" يا أبتي ! ما فائدة التاريخ ؟" بهذا السؤال الذى طرحه طفل صغير على والده المؤرخ ، استهل " مارك بلوش " Mare Bloch ، بحثه القيم الذى لم ينشر الا بعد موته وهو : " دفاع عن التاريخ او مهنة المؤرخ". وبهذا السؤال الساذج في ظاهره - مثلما لاحظ المؤرخ الفرنسي ذلك -اثار هذا الطفل - بصراحة الطفولة المحرجة - مشكلا اساسيا : ما الفائدة من درس التاريخ في عالم مشغول قبل كل شئ بالقيم العملية .
يختص التاريخ بمزية ارضاء ما يشعر به الطفل من ميل الى معرفة سائر البشر ، والى معرفة حياتهم ، وشخصيتهم ، وسلوكهم وافكارهم . فيفضل التاريخ ، يتمكن الطفل من الاهتمام بعالم الامس وبعالم اليوم ومن الاعجاب بهما وبالتاريخ يعي المرء ما خلفته الانسانية من إرث ثقافي ، ويتسنى له ، اعتمادا على ما له من معارف ، أن يقدر ادب الشعوب الاخرى ، وفنها وانماط حياتها . فاذا نظرنا الى التاريخ من حيث هو مادة عقلية ، لاحظنا أن دراسته تعود التلامذة الحرص على الدقة في ادراك المعنى والمبنى ايضا ، وتعلمهم كيف يقدرون قيمة الوثائق ، وكيف يفصلون الاعراض عن الجوهر ، وكيف يميزون ما هو مجرد الدعاية من الحقيقة . فالتاريخ يهيئ لرجال القرن العشرين عناصر المقارنة ، كى يقدروا قيم عصرهم وانجازاته ، وهو يساهم في انارة ما للمجتمعات العصرية من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية ، ويمكننا من أن ندركها ادراكا اوضح ، ويروضنا على تناول كل مسالة ، أثير حولها نقاش ، بروح قوامها سعي الى الحقيقة
وحرية في المناقشة ، وبحث عن الاتفاق ؛ وكل ذلك ثمرة طيبة يجنيها الطفل من هذه المادة المدرسية . ولا يوجد استاذ في التاريخ يطمح الى اكثر من بذر هذه البذور وتسهيل الاسباب لها كي تينع في نفوس تلاميذه . وهو في ذلك يؤكد بدون تردد ، أن الامر يستحق أن نبذل في سبيله كل هذا الجهد .
فسيشارك الطفل يوما في الانتخابات ، وسينخرط في سلك الجيش ، وسدفع الضرائب ، وسيساهم مساهمة كبيرة او صغيرة في حياة بلاده الاقتصادية وسيضطلع بواجباته من حيث هو مواطن . فالوظيفة الاولى لتعليم التاريخ هي تنمية حب الوطن في نفس الطفل : ذلك انه يلقنه تقاليد بلاده ، ونمط الحياة فيها ، ويفيده كيف حققت وحدتها او كيف تحررت من نير الاجنبي ، ويبين له كذلك كيف نشأ نظام الحكم فيها ، وما طرأ على حياتها الاقتصادية من تغيرات . ولقد تبين اثر بحث قامت به المنظمة الاممية للتربية والعلوم والثقافة ( الاونسكو ) في برامج التاريخ المقدرة في اغلبية الدول الاعضاء بهذه المنظمة ، أن التاريخ القومي يحتل فيها مكانة فائقة في جميع درجات التعليم ، سواء سواء في البلاد التى يعتمد نظام التعليم فيها على مبدأ " اللامركزية " او في البلاد التي تخضع فيها التربية الى مراقبة قومية شديدة .
وهذا امر سهل الفهم معقول . إلا أن المواطن الصالح لا يمكنه ان يجهل اليوم كثيرا من المشاكل التي تتجاوز الحدود القومية . ذلك أن أبعاد الكرة الارضية صغرت اليوم ، وصار العالم وحدة اجزاؤها متضامنة يشد بعضها بعضا . وصارت مختلف البلدان مدينة بعضها لبعض اكثر من اى وقت مضى . واحتياج الدول ، الواحدة الى الاخرى ، امر كان مشعورا به واضح الشعور في وقت السلم ، إلا أن الحرب جعلته باذهان الناس الصق ، وبقلوبهم اعلق ، وهؤلاء يعلمون أن من واجبهم التعود على التعايش ، وقد اضطرتهم حربان عالميتان وقعتا في النصف الاول من هذا القرن الى أن يحاولوا - مرتين - انشاء هيئات دولية قارة ذات صبغة سياسية ، فكانت جمعية الامم ، وكانت منظمة الامم المتحدة . وهما تمثلان المحاولتين الواعيتين الاوليين في هذا الميدان . الا أن جمعية الامم ما لبثت أن زالت ؛ أما منظمة الامم المتحدة . فهى لا تنفك قائمة ، تجسم صورة التفكير السياسي فى القرن العشرين ، وهي فكرة تعاون انشائي بين جميع امم العالم ؛ وتلك الصورة تحمل بين طياتها عنصرا يعين رجل اليوم على خوض الحياة العامة ؛ وذلك امر اساسي له .
والى ومنا هذا قد ضحى التعليم بالحقيقة التاريخية في سبيل النخوة القومية وكثيرا ما مسخ التاريخ قصد اثارة الحمية القومية ؛ وكثيرا ما نشأ في نفوس الاطفال الاعتقاد أن الاتصالات بين الامم في مختلف بقاع العالم ، تقضي دائما باندلاع نار الحرب ، ولو بصورة غير مباشرة . وسخرت العصبية التاريخ لخدمة ركان القومية حتى انها كثيرا ما قلبت المؤلفات التاريخية الى آلة قوية لهذا الغرض ، وذلك بما تحويه تلك المؤلفات من تعميم لا مفر منه ، وتبسيط لا محيد عنه .
لا تدليس باسم التفاهم العالمي .
فاذا احسنا تدريس التاريخ ، فانا نشحذ في النشء روح النقد ، ونزيدهم شعورا بالانسانية ؛ وان نحن اسأنا تدريسه جعلنا منهم عناصر تطرف وتعصب. فالتكوين التاريخي - وان كان بسيطا - كفيل بأن ينمي في الطفل صفات عقلية ويوحي إليها بمواقف فكرية من شأنها ان تعين على التفاهم العالمي ؛ وبذلك ينشأ فيه خاصة استعداد الى الاهتمام بالحياة ، وبانجازات الشعوب الاجنبية ، والى تقدير مساهمتها في انماء التراث الحضاري المشترك للانسانية . ويتعود ، في نفس الوقت النظر الى الشؤون البشرية باعتبارها خاضعة لسنة التبديل والتغيير ؛ وحينئذ يعلم ان حضارة اليوم ليست الا واحدة من بين حضارات أخرى ، وانها بالرغم عما فيها من عجيب الآثار ، قد ينقصها ما توفر لحضارات قديمة أخرى ؛ وليس لقضية الوئام العالمي الا ان تنجح اذا عرف الاطفال ، بعض المعرفة - وقد بلغوا سن الرشد- أسباب المعارك التي شغلت الناس ، وما كان لها من وخيم النتائج ، ووقفوا على تاريخ المحاولات في سبيل تعاون عالمي ، وعلى تقدم فكرة تكافل الامم ، والمجهودات التي بذلها ملايين من البشر للظفر بالحريات الاساسية .
