الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 244الرجوع إلى "الرسالة"

ليلى المريضة فى العراق

Share

.  . . وبكّرت إلى منزل ليلى بكور الندى لأدعوها إلى شهود حفلة الافتتاح. فوجدت الشقية فى الفستان المصرى الفضّاح الذى زارت به معرض القاهرة فى ربيع سنة ١٩٢٦، وكان يجب على ذلك الفستان أن (يذوب)  بعد أن (ذابت)  به أكباد وقلوب، ولكنها حفظته تذكِرةً لحبها الأول، الحب المشئوم الذى أورثها الضنى والذبول، الحب الذى عجز عنه الأطباء والذي أجاهد فى خلاصها منه بحب أقوى وأعنف، إن كانت الصبابات القديمة أبقت فى عزيمتي ذخيرة للجهاد. . وقد اهتاجت الغيرة فى صدرى حين رأيت ذلك الفستان فكدت ألطم ليلى على خدها الأسيل. ثم تراجعتُ حين تذكرت أن بلواها من بلواي. وهل كان حبى فى بغداد أول حب حتى أنتظر أن تحبنى ليلى أول حب؟ إن المسكينة تعرف أن طبيبها من قدماء المحاربين، وتعرف أنه لم يحمل النظارة إلا بعد أن تعبت عيناه من نضال العيون. فليكن أنسها بحبى أنس الجريح بالجريح، ولتفهم أنى أشفيها من جواها لتشفينى من جواى وقديماً قال الشاعر :

يا خليليّ والرفيق مُعينٌ ... أسعفانى ببعض ما تملكانِ

أبتغي آسياً فقد عِيل صبرى ... من توالى الوجيب والخفقانِ

أبتغي صاحباً تولَّه قبلى ... وشجاه من الجوى ما شجانى

فلقد يُسعف الجريح أخاه ... ويواسى الضريب فى الأحزانِ * * *

وبعد تناول ما تيسر من الصَّبوح خرجنا فى السيارة إلى بهو أمانة العاصمة، فترجلت عند باب المعظَّم لتدخل وحدها، ومضيت أحمل آمالى وآلامى، فلما وصلت إلى مدخل البهو اعترضنى أحد الضباط قائلاً: سيدى، هذه الحفلة خاصة بالأطباء. فقلت: وأنا طبيب ليلى. فابتسم وقال: تفضل، تفضل وسألت بعد ذلك عن الرجل الشهم الذى أفسح الطريق

لطبيب ليلى فعرفت أنه السيد سليم محمود معاون مدير شرطة السير والمرور، وسيحدثنا الضابط عبد الحسيب فيما بعد أن الغرام بالأدب من أظهر صفات الضباط بالعراق وكانت ليلى تعرف أن طبيبها يكره أن تأخذها العيون، فنظرت فى أماكن السيدات فلم تجد أصلح من جيرة السيدة التى تنطق أسارير وجهها بأصدق معانى الكرم والنُّبل، عقيلة الرجل الشهم الذى يمثل المروءة المصرية فى العراق أما أنا فأخذت مكانى بين الدكتور عُسَيران والدكتور عَلاَّوى.

وكنت - مع الأسف - ذهبت إلى الحفلة وأنا أضمر الشر للأستاذ على الجارم ، فقد كِتب فى منهاج الاحتفال أنه (شاعر مصر)  وأنا أبغض الألقاب الأدبية. فلما وقف ليلقى قصيدته لم أصفق، وأعديت مَن حولى بروح السخرية فلم يصفقوا، ولكن الجارم قهرنى وقهر الحاضرين جميعاً على أن يدموا أكفهم بالتصفيق.

وغاظنى أن تصفق ليلى لشاعر يرى بحكم منصبه أنه رئيسى ، لأنه كبير المفتشين بوزارة المعارف المصرية. ولولا حكم الأقدمية لكنت الرئيس وكان المرءوس، ولكن ماذا أصنع وقد سبقني إلى الأستاذية بأعوام طوال؟ وأنا والله أظلم نفسى بهذا الكلام، فما أذكر أبداً أنى حقدت على إنسان. وما أذكر أبداً أنى عرفت معانى الحسد والضغن إلا على الدهر المخبول الذى يتسفل فيرفع الأدعياء. وقد هجمت على شاعرنا الجارم عدة مرات، وحاربته فى وزارة المعارف يوم رأى زميلى الأستاذ أبو بكر أن يكتب فى نشرة رسمية أنه أمير الشعراء. وقد عرف الجارم خطر ما أصنع، فكان هو أيضاً يحاربنى فى مكتب تفتيش اللغة العربية؛ ولولا سماحة الأستاذ جاد المولى بك لكانت النتيجة أن أعيش بين المفتشين بلا صديق فيا أيها العدوّ المحبوب الذى اسمه على الجارم، تذكر أنك كنت حقاً وصدقاً شاعر مصر فى المؤتمر الطبى العربى ، وستمر أجيال وأجيال ولا ينساك أهل العراق وهل تعرف مصر أنك رفعت رأسها فى العراق وأنك كنت

خليفة شوقى فى المعانى وخليفة حافظ فى الإلقاء؟ إنني أطلب المستحيل حين أطلب من مصر إنصافك. وهل أنصفتنى مصر حتى أنصفك؟ هل أنصفتنى مصر وكنت مجنونها وكانت ليلاى؟ يرحمنى الله ويرحمك، فعنده وحده جزاء المجاهدين ***

وعند نهاية الاحتفال دعوت ليلى للتسليم على سعادة العشماوى بك، وسعادة على باشا إبراهيم، وفضيلة الشيخ السكندرى أما العشماوى بك فسلّم تسليماً خفيفاً، سلم تسليم   (المتبالهين)  ليظهر أنه أكبر من أن يفتنه الجمال، والعشماوى بك  (يتباله)  فى جميع الأحوال، وقد درسته حق الدرس، فعرفت أنه يحمل كبداً أرق من أكباد المحبين، ولكن له قدرة عظيمة على   (التبالُه)  فمن الذي علّمه هذا الأسلوب؟ وقد حقدت عليه ليلى، فليعرف سعادته أن غضب ليلى سيحل عليه، وسيرى عواقب ذلك فى الأيام المقبلات! أمَا يَخِفَّ وُقارك مرة يا عشماوي بك ؟ اتق الذوق إن لم تتَّق الجمال ! وقد قهقه الشيخ السكندرى حين رأى ليلى وقال: كنت والله أحسبك تمزح يا دكتور زكى ، وما كنت أظن أنك جئت حقيقة لمداواة ليلى المريضة فى العراق والشيخ السكندرى معذور، فهو يظن أن العشق انتهى من الدنيا بعد قيس وليلاه، وأن الناس لم يعودوا يحبون غير الملوخية الخضراء! أما الدكتور على باشا إبراهيم فنظر إلى ليلى نظرة الأرقم وقال: ما أستطيع الحكم بشفاء ليلى إلا بعد أن أفحصها بنفسي ورأت ليلى أنى غضبت فقالت: إنى أحترم رأى سعادة رئيس المؤتمر الطبى، ولكنى أفضل الموت على الحياة فى سبيل الأدب مع طبيبي الخاص ولم أرد أن تطول اللجاجة بينى وبين رجل كان رئيس اللجنة التى أديت أمامها الامتحان النهائى فى كلية الطب، فأخذت بذراع ليلى وانصرفت وأراد سعادة العشماوى بك أن يترضانى فرفضت، لأنى كنت

أعرف ما يريد، وهل كان يريد غير إيناس عينيه بوجه ليلى ؟ اطْلَع من (دُولْ) يا سعادة الوكيل ! وفى الطريق سألتنى ليلى عن العشماوى بك، وقد ساءها أن يتلقاها بوجه صامت التقاسيم ، فشهدت عند ليلى بأنه رجل فاضل، وان جموده فى حضرتها لم يكن جمود استهانة، وإنما كان جمود تعقُّل، والرجال الرسميون يغلب عليهم التعقل فى أكثر الأحيان! فهل يعرف سعادة العشماوى بك أننى ذكرته بالخير فى حضرة ليلى ؟ لا أمُنُ عليه، فهو يستحق ذلك، وأكثر من ذلك ***

وفى مساء ذلك اليوم أرادت ليلى أن تحضر معى فى الحفلة التى أقامها فخامة رئيس الوزراء، فقاومتها مقاومة شديدة، وكانت حجتى أنها ستكون من الحفلات التى يختلط فيها الحابل بالنابل، وأنه ليس من العقل أن تتعرض ليلى لأنظار المئات من الناس وفيهم الفاضل والمفضول

وكنت على حق فى منع ليلى من حضور حفلة المساء، فهى امرأة محجوبة عن المجتمع منذ سنين؛ وسيكون مَثلها حين ترى اختلاط الرجال بالنساء مَثل العين الرمداء التى تواجه الشمس بعد أن حجبها الطبيب عدة أسابيع فى الظلام، ولكنها ألحت، ثم انتقلت من الإلحاح إلى التوسل، ومن التوسل إلى البكاء، والمرأة أقوى ما تكون حين تنتحب، فتخاذلت وقلت فى نفسى : لعل هذه اللجاجة تعود عليها بالنفع، ولعلها حين ترى تسامح المجتمع الحديث لا ترى غضاضة فى أن أغازلها حين أشاء ولكن هذا الخاطر تبدّد فى مثل لمحة الطرف، فأنا أعرف أن وزير المعارف من علماء النجف، وهو بالتأكيد يكره سفور المرأة، وإن ساير العصر فأباح اختلاط الجنسين فى المعاهد العالية. ومن المحتمل أن يكره ظهور ليلى في المجتمع بلباس السهرة. ومالي لا أقول الحق كله فأقرر أن أهل العراق في النجف وغير النجف ينظرون إلى سفور المرأة بعين الارتياب؟ مالي لا أذكر بصراحة أن أكثر وزراء العراق يكرهون حضور زوجاتهم فى الحفلات الساهرات ؟ مالى لا أنص - للحقيقة والتاريخ - على أن

وزراء العراق أكثرهم من رجال الجيش، والجيش يطبع أبناءه على الخشونة والصرامة والعنف، وأنهم لأجل ذلك من أغير الناس على كرامة ربات الحجال؟ وأخيراً أعلنتُ ليلى بالرفض المطلق، فأغربت فى البكاء والشهيق

غضبة الله عليك يا ليلى وعلى جميع بنات حواء! ورأيتُنى مع الأسف طفلاً فى حضرة هذه المرأة، فقد استبكتنى فبكيت ومع ذلك جمعت أشلاء عزيمتى وأصررت على الرفض وعندئذ تدخلت ظمياء وهى تقول: هل لك أن تسمح بأن تخرج ليلى معك فى ثياب فتىً من الأعراب ؟ فكدت أطير من الفرح لهذا الاقتراح الطريف، ومضت ظمياء فأحضرت ملابس ابن عمها عبد المجيد، فلبست ليلى بسرعة البرق، وخرجت معى

ولكنا ما كدنا نخطو بضع خطوات حتى تنبهت إلى الخطر المخوف، فقد تذكرت أن ليلى وهى فى ثياب الفتى البدوى لن تقضى السهرة كلها فى صمت، وهل يمكن لامرأة أن تسكت ؟ وليلى تملك صوتاً هو فى ذاته من كبريات الفضائح، وقد نصصت فيما سلف على أن لصوتها رنيناً مبحوحاً لم تسمع مثله أذناى على كثرة ما تذوقت من بُغام الملاح فالتفت إليها وقلت: ليلى، ليلاى ، اسمعى واعقلى ، فإن صوتك سيفضحنا فى الحفلة فقالت: أتعهد بالصمت المطلق فقلت: وكيف ؟ وهل أضمن السلامة من واغل سخيف يسلم على عمداً ليظفر منك بتحية، فتكون نبرة واحدة من صوتك المقتول نذيراً. بعواصف الفضائح ؟ ولنفرض انك تلزمين الصمت ويلزم الناس الأدب فكيف تخفين هذه المشية ؟ إن مشيتك يا ليلى فضيحة ولو لبست ثياب الجاحظ، والسامرون ينظر بعضهم إلى بعض، وأنت ستخطرين حتماً بين السامرين، وما أضمن أن يتأدب الجميع فلا تطرق سمعك  24-10

كلمة نابية أقع بسببها فى معركة تطنطن بها الجرائد فى مصر والشام والعراق اعقلى يا ليلى، اعقلى. . . ولكن اللئيمة لم تسمع، ومضت تخطر فى الطريق، فلطمتها لطمتين ورجعتها صاغرة إلى البيت، فودّعتنى وهى تقول: سلمت يداك، فإنى أحب الرجل البطاش * * *

دخلت الاحتفال فوجدته يموج بالطرابيش فتهيبت وتخوفت وانتظرت حتى يأخذ المدعوون أمكنتهم من السماطين، لأتخيّر مكاناً ليس فيه طرابيش . ولا أدرى ولا المنجم يدري كيف أخاف الطرابيش! وربما كان السبب فى ذلك أنى أريد أن أحيا فى الحفلة حياة سعيدة، وهى لا تكون كذلك إلا إن خلت من التوقر، وما يمكننى أن أخرج على التوقر فى حضور المطربشين. وهل لبست السدارة إلا لأنجو من عنجهية المطربشين ؟

عفا الله عن مصر ! فقد قتلت ما فى صدرى من شاعرية بفضل ما درجت عليه من التزمت والجمود ولكن أين أجلس على المائدة ؟ أين ؟ أين ؟ الحمد لله ! هذا مكان يزدان بعمامتين من وطن سيدنا عمر ابن أبى ربيعة رضى الله عنه ، وكان عمر بن أبى ربيعة من المجاهدين الذين قال فيهم جميل :

يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث عندهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد

ومن مزايا سيدنا عمر بن أبى ربيعة أنه وُلدَ فى الليلة التى مات فيها سيدنا عمر بن الخطاب . وقد اشترك هذان القرشيان فى الجهاد، فكان ابن الخطاب يغزو الممالك والشعوب، وكان ابن أبى ربيعة يغزو الأفئدة والقلوب

وأريد أن أقول إن عمر بن أبى ربيعة لا بد أن يكون ترك فى الحجاز بعض التقاليد الصالحات ، وقد أجاز له القرشيون أن يقول :

نظرت إليها بالمحصَّب من مِنًى ... ولى نظر لولا التحرج عارمُ

ولا يمكن أن يكون النظر إلى امرأة فى المؤتمر أخطر من

النظر إلى امرأة فى المحصَّب، وما جاز فى مكة وهى بلد حرام لا يمنع فى بغداد وهى بلد حلال وكلك اطمأننت على المائدة كل الاطمئنان ولكن ما هذه المفاجآت ؟ أرانى لا أخرج من مأزق إلا وقعت فى مأزق هذه عمامة ثالثة ، وهى من نوع خطر، لأنها عمامة وزير المعارف . . .

ونظرت فرأيتنى فرغت من التهام الحساء ، وتغيير المكان بعد ذلك باب من السخف وما الذي يخيفني من وزير المعارف وهو من كبار الشعراء ولا يخلو شاعر من صبوات؟ ما الذى  يخيفنى من جيرة شاعر سليم الذوق مثل معالى الأستاذ محمد رضا الشبيبي ؟

يخيفنى  أنه أديب صار وزيراً، وحياتى امتلأت بالأكدار والأوحال بفضل صحبتى لرجل أديب صار من الوزراء. وأنا فى هذه المذكرات لا أتجنى على أحد، وإنما أسجل صور المجتمع وكان فى مصر أديب يعطف على أدبى أشد العطف، فلما صار وزيراً فسد حالى عنده أشد الفساد. كان فى حاله الأول يقول: زكى مبارك شاب يجىء منه؛ وكان فى حاله الثانى يقول: مذهب زكى مبارك فى الأدب سيفسد عشرة أجيال

وقد تعبت فى تعليل هذه الظاهرة النفسية، ثم اهتديت إلى أن الأدباء الوزراء يهمهم أن يصححوا مراكزهم فى المجتمع، ذلك بأن المجتمع يتوهم وهو خاطئ أن الأدباء يستبيحون من ألوان الحياة ما لا نستبيح، فالأديب حين يصير وزيراً يضيع وقته فى تصحيح مركزه الذي جرّحته أوهام المجتمع، فينقلب إلى رجل متحرج متكلف لا يعوزه غير عمامة عجراء ليصبح شيخ الأزهر أو نقيب الأشراف

وكنت خليقاً بأن أعلل النفس بأن ما أخافه فى مصر قد لا أخافه فى العراق ولكنى تذكرت حكاية الثعلب الذى همّ بالرحيل عن مصر فى سنة ١٩١٦ فقد سألوه: لماذا تهاجر يا أبا الحصين ؟ فقال :

(ألم تعلموا أن السلطة العسكرية قررت جمع ما فى مصر من جمال ؟ فاعترض عمدة الباجور وقال : وهل أنت جَمَل ؟ إنما أنت ثعلب. فقال الثعلب وهو يحاور حضرة العمدة: إلى أن يثبت أنى ثعلب لا جَمَل أكون ضِعت

وكذلك أخشى أن أضيع قبل أن يثبت أن العقلية العراقية تباين العقلية المصرية . وعلى أساس هذا المنطق جلست على المائدة فى غاية من الأدب والاحتشام. وأنا رجل يزدان بالأدب فى قليل من الأحيان

ولكن معالي وزير المعارف ستشغله ألوان الطعام عن مراقبة ما يصنع زكى مبارك !!

وهل كنت مغفَّلاً حتى تفوتنى هذه الحقيقة الأولية ؟ وانتظرتُ حتى عَلَتْ قعقعةُ الشوكات والملاعق والسكاكين وأرسلت بصرى فرأيت امرأة تحادثنى عن بُعد بعينين ترسلان أشعة العذوبة والحلاوة والرفق

ورأيت الفرصة سانحة لدراسة هاتين العينين لأضع عنهما فصلاً فى كتاب  (سحر العيون)  الذى شرعت فى تأليفه منذ أعوام. وحضور هاتين العينين زاد اقتناعى بفوائد المؤتمرات، ولاسيما المؤتمرات الطبية، وسأكون بإذن الله عضواً فى جميع المؤتمرات لأجد الموادّ الشائقة لكتاب (سحر العيون)

ورأت المرأة أنى أسأت الأدب فصوبتْ سهام عينيها لتقتلنى ، ولكنها لم تفلح، فقد حاربتنى قبل ذلك عيون وعيون ثم نجوت. ولو كانت العيون تقتل حقيقة لكان لى ضريح يزوره العشاق فى باريس

فإن سأل قارئ هذه المذكرات عن جوهر هاتين العينين فأنى أجيب بأنهما توحيان الحب، ولا توحيان الإثم. وسأعيش ما أعيش وأنا أتشوق إلى تقبيل قدمى هذه المرأة التى سحرت المؤتمر وهى فى سذاجة الأطفال . وربما كنت أول من نظر إليها بعين الطُّهر والعفاف . ولو كنت مثَّالاً لاشتريت الساعة بألف دينار لأصنع منها تمثالاً يفضح تمثال أفروديت. وليتها تعرف ذلك فيستهويها حب المال ، لأنى لن أفرغ من صب تمثالها

فى أقل من عامين . وعلى عهد الله أن أقنع منها بما يقنع السارى من بدر السماء قلت فيما سلف إنى رجل مفضوح النظرات. وكذلك وقعتُ، فلم تمض لحظات حتى تنبه زوجها إليى ، فما كان يسير بها إلا وحوله جيش من المعارف والأصدقاء ليصد غارة الإثم والفتون

وماذا يهمنى ؟ إنه يتوهم أنى سأحاول مع زوجته ما حاوله عمر بن أبى ربيعة مع زوجة أبى الأسود الدؤلى فى الطواف ، ولكنه مخطئ، فأنا بالتأكيد أحسن أخلاقاً من أستاذى عمر بن أبى ربيعة ، وأنا قد تفوقت على أساتذتى فى أشياء كثيرة ، منها هذا الشىء . أنا أَجِدُّ وعمر كان يمزح ، وهل ترك ابن أبى ربيعة غير أشعار ملوثة بالمجون ؟ أما أنا فسأترك بعون الله ورعاية الهوى ثروة فلسفية تشرح ما استبهم من أسرار الجمال سيعادينى هذا الزوج وسأعاديه ، ولكنى سأعرف كيف أتقى شره فأدرس عَينيْ زوجته من بعيد بحيث لا يجرؤ على اتهامى بالفضول

وأسارع فأقرر أنى اشتركت فى جميع الحفلات والرحلات لأستطيع التمكن من دراسة هاتين العينين ؛ واستعنت بالدكتور محمد صبحى بك فى تحديد ما خفى عليّ من الدقائق البصرية، ولم يبق إلا شئ ولحد هو الوطن الذى تسرح فيه هذه العيون وكيف أصل إلى ذلك وزوجها بالمرصاد ؟ انتظرت وانتظرت ، ثم انتظرت، إلى أن جمع بيننا زحام المرقص بعد ثلاث ليال ، فدنوت منها فى خفية وقلت : tu mouplieras un gour !

فقالت فى عبارة تجمع بين العتْب والرفق: (دخيلك ، دخيل اللهْ ، اتركنى لحالى !) فعرفت أنها من بنات عمنا القديم دماشق بن قانى بن مالك ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام رباه ! أنت تعلم ما نعانى فى سبيل الحقائق الأدبية والذوقية والفلسفية ، وتعلم أن الناس لا يجزوننا بغير العقوق ، فاغمرنى بلطفك واكتبنى عندك من الصادقين  * * *

وأعود إلى حفلة رئيس الوزراء فأقول إنها كانت فى غاية من الجفاف ، فلم يشرب فيها المدعوون غير أقداح الماء القراح . وقد تشاكى السامرون بعضهم إلى بعض ، وعرف أحد الأطباء ما فى نفسى فقال : هل سمعت تصريح معال أمين العاصمة ؟ فقلت : لا . فقال : إنه يقول إن هذه الليلة من ليالى مكة ، وأنه سيرينا فى مساء الغد ليلة من ليالى بغداد

وطاش صوابى فمضيت أبحث عن أمين العاصمة لأسجل عليه الوعد ! فرأيته يحادث رجلاً عرفت فيما بعد أنه وزير المالية ، فما كاد يرانى حتى قال : أنا أفتش عليك يا دكتور مبارك فقلت : وأنا أفتش عليك يا معالى الأمين . ولكن قبل أن أخبرك لماذا أبحث عنك ، أسألك لماذا تبحث عنى ؟ فقال : كنت أحب أن أوجه نظرك إلى وجوب خلع السدارة فى السهرة فقلت : وأنا لا أخلع السدارة لأنى أكره أن أعطيها أدب القُبَّعَةِ

فقال : ولكن نحن اصطلحنا على خلع السدارة فى المجتمعات فقلت : هذا غير صحيح ، فقد رأيت عشرات من النواب يحملون السدائر فى حضرة جلالة الملك وهو يلقى بنفسه خطاب العرش . ورأيت ثلاثة من النواب يخطبون وهم مسدَّرون. وزرت معالى رئيس مجلس النواب فى بيته فكان يحمل السدارة وهو فى غرفة الاستقبال . والصحف تنشر صورة جلالة الملك مسدراً وهو يقرأ الفاتحة على قبر أبيه فقال : قلت لك إننا اصطلحنا على خلع السدارة فى المجتمعات فقلت : وأنا أرى الشواهد التى قدمتها كافية لإقناعك بوجوب التسامح فى هذا الاصطلاح فقال: أنت أستاذ وأعمالك قدوة، وأخشى أن أقول إنك تعطل ما نسعى إليه من جر الشعب إلى المدنية فقلت: وأنا أخشى أن تجروه إلى الحيوانية فظهر الغضب على وجهه وقال: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ وعرفت أن الموقف سيسوء فأسرعت إلى تحديد ما أريد وقلت: أقول يا معالي الأمين إن الإنسان هو الحيوان الوحيد

الذى يغطى رأسه ، وما عداه من الحيوان لا يعرف تغطية الرأس . وكذلك أحكم بأن كشف الرأس يقرب الإنسان من الحيوانية فأخذنى من يدى وانتحى ناحية وقالى : كيف تقول أمام معالى وزير المالية إننا حيوانات ؟ فقلت : معاذ الأدب أن أقول ذلك ، وإنما شرحت المسألة من وجهة علمية ، فقررت أن الإنسان هو الذى يغطي رأسه من بين سائر الحيوان

فقال : ولكنك على كل حال جرحتنى ، فان كنت جاداً فلتعلم أنه لا يستطيع أحد فى العراق ولا فى مصر أن يخاطبنى  بمثل هذا الكلام . وإن كنت مازحاً فاسمح لى أن أصارحك بأن للرجل أن يمزح ، ولكن ليس له أن يخرج على الذوق فقلت : ما كنت جادّاً ولا كنت مازحاً ، وإنما كنت أقرر حقيقة علمية فقال : يظهر أن ما سمعت عنك صحيح فقلت : وماذا سمعت ؟ فقال : سمعت وقرأت أنك رجل مشاغب ، ومن واجبى أن أنبهك إلى أنى سحبت منك الدعوة لحضور السهرة المقبلة فقلت : ذلك ما لا تملك فقال : ستعرف أن ذلك مما أملك وانصرف وانصرفت

ورجعت إلى منزلى مُبَلْبل الخواطر وأنا أقول : هذا ذنب ليلى ، هذا جزاء من يخالف ليلى ، فلو كانت ليلى معى فى السهرة لغُفِرت جميع ذنوبى ، فقد علمتنى التجارب أن الرجال الذين لهم زوجات سوافر تُقضى لهم مصالح لا تُقضى لأمثالنا أبداً ، نحن المحافظين المغفلين الذين يجهلون خُلق الزمان أيستطيع أمين العاصمة أن يحجبنى عن ليلة بغداد بعد أن أضعت من العمر ما أضعت فى التغنى بتاريخ بغداد ؟ أفى الحق أنه أعرق منى لأنى من مواليد مصر وهو من مواليد العراق ؟ سترى يا أمين العاصمة أينا أقرب إلى قلب بغداد ، وسترى فى الليلة القادمة كيف تلقانى وألقاك  (للحديث شجون)

اشترك في نشرتنا البريدية