وبلجيكيين وإنجليز وروسيين  وصربيين - مرتدين حللهم الرسمية الرثة، وقد علاها  الغبار. وكان بعض الجنود الإنجليز يعزفون على القيثارة،  فيصفق لهم القوم في ابتسامات باردة كالرخام، وقد جلسوا مكان  فرقة الغجر الموسيقية. وأومأت السيدات إلى جندي منهم يهمس  باسم والده اللورد - صاحب الملايين الشهير، وهو ينشد قائلاً    (دعونا نبتهج إيه الأخوان، فغداً نموت) .

كان كل هؤلاء الرجال الذين قربوا حياتهم لمذبح آلهة  الحرب، يشربون العرق في جرعات كبيرة، ويضحكون،  وينشدون، ويلقون بتحياتهم في حماس إلى أولئك الملاحين  المغامرين الذين كانوا يقضون الليل على الشاطئ، ثم يعودون في  صباح اليوم التالي لمجابهة العاصفة بشجاعة.

ولاح على الضابطين الصربيين المرفقين لنا، دلائل الرضا.  فقد زج بهما وطنهما إلى باريس، مدينة الأحلام، تلك التي ظالما  ملأت أفكارهما أثناء إقامتهما المملة بمعسكر في بلدة ريفية. وكان  كل منهم يعرف كيف يسرد قصته. موهبة عادية في بلد يكاد  يكون كل من فيه شاعراً. فعندما مر لامرتين بالمقاطعة التركية  بالصرب وقتئد منذ حوالي قرن، عجب لما للشعر من أهمية في تلك  المقاطعة: مقاطعة الرعاة والمحاربين. وكانت الأفكار والذكريات  تنظم شعراً في الأرض قلّ أن تجد فيها من يقرأ ويكتب. لقد مد  المؤرخون الوطنيون من أجل الإلياذة الصربية، بما نظم من  أناشيد جديدة.

ونذكر الضابطان وهما يحتسبان الشمبانيا، بؤس أيام  تراجعهما منذ أشهر مضت: الكفاح ضد الجوع والبرد، والمعارك  التي دارت على الجليد، واحد ضد عشرة، وفرار الناس والحيوانات  في ارتباك مفزع، والمدافع الرشاشة والبنادق تنطلق دون انقطاع  إلى مؤخرة الطابور، والقرى المحترق، والجرحى، والمشردون  يئنون وسط اللهيب، والنساء المشوهات ولقد حامت حولهن  الغربان، وفرار الملك بطرس العجوز، الكسيح من مرض  الروماتزم، دون أن يكون له معين سوى عصاه الخشبية، وقد  أخذ هو ومن معه من حاشيته يتسلقون الجبال، محني القامة،  صامتاً، يتحدى القدر وكأنه أحد ملوك شكسبير.

وراقبت الضابطين الصربيين وهما يتحدثان. كان كلاهما في  غضارة الصبا، قوياً ممشوق القمة، ذا أنف اقني كأنه منقار  النسر، وشارب مدبب الطرف، وقد انفلتت خصلات الشعر من  تحت قبعتيهما الصغيرتين. وارتدى كلاهما حلة في لون الخردل،  ولاح عليهما الهدوء الذي يضفي على الشجعان الدائبين على نفض  الموت من فوق أكتافهم.

واسترسلا في الحديث: تكلما عما حدث منذ شهور قلائل،  وكأنهما يتحدثان عن مغامرات ماركو كرايلوفتش   (السيد)   الصربي الذي تسلح بأفعى كأنها الحربة، ليحارب بها شاربي الدماء  بالغابات، ومال يهما الحديث إلى ذكريات طفولتهما القاسية.

ثم قام صديقنا الفرنسي، وأستأذن ورحل، وكان أحد  الضابطين يقطع استماعه إلى الحديث بالتطلع إلى مائدة جانبية.  كانت ترنو غليه عينان حالكتان، تعلوهما قبعة من الريش الحرير  الأبيض، ولا شك أنهما استرعتا ناظريه، فقد هب واقفاً كأنما  أنجذب بدافع لا يقاوم، وسارة صوب تلك المائدة وإن هي  إلا لحظات حتى اختفى، واختفت معه القبعة الحريرية.

وتركت وحيداً مع الضابط الآخر، وكان أصغر من رفيقه سناً  وأقل منه حديثاً. وأرتشف رشفة من قدحه وهو يتطلع إلى الساعة  الموضوعة على المقصف. ثم أرتشف رشفة أخرى؛ وأخيراً نظر  إليّ تلك النظرة التي تسبق دائماً الإفضاء بسر خطير. وأدركت  حاجته إلى الإدلاء إلي بحادث مؤلم يعذب ذاكرته ونظر إلى  الساعة مرة أخرى: كانت الواحدة صباحاً.