قليلون هم الذين يفكرون في ان يجحدوا قيمة التفاهم العالمي الذي يهدف إليه تعليم التاريخ ؛ الا ان كثيرا من الناس سيسألون هل يجب تغيير التاريخ بعد أن كان مهتما شديد الاهتمام بالمشاكل القومية لتقديم الاغراض العالمية ؛ ان ذلك غير ممكن قط ، لا ريب ! فقد يتوهم بعد المدرسين أنه يكفي ان يسكتوا عن ذكر الحروب ، او المنافسات الدولية الماضية ، ليوطدوا اليوم ، بتعليمهم ، التفاهم العالمي ؛ وهؤلاء ، بدون شك ، هم الاقلون عددا ، فاخفاء الحقيقة على الطفل تضليل له ؛ وما كان تجاهلنا الحروب الماضية ليهيئ اسباب السلم ؛ لان تدليس
التاريخ باسم التفاهم العالمي ، معناه فتح الباب على مصراعيه لاستغلال تضليلي لا سفر عن غايات شريفة .
رواية التاريخ يجب أن تكون على الصورة التالية :
ما هي المباديء التي يمكنها ان تدل المدرس على اختيار المواضيع التي من شأنها ان تعين على التفاهم العالمي لقد بحث هذه المسألة- نرولا عند رغبة " الاونسكو " - هيئة متركبة من ثمانية اختصاصيين ، من مؤرخين وأساتذة تاريخ ؛ وهاك طائفة من الاشارات التي عرضها هؤلاء الخبراء في هذا الصدد :
البحث عن الحقيقة
"يروي التاريخ ماضي شعب من الشعوب بالاستناد الى دراسة الوثائق والحوادث دراسة تفدية . فجوهر الطريقة التاريخية ليس بالامر الممتنع عن افكار غضة ، وإن امثلة مشخصة كقصة " حجارة روزيت " التي مكنت المؤرخ "شامبولون " من وضع أسس لقراءة الكتابات " الهيروغليفية " المصرية ، لتلقي ضواء ساطعة على استعمال تلك الطريقة ؛ وقد يفيد استقراء الحوادث احد جانبي البحث عن الحقيقة التاريخية ؛ اما الجانب الآخر ، فهو صحة التأويل التاريخي . ذلك ان الحوادث باقية لاسبيل الى تغييرها ، الا ان تأويلها قابل للتغيير ، وقد تغير .
وان العرض الدقيق للكيفية التى نتوخاها للتنقيب عن الاثار ليبين كيف يمكن اخضاع الماضي الى انواع التفتيش ، ولا يمكن للمعالم الآثرية ان تفصح عنه ، وللحوادث ان تكشفه ؛ فان وفق الاطفال الى فهم ما يميز موضوعية الحوادث عما لا يخلو منه التأويل من ذاتية ، فذلك الدرس يعود عليهم بعميم الفائدة ؛ حتى اذا بلغوا سن الرشد ضؤل خطر انخداعهم بالدعابات التهديمية " .
التاريخ قصة تطور
" يجب ان نعين التلاميذ على ان يفهموا ان التاريخ قصة تطور ، وان البشر ملكوا العالم شيئا فشيئا ، وانهم هبؤوه قليلا قليلا حتى يستجيب لحاجاتهم ، وان يدركوا ان التقدم الفني الذي ساهمت فيه شعوب العالم كلة ، طوى المراحل التى مر بها نمو المجتمعات البشرية وان حضارات نشأت ، فعاشت ، فتطورت ، ثم بادت ، لكنها عوضت بحضارات جديدة حافظت على جانب مما ورثته عن الحضارات البائدة ؛ فيجب ان ندرس التاريخ لا باعتباره شيئا قارا ، لا يتغير ، بل ، بالعكس
باعتباره قصة حية لتطور مستمر ، ويجب أيضا ان يعين التلاميذ كي يفهموا وحدة التاريخ ، وكي لا يعتبروه سلسلة " حكايات " لا ترابط بينها ، حكايات كثيرا ما يميلون الى الخلط بينها وبين قصص المغامرات " .
تفاعل الامم والشعوب
" وفي هذا الصدد يجب ان نلفت انظار الاطفال والشبان ان الشعوب والامم لم تعش منعزلة ، دون ان يتصل بعضها ببعض ، فلقد كانت بينها مبادلات في ميادين الفن ، والسياسة ، والثقافة والفلسفة ، واخذ بعضها عن بعض ، وتأثر بعضها ببعض بلا انقطاع ؛ فمن واجب المدرس ان يبحث في التاريخ الذي يعلمه ، عن امثلة لهذه المبادلات ، والاقتباسات . والمؤثرات ، ويحسن ان يكون الحاحه في اظهار ما أخذته بلاده كإلحاحه في اظهار ما اعطته ، حتى يكون بذلك قد بعث فى النشء روح التضامن اكثر من روح الاستعلاء " .
اهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية
" لا يزال التاريخ الاقتصادي للعصور الماضية بعيدا عن ان يكون كاملا " إلا ان ما يبذله المؤرخون من جهد لا يعرف الكلل يأتي بثمراته شيئا فشيئا ؛ وان كثيرا من التآليف المدرسية صارت تفرد اليوم صفحات عديدة لدرس العوامل الاقتصادية والاجتماعية ، وانه ليوجد ، في غالب البلدان ، من المعارف ما يمكن المدرسين من افهام تلامذتهم قيمة هذه العوامل خلال عصور تاريخ الانسانية جميعا .
فبدهي ان ننظر بعين الاعتبار الى الطور الذي بلغه الاطفال فى نموهم ؛ ولكن الاطفال حتى من كان صغير السن منهم ، يمكنهم ان يفهموا - في سهولة - معنى الكفاح الذي يضطلع به الانسان ليكسب قوته ، ويظفر بمسكن ياوي اليه ، وكذلك معنى المبادلات التجارية ونمو وسائل النقل والمواصلات ؛ وبهذه الطريقة ، نزودهم باسس ثابتة ، نعينهم على ان يدركوا- في مستقبل الايام- ما لعصرنا من مشاكل اقتصادية متشعبة " .
الكفاح في سبيل التسامح والسلم
"لقد كان التقدم الاخلاقي متاخرا عن التقدم المادي ؛ ويحسن بنا ان نعين التلامذة أن يفهموا سبب ذلك ، وأن يعرفوا ان التبعية لا ترجع الى ما اتصف به
القادة ، ورجال السياسة ، والاحزاب القومية من تكالب على السلطان فحسب . بل ترجع ايضا الى الجهل ، والتعصب ، وفقدان الثقة المتبادلة والافكار المغلوطة وانانية اجماعات والافراد .
وزيادة على ذلك . فقد تتسبب العصبية في اثارة الحروب ، سواء منها الاهلية او القومية ؟ وقد نجد في تاريخ بلدان عديدة امثلة تدلنا على ان التعصب والافكار المغلوطة ، قد انهزمت في ءاخر الامر ، وأن من كانوا في القديم اعداء ، صاروا اليوم يتعايشون في جو من الوئام .
فمن واجب الاطفال ان يعرفوا - متى استطاعوا الى ذلك سبيلا - أن الحرب لا تكون سببا في افناء ملايين من الجنود والمدنيين ، رجالا ونساء ، اطفالا وشيوخا فحسب ، بل تكون سببا ايضا في ءالام لا تحصى ، وفي تهديم لا يقف مداه ابدا عمن باءوا بالانهزام دون سواهم ؟
فكثيرا ما اضرت الحرب فادح الضرر ، بما بذلته البشرية من جهد طيلة قرون وبروائع الاجيال العديدة ، من متفننين في الهندسة المعمارية ، او نحاتين ، او رسامين ، او مهندسين او فنيين ، او صناع او فلاحين ، او عملة مهما كان نوعهم ؛ بل كثيرا ما اتت الحرب على كل هذا ، لا تبقي ولا تذر " .
