أينَ غابَ اللحن مِنْ شَدْو الطيور ... أينَ غابْ
كيف صار الزهر من (قصر الزهور) ... في التراب
شعلة للمجد من نار ونور ... كالشهاب
سطعت ثم اختفت بين القبور ... كالسراب
أين غازي سيد العُرب الفخور ... بالغلاب
كان رمزاً فوق هامات العصور ... للشباب
التحيات الطيبات لقبر غازي الندي الريان الجاثم على ضفاف دجلة الجميل، في ظلال النخيل، حيث يرقد قائد العرب فيصل العظيم في مضاجع الخلود. هناك في الحلل السود تحت خفق البنود رفرفت أرواح الأسى والأحزان، من كل الجيران والإخوان؛ وفي هذا اليوم العصيب عادت نساء الشام تسفح الدمع الصبيب، على المليك الحبيب.
إن في كبد الشام زفرات لا هبات، إذ كادت تجدد بيعة فيصل لشبله غازي وتمد إليه الأيدي على الولاء والوئام، ففقدت بموته أملها الباسم وعرشها الحالم، ولكنها عاهدت النفس أن يعيش من بعده أهلوها الأباة إما أعزة أحراراً أو يموتوا كراماً. هذا يوم له ذكراه الأليمة في قلوب العرب. النساء يشاركن العراق في الأتراح بعد أن شاطرنه الأفراح في عهد أشبال الحسين الصناديد من هاشم وعبد شمس، المناجيد في غوث العروبة اللهيفة التي قبَّل أبناؤها الغطارفة الصِّيد على أيديهم الشريفة صفحات السيوف ومسحوا عنها الدماء فاستراحوا في ظلهم الرطيب من غدر الزمان وظلم الإنسان.
لهفي عليك يا غازي يا عبقري الشباب لم تمتع بالشباب؟! لقد تركت قافلة العرب في حومة الصحراء، ظمأى إلى الماء، وكأنها أطبقت الجفون الوسنى على أحلامها فيك وهي تسري على الرمال فتخطفتك المنون من بين العيون، فروعت القافلة، وتهاوت أمانيها العِذاب، فتاهت في أسراب الرمال، وغابت منها الأشباح والظلال، تنادي الآمال وتنشد الرجال.
يا حسرتاه على النسر الطيار كيف هيض جناحاه، وكان في الثريا فهوى إلى الثرى، وثنى رأسه الأشم بعد أن علا بجبينه الوضاح وروحه
القاحمة، فزاحم النجوم وحوم في آفاق الحق والجمال حتى حلق في أمجاد العرب، فضجت له البيداء والفيحاء بالتأييد والتمجيد، وأشرقت من تلك المسارب والمحاريب بأنوار الخير والسلام.
مَنْ كان يحسب من العرب أن ذلك فورة العمر ووثبة الموت وهبَّة الضوء قبل الانطفاء؟ لم يكن مأتم غازي في دنيا العروبة واحداً، وإنما كان حسرات موزعة في حبات القلوب، وحسرات منهلة من الصميم. على أن القلوب التي أحبك بها الناس فضموك في شغافها كانت لك في حياتك مهداً، هي التي احتوتك اليوم يا غازي بالذكرى فصارت لك لحداً. نساء دمشق يمجدن الساعة هذه الذكرى الخالدة التي تلاقت فيها مروءة الحسين وبطولة فيصل وشباب غازي وعروبة الهاشميين الميامين.
لقد حملت يا غازي أمانة جدك ورسالة أبيك وأنت طري العود غض الإهاب، فكتبت في سجل العرب الحديث صفحات نيرات، وأعدت المجد التليد، إلى دار الرشيد، ولم تضيع رعاية فيصل للمرأة العربية وعنايته بنهضتها، فكنت على رأيه السديد: لا يقوم بناء قوم إلا بالرجل والمرأة؛ فسرت يا غازي على نهجه ومهدت للإصلاح والفلاح من بعده؛ فعززت ثقافة الإناث وحدبت على نهضة المرأة في العراق. فيا ليت القدر لم يعجل باختطافك حتى تتم رسالتك وترى عبقريتك ممتدة في أرض الرافدين وحيثما ترفع راية القرآن. . . (دمشق)