وعلى حين غرة، أخذ يصيغ حديث الصامت في كلمات، قال  - حدث ذلك في هذا الوقت، منذ أربعة أشهر. . .

وأخذ يتابع حديثه، وأنا أتخيل معه الليل الحالك، والجليد  الذي يغمر الوادي، والجبال الناصعة البياض المغطاة بأشجار  الزان والصنوبر، وقد هزة الريح إفنائها فتساقطت منها ذرات  البرد الأبيض. ورأيت أطلال قرية، ترابط فيها فرقة صربية،  آخذة في التراجع صوب البحر الأدرياتيكي.

كان صديقي يقود مؤخرة هذا الحرس، كتلة من الرجال،  محلة أصبحت قطيعاً من الرعاع. يرافقهم أهل القرى في ذهول  من الألم والخوف، فيتحر كون بلا إرادة كالآلات، وينساقون إلى

الأمام كالحيوانات، وكانت النساء، الداكنات، المشوقات،  القويات، يسرن في صمت فاجع، وينحنين على الأموات أثناء  مرورهن فينزعن منهم بنادقهم وذخيرتهم.

وبدا الظلام متوهجاً بضوء أحمر متلألئ من القنابل المتطايرة  بين الأطلال. فاستجاب إليها أعماق الليل وأقبلت معه التوهجات  القاتلة، وأز في الظلام الدامس الرصاص: حيوانات الليل الخفية.

كان كلما أتى الصباح، يبدأ الهجوم، وكانوا يجهلون عدد من  هناك، أولئك الذين يصطفون ضدهم في الظلام. أهم ألمان؟  نمسيون؟ بلغاريون؟ أمأتراك؟. لقد فرض عليهم أن يجلبوا  الكثيرين منهم.

وأسترسل الصربي في الحديث قال:   (كان لا مناص لنا من  التراجع، مخلفين وراءنا أولئك الذين يعوقون تقهقرنا. وكان لزاماً  علينا أن تصل إلى الجبال قبل أن يتنفس اصبح) .

وكان الطابور الطويل من النساء والأطفال والكهول  وما أختلط بهم من قطيع الحيوانات قد أبتلعهم الليل، ولم يبقى  في القرية سوى الرجال القادرين، يحاربون من مخابئهم بين الأطلال  وقد أخذ جزء منهم فعلاً في التقهقر.

وبغتة، انتابت الضابط ذكرى قاسية.

الجرحى ما الذي تفعله بهم؟ كان أكثر من خمسين رجلاً  ممددين على القش في حظيرة مزقت القنابل سقفها. رجال يعانون  آلاما مبرحة، رجال مذهولون، يتململون في نومهم ويثنون،  جنود أصيبوا بجراحهم منذ أيام مضت، واستطاعوا أن يجروا  أنفسهم جراً إلينا، وجنود أصيبوا في ذات الليلة يتبعهم سيل من  الدم الجديد، وقد ضمدت جراحهم بضمادات مستعملة، ونساء  أصبنا بشظايا القنابل). .

ودلف القائد إلى ذلك الملجأ الذي تفوح منه خبيث الروائح  من الأجسام المتداعية، والدم الجاف، والملابس القذرة والأنفاس  المتصاعدة، وعندما تفوه بأول كلماته، تحرك أولئك الذين لا تزال  لديهم بقية من القوة، في تململ ومشقة تحت ضوء المصباح الوحيد  المتعالي دخانه، وصمتت الإناث، صمتة الدهشة والرعب، كما  لو أن هؤلاء الرجال المحتضرين يخشون شيئاً أكثر رهبة  من الموت.

من كتاب (كوكب المسعود في كوكية الجنود لابن إسحاق. ص٧٧)  إنه فى غزوة الطائف استخدم المسلمون الدبابات المصنوعة من جلود الأبقار التى لا تتأثر كثيراً مقذوفات العدو ، وتقدموا بها نحو السور لإحراق الأمكنة المجاورة له . غير أن أفراد قبيلة ثقيف المحصورين في البلدة بدأوا يرمونها بقطع من الحديد الحياة بالنار ... ( حاشية من ٢٥٠ ، ٢٥١ من المرجع السابق ) .

ويبحث الأستاذ محمد حسين هيكل في كتابه : حياة محمد ، عن استخدام المسلمين الدبابات في غزوة الطائف بشيء من التفصيل فيقول :

إنه لم يكن من اليسير أن يقتحم المسلمون هذه الحصون المنيعة إلا أن يلجؤا إلى وسائل غير التي ألفوا حتى اليوم حين حاصروا قريظه وخيير ... فما عسى أن تكون هذه الوسائل الجديدة التي يهاجونها بها ؟ ...

وكان لبنى دوس (إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكة ) علم بالرماية بالمنجنيق ومهاجة الحسون في حماية النيابات . وكان أحد رؤسائها الطفيل قد سحب محمداً منذ فزا خيير ؛ وكان معه عند حصار الطائف ؛ فأوقده النبي إلى قومه يستنصرهم ؛ فجاء بطائعة منهم ومعهم أدواتهم ؛ فبلغوا الطائف بعد أربعة أيام من حصار المسلمين إياها . وربي المسلمون الطائف بالمنجنيق وبشوا إليها بالدبابات دخل تحتها نفر منهم ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، ولكن رجال الطائف كانوا من المهارة بحيث أكرهوا هؤلاء على أن يلوذوا بالفرار . فقد أحوا قطعاً من الحديد بالنار ، حتى إذا انصهرت القوها على النيابات فرقها ، فشر جنود المسلمين من تحتها خيفة ان يحترقوا . (حسين هيكل ، حياة محمد ص ٤٢٠ ، ٤٢١ ) .

ويظهر أن الدبابات في السابق وإن كانت لها قيمة كبرى في الحروب لإخافة السدو وإثارة ضجيجهم ، فإليها لم تنل حظا في إحراز النصر حيث كانت عرضة للاحتراق، فإن موادها المركبة من الجلود والأخشاب كانت سريعة التأثر بالنار . وقد حاول المهندسون المسلمون عبئاً إيجاد بعض الوسائل التقيها من الأخطار المعهودة ، فاستعملوا الجلود المبلولة بالماء والمسقاة بالحمل ولكنهم لم يفلحوا .

ويحدثنا الأستاذ أحمد بدوى في مقال له تحت عنوان «القوة الحربية في مصر والشام كتبه في مجلة الرسالة عدد ۸۰۹ وتاريخ ١٤ - مارت - ٩٤٩) نقلا عن ( النوادر لا بن شداد ، ص۱۰۳) عن عظمة الدبابات التي استخدمها العدو في حصار عكا، بما يلي :  

صنع العدو ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها الجلود. المسقاة بالخل بحيث لا تنفذ فيها النيران ؛ وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال عالية على سور البلد ، ومركبة على مجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر : ويتسع سطحها لأن ينصب عليه منجنيق ، وقد ملا ذلك نفوس المسلمين خوفاً ورعبا ، وينس المحاصرون في المدينة ، ورأوها وقد تم عملها ولم يبق إلا جرها قرب السور . وأعمل صلاح الدين فكره في إحراقها ووعدهم على ذلك بالأموال الطائلة والسطايا الجزيلة ، ولكن ضاقت حيلهم عن ذلك . وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه إن له صناعة في أحرانها وأنه إن مكن من الدخول إلى مكا وحصلت الأدوية التي يعرفها أحرقها ، فحصل له جميع ما طلبه ، ودخل إلى مكا وطبخ الأدوية مع النقط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار ، ثم ضرب واحداً بقدر فلم يكن إلا أن وقت فيه ، فاشتمل من ساعته ووقته ، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستنات المسلون بالتهليل، وعلاهم الفرح حتى كادت مقولهم تذهب ، وينها الناس ينظرون وتعجبون إذ ربى البرج الثاني بالقدر الثانية فما كان إلا أن وصلت إليه واشتمل کالای قبله فاشتد ضجيج الفشين ، وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالهب. وفشى الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوى الأحلام » .

وحسب ما تعلم كانت هذه المواد في زيت النفط والكبريت والجير والفقار فتتكون من خلطتها النار اليونانية . وقد أشار إلى استعمال المسلمين هذه النار في الحروب الصليبية الأستاذ كرستان لوبون في كتابه ( المدنية العربية ، ص ٥١٤ / ٥١٥ ) .

ويروى الأستاذ أحمد بدوى في المقال السابق الذكر نقلا عن خطط الفريزي ، ج ١ ص ٣٤٧ ) أن الفريج ها جوا دمياط سنة ٦١٥ في آخر أيام العادل وعملوا آلات و مرسات وأبراجا متحرك

اشترك في نشرتنا البريدية