الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

ما ينبغي انقاذه

Share

مشاكل التعليم وإصلاحه تحتل مكانة هامة فى " شواغل الساعة " .

نظرا لاقتراب موعد الموسم الدراسي . وقد رأينا ان ننقل للقراء مقالا قيما نشرته جريدة " او فيغارو " فى نشرتها الادبية فى تاريخ 23 اوت وهو بقلم الكاتب الفرنسى المعروف جان قيهينو Jean Guehenno " وعنوانه " ما ينبغي إنقاذه

وقد تعرض الكاتب في هذا الفصل الى مسألة خطيرة جدا بالنسبة للانسان في حياته بصورة عامة وفي ثقافته وتعليمه بصورة خاصة وهذه المسألة هي مسالة الذاكرة وهى التى يجب إنقاذها من الجاحدين لفضلها القائلين إنها دعامة التعليم التقليدى الجامد وأن التعليم العصري في غنى عنها لانه يعتمد على الفكر والفكر فقط فيفند كاتبنا هذا الادعاء مؤكدا ان الانسان إذا ما أراد أن يكون إنسانا كاملا لا بد له من الذاكرة أو بالاحرى بصنف بعينه من الذاكرة .

قد تكون جميع مناقشاتنا حول تكوين انسان اليوم اشد وضوحا فى هذه الازمه التي نجتازها لو تساءلنا في معزل عن الاهواء المستوحاة من الماضي او المستقبل - عما نريد وعما يجب فعلا إنقاذه . لكن كل منا يريد - حسب هواه  إما انقاذ كل شئ وإما تحطيم كل شئ . والرأى السديد هو النظر بانتباه أشد في النواميس الكبرى للمنزلة الانسانية : كانت مربيتي العجوز تقول إلى دائما الى النار لا تضطرم بصورة جيدة الا فوق الرماد . .

لن أقول سوءا في الذاكرة فقد تأسفت كثيرا من أن ذاكرتى على هذه

الدرجة من الرداءة الشديدة بعد ان جربت تلك الحالة من الضعف التى يجد المرء فيها نفسه عندما تعوز " لذاكرة ؛ فلن يظهر بموارد سوى موارد الساعة ، فتراه كالاعشى يتلمس فى ماضيه وكانه يتلمس خيالات لا تدرك . فكرة بدون سن هى كبيت خاو يتسكع فيها المرء فتضيق انفاسه ويضل ، والثقافة هى اولا وبدون شك ذاكرة بديعة ، ذلك ان الافكار الحية التى يحملها رجل ذو ثقافة حقيقية تبدي دائما سنها نظر لارتباطها بذكريات تجعل الحكمة القديمة قريبة منه اليفة به فهو يعيش فيها كما يعيش فى بيته .

لست ادرى ولكن لعلنا جازفنا بعض الشئ في فهم هذه الدعابه الصادرة عن " مونتني " والتي يقول فيها انه يفضل راسا محكما على رأس ملآن . ذلك انه لم يقل فيها انه يحسن بالراس ان يكون خاويا بل هو يقيم الدليل في تاليفة باسرها - بالرغم مما قاله دلالا انه حرص على ان تكون حياته مزدانة بالعلم كاحسن ما يكون فى عصره مما فكر فيه الناس من قبله اقوى تفكير وارقه . وهل كان كتاب " المحاولات " فى البدء شيئا اخر سوى مجموعة لاشهر " الاقوال " و " الفعال " فى العالم وهل ثمت لذة اعظم من لذة قراءتها والتعرف خلف النص التى اقدم كلام صدر عن الحكمة الانسانية عن افلاطون وسقراط وفرجيل Virgile وسينيك Seneque وبلوتارك Plutarque ، كما يرى المرء عندما ينظر في بركة سطوحا اخرى فى اعماق مختلفة تحت سطح الماء الذى تنعكس فيه سماء اليوم ومناظر اخرى واصنافا اخرى من الجمال حتى يبلغ القاع الاسود حيث الماء - الفكر - يتدفق منذ الازل .

وهكذا فان الزمان يصنع عمق افكار الناس وهكذا الذكرى العظيمة زينة وغذاء

ان الثقافة مجموعة واسعة من المراجع الادبية والعلمية والاخلاقية والسياسية غير ان الذى يملك اكبر عدد من هذه المراجع ليس هو حتما اكبر مثقف فالمعرفة اليابسة لا تكفى . لكن الذى مارس هذه المراجع الى حد انها اصبحت تفرض نفسها عليه فى كل لحظة فقد استحال هذا الرجل بدون شك الى رجل آخر واصبح " انسانيا " الى اقصى درجة ممكنة يعيش في نوع من الالفة مع جميع الناس الالى عاشوا من قبله وامتلات لاجله صدورهم بالامال ورؤوسهم بالاحلام

وجربوا الافكار التى يجر بها بدوره فيشعر وهو على الطريق انه مدفوع من طرف سماط طويل من الاطياف . لا خوف عليه من الامور العصرية " تغريه شديد الاغراء لمجرد كونها " امورا عصرية " فهو يعرف سنه ويشعر به بل يخال اليه احيانا انه عمر ثلاثة آلاف سنة فيريد ان يرى فى كل الاشياء طابعها العصرى وطابعها الادبي معا .

ينبغي اذن انقاذ هذا النظام من المراجع وهذه الذاكرة فان الجديد ينشينا ويسكرنا وسيل الاختراع العصرى البديع يجرنا جرا فنصبح وكاننا عمرنا ما عمر نوح في نظر شباب اليوم : تفتن الاجيال بالتوالى بما هو اكثر جدة وان الثلاثين سنة والعشرين سنة والعشر سنوات لتغير كل شