الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 243الرجوع إلى "الثقافة"

مأساة بيير كورى ( ١) ، مكتشف معدن الراديوم

Share

بدأ يوم الخميس ١٩ أبريل ١٩٠٦ مكفهرا عابسا ممطرا . وكان برنامح ببير كوري اليومي يتلخص في حضور مأدبة غداء في مقر اتحاد أساتذة كلية العلوم بباريس ، ثم الذهاب إلي ناشري كتبه لتصحيح بعض المسودات قبل أن ينتهي به المطاف كعادته اليومية إلي معهد الراديوم ليواصل أبحاثه .

ارتدي ببير ملابسه في عجلة وأسرع نحو الباب ، وقبل خروجه نادي زوجته ماري - وكانت في الطابق العلوي تساعد ابنتها إيرين وإيف على ارتداء ملابسهما - وسألها إذا كان في نيتها الذهاب إلى المعمل ، فأجابته بصوت غلبت عليه ضوضاء الشارع : إنها لن تتمكن في الغالب . ثم سمعت الباب يقفل بشدة ، وشعرت ببير يجري علي عجل كعادته .

وقضى ببير فترة الغداء مع زملائه الأسائذة في رابطتهم بشارع دانتون ؛ وفي الساعة الثانية والنصف هم بالإنصراف ، فودع اصدقاء مبتسما ، وسار نحو الباب . ولما فتحه نظر إلي السماء المكفهرة في تحد ، ثم نشر مظلته الكبيرة ومشي في اتجاه السين قاصدا دار جوتية فيلار للطبع والنشر ، فوجدها مغلقة بسبب إضراب العمال ، فعرج على شارع "دوفين" الصاخب بضجيح عربات النقل ومركبات الترام ، وكان هذا الشارع مشهورا بزحامه غير العادي ، وكان رصيفه ضيقا بدرجة لا تسمح بمرور أكثر من صف واحد من المارة في وقت واحد ؛ فكان ببير يسير أحيانا على الرصيف وأحيانا ينزل إلى عرض الشارع في خطي مضطربة غير ثابتة ؛ ولعله كان في ذلك الوقت يفكر في إحدي تجاربه ، فكان يتخبط في هذا البحر الخضم من الكتل البشرية والآلية . وإذ

هو في هذا الشرود الفكري حاول أن يعبر الطريق للوصول إلي الرصيف الآخر ، فلم يلق بالا إلى عربة نقل كبيرة يجرها حصان آتية من الجانب الآخر ، فاصطدم ببير بأحد الحصانين ؛ ولما افاق من دهشته حاول أن يتعلق بصدر الحصان ليتفادي الوقوع تحته ، ولكن الصدمة كانت أشد من ان تمكنه من ذلك ، ويرغم محاولة السائق البائسة إيقاف حصانيه ، فقد استمر الأخيران في اندفاعهما ، وصاح عشرات المارة في فزع أن " قف ! قف " ولكن هيهات ! فقد وقع ببير تحت سنابك الخيل

ومرت عليه الخيل ، ولكنه لم يمس بأي سوء ، بل بقى في مكانه لا يتحرك ولا يصرخ ؛ وكان يمكن المعجزة أن تحدث وينجو بحياته ، لولا أن أبدفاع العربية بحملها الثقيل البالغ ستة أطنان عجل بالنهاية المحزنة ؛ فقد صادفت العجلة اليسري الخلفية عقبة سهلة غير كؤود حطمتها بسهولة ، وهي رأس بيبير كوري ! وتكسرت عظام الجمجمة وتناثرت منها في الوحل مادة لزجة هي مخ بيير كوري !

وأسرع رجال الشرطة يحملون الجثة الهامدة التي انتزعت منها الحياة في اقل من لمح البصر ؛ وحاولوا إيقاف إحدى العربات لحمله إلى أقرب مركز إسعاف ، ولكن كل السائقين أظهروا عدم اكتراث واستمروا في سيرهم عند ما رأوا ان جثة رجل غارقا في دمائه وملوثا بأوحال الطريق هي الحمل المنتظر ! ومرت الدقائق ، وأخذت الناس تتجمع حول الجثة وحول العربية وسائقها المسئول عن الحادث . وأخيرا أحضر رجلان نقالة ، وحملت الجثة إلي أقرب صيدلية لإجراء إساعات غير لازمة ، ثم نقلت بعد ذلك إلى مركز الشرطة المجاور ، وهناك فحصت أوراقه وحافظة نقوده . ولما انتشر بين الجموع ان ضحية الحادث هو ببير كوري العالم الكبير ، تألبت الجماهير المجتمعة على السائق تريد الاعتداء عليه ، فاضطر رجال الشرطة إلي التدخل لحمايته من غضبهم . وأخطرت كلية العلوم بالحادث تليفونيا ، فجري إلى

مكان الحادث المسيو كليرك ، مساعد المسيو كوري . وبعد لحظة كان جثمان الفقيد مسجى في غرفة متواضعة بمركز الشرطة ، وقد انحنى أمامها المسيو كليرك وهو ينتحب ، ووقف ما بين سائق العربية يبكي ، بينما بقيت العربة الثقيلة بحملها المكون من الملابس العسكرية عند باب المركز ، واستمر هطول المطر عليها حتى ازيل اثر الدماء من عجلاتها ؛ واخذت الخيل تضرب الأرض بحوافرها وتنفخ بمنخارها في قلق وخوف ، وكأنها تتعجل صاحبها الذي طال غيابه داخل المركز !

ذهب مندوب من رئيس الجمهورية الفرنسية إلي منزل آل كوري ليبلغ الخبر وعزاء الرئيس إلي ماري كوري ، ولما علم أنها لم تعد إلي البيت بعد ، انصرف دون أن يترك رسالته ، وبعد قليل دق الجرس مرة ثانية ، وإذا بالزائرين جون أبيل عميد كلية العلوم والأستاذ جان بيرين ؛ وكان الدكتور أوجين كوري - والدبير - بالمنزل وحده ، فدهش لتردد هؤلاء الزوار ذوي الأهمية على غير عادة في فترة وجيزة ، فتقدم نحوهما في تردد محدقا بعينيه في وجههما المكفهر ؛ وكان على جون أبيل أن يخبر ماري زوجة الفقيد أولا ، فوقف صامتا عند ما علم بغيابها . ولكن الوالد مضي ينظر إليهما ، وبدون أن يسألهما أي سؤال قال : " لقد مات ولدي . . أليس كذلك" ؟ وعندها أخذ جون أبيل يسرد تفاصيل الحادث في حزن ؛ وكان الوالد يستمع إليه وقد تقطب جبينه حزنا وغضبا ، وامتزجت في عينيه دموع الأسى بدموع اليأس عند ما صاح متهما ابنه بشرود الفكر الذي كلفه حياته ، وأخذ بكر يكرر في لهجة العتاب : " ياتري يا ولدي فيم كنت تفكر ؟ ! " .

وفي تمام الساعة السادسة سمع صوت مفتاح الباب الخارجي يدور في قفله ، وإذا بماري كوري تعود من الخارج وهي ممتلئة مرحا وحيوية . ووقفت عند عتبة الباب تنظر إلي زائرها متعجبة لأمارات الحزن والكآبة البادية على وجوه الحاضرين ، وهي لم تعهد فيهم من قبل غير

الترحيب والمجاملة . وقبل أن تحاول استنتاج حقيقة الموقف أخذ جون أبيل يكرر على مسمعها تفاصيل الحادث . وكانت تنصت إليه وقد تحجر وجهها ، فلم تبك ولم تولول ولم تسقط على الأرض من هول الصدمة ، بل بقيت صامتة في ذهول ؛ وبعد صمت طويل انفرجت شفتاها وقالت في صوت خافت : " بيير مات .... حقا ... ؟ " ثم أخذت تفيق تدريجيا ، وفي لهجة آلية طلبت ان يحضروا جثمان زوجها في الحال إلي منزله ورفضت إجراء الصفة التشريحية ، ثم رجت جارتها مدام بيرين أن تستبقى ابنتها إيرين كوري عندها لبضعة أيام . وأرسلت برقية إلي وارسو لتخطر أهلها بمصابها ، وكانت البرقية قصيرة ونصها : " مات بيير نتيجة حادث " ؛ ثم خرجت إلي الحديقة وجلست وقد أسندت رأسها بين يديها ونظرت إلي الباب في صمت وألم منتظرة وصول رفيق حياتها . .

واستلمت أولا الأشياء التي وجدت في جيب زوجها ، وكانت عبارة عن : قلم حبر ، وبضعة مفاتيح ، وجراب صغير ، وساعة لم تمس زجاجها بسوء وكانت تدق دقا منتظما . وفي الساعة الثامنة تماما وقفت عند الباب عربة الإسعاف ، فخرت ماري نحوها وتسلقها ونظرت في الظلام إلي الوجه الهادي المطمئن ! ثم ساعدت على إنزال الجثة من العربة واحتجزتها في غرقة منعزلة ، وطلبت ممن حولها ان يتركوها وحدها مع حبيبها . ولما تم لها ما أرادت أخذت في تقبيله ، فبدأت بوجهه ثم جسمه ثم يديه . وخاف من حولها عليها من أثر الصدمة وتقدموا نحوها يريدون إخراجها ليشرعوا في إلباس ملابسه الأخيرة ، فأطاعتهم في مبدأ الأمر ، وخرجت من الغرفة ولكنها سرعان ما عادت ثانية وصممت على البقاء بجانبه ، حتى لا تسمح لأحد غيرها أن يمس رفاته الطاهر .

وفي اليوم التالي وصل جاك كوري شقيق الفقيد ، وعندها فقط انفجرت بنابيع الدموع من مآقيها المتحجرة ، وانطلقت تبكي بكاء مرا ، ثم استعادت هدوءها وسكينتها ، وبدأت تجوب في المنزل سائلة إذا كانت ابنتها إيف قد

غسلت وجهها وتناولت طعام الإفطار . ثم خرجت إلي حديقة منزل الاستاذ بيرين المجاورة ، وهناك وجدت ابنتها إيرين تلعب وتلهو ، فأخبرتها ان والدها قد أصيب في رأسه إصابة بالغة ، وانه سيحتاج إلى راحة طويلة ؛ فمضت الطفلة في لعبها بدون أن تبدي أي اهتمام بما قالته والدتها .

وهنا نقتبس بعض مقتطفات من مذكرات مدام كوري وفيها نصف بقية هذا الموقف المؤلم :

" . لقد وضعناك في تابوتك يا حبيبي في صباح السبت ؛ وقد ساهمت في هذا بأن أمسكت رأسك بين يدي . . راسك الذي تحطم . . آه يا حبيبي كم قاسيت في تلك الدقيقة المشؤومة التي مت فيها . يعز على أن يمس هذا الراس الجميل الذي طالما أخذته بين يدى . . وكنت كلما حاولت تقبيل وجهك أغمضت عينيك في حركة محبوبة لتمكنني من ذلك . وعندما أودعناك في التابوت تهافتنا جميعا على تقبيل وجهك المرة الأخيرة ، ثم أودعت معك صورتي التي كنت تعجب دائما بها لترافقك إلي مقرك الأخير . . وأخيرا قفل التابوت واختفي وجهك عني إلى الأبد . ولما حاولوا تغطيته بقماش اسود وقفت في وجوههم وغطيته بالأزهار التي كنت تحبها . وجلست بجانبك حتى أتوا ليأخذوك مني ، فنظرت إليهم في بأس ولم أتكلم ، بل رافقتهم إلي مقرك الأبدي . وهناك حاولوا إبعادي لكي لا أري المنظر المؤلم ، وصممت على أن أبقى حتي الدقيقة الأخيرة . . حتى أنزلوك في تلك الحفرة العميقة . . وعندما انتهي كل شئ ، ذهب بيير إلي الأبد .

وبعد الحادث بأيام كانت شقيقتها ( برونيا ) تتأهب للرحيل بعد ان قامت بواجب التعزية والمواساة ، فاقتربت منها ماري وأشارت إليها أن تتبعها غرفة نومها الخاصة ؛ وهناك دهشت برونيا إذ وجدت نار الموقد مشتعلة رغم حرارة الجو . وبعد أن تأكدت ماري من أن الباب مغلقا اتجهت نحو دولاب ملابسها واخرجت حزمة من الملابس ، ثم جلست بجانب النار وطلبت من شقيقتها أن تحذو حذوها . وأمسكت مقص كبير وتمتعت وهو تحاول فتح

الحزمة قائلة : " برونيا . يجب أن تساعديني . " ولما أزالت الورق الخارجي كادت بروونيا أن نصرخ من شدة الهول ، إذ تبين لها أن ما بالربطة لم يكن سوى ملابس ببير الداخلية والخارجية الملوثة بالدم والوحل نتيجة حادث شارع دوفين المشئوم . . ثم تلبس برونيا بينت شقة ، بل أخذت تراقب يدي شقيقتها المرتعشتين وهما تقطعان الملابس إلى قطع صغيرة لتلقيها في النيران حيث تحترق وتختفي . ولما صادفت ماري بقايا مخ زوجها العالقة بالملابس توقفت عن عملها ، وأدنىت القماش من فمها وأخذت تقبل بحرارة تلك البقايا التي أخرجت في يوم ما للعالم اعظم الاختراعات وأبدع الفكر وكانت تقبلها بيأس ظاهر ، فاختطفت برونيا منها المقص وبقية الملابس ، وأجرت عملية التقطيع بسرعة ، وقامت النيران المشتملة بإزالة كل آثار الحادث المحزن

ولما انتهي كل شئ نهضت ماري وألقت بنفسها بين ذراعي شقيقتها وأخذت في البكاء والنحيب ، وقالت متسائلة . " حدثيني بربك يا برونيا كيف يمكنني أن أعيش بعد الآن . . وأنا وحيدة في هذا العالم ". فهدأت برونيا من حزنها ولوعها بعبارات مشجعة ، وساعدتها على خلع ملابس النهار وارتداء ملابس النوم ، وبقيت بجانبها حتى استغرقت في النوم . .

ولكن ماري كوري لم تكن وحيدة . . فهناك أصدقاؤها وأصدقاء زوجها الكثيرون . لقد هبوا جميعا لمساعدتها والعمل على تعيينها في كرسي الاستاذية الذي خلا بوفاة زوجها . وكان هذا مخالفا للتقاليد في ذلك الوقت . إذ لم يسبق تعيين سيدة في منصب أستاذ بجامعة السوربون ولكن المساعي تغلبت أخيرا على هذه العقبة ، وتقرر يوم الاثنين ٥ نوفمبر سنة ١٩٠٦ كموعد إلقاء محاضرتها الأولى ؛ وكان المدرج غاصا علي سعته بالأساتذة والطلبة ومندوبي الجرائد وسيدات ورجال من جميع الطبقات ، وقد أتوا جميعا ليشاهدوا " الأرملة العظيمة " وليس ليستمعوا إلي دقائق معدن الراديوم وفلسفته

وبينما ينتظر هؤلاء ظهورها كانت ماري واقفة عند قبر زوجها تناجيه بصوت خافت ؛ ثم عادت إلي الجامعة ودخلت المدرج في الساعة الواحدة والدقيقة الثلاثين . فاشر أبت الأعناق وتهامس الموجودون ، ثم دوت القاعة فجأة بتصفيق حاد أجابت عليه ماري بإماءة خفيفة من رأسها ووقفت إلي طاولة صفت عليها مختلف الأجهزة ، ثم نظرت إلى الحاضرين في جمود وبدأت محاضرتها بالكلمات الآتية ؛

" كلما فكرنا في التقدم المطرد الذي فازت به العلوم الطبيعية في السنوات العشر الأخيرة أدركنا التطورات التى طرأت على فن الكهرباء والمادة ... "

وهي الكلمات التي انتهى إليها بيير كوي في آخر محاضرة ألقاها قبل موته المفاجيء

اشترك في نشرتنا البريدية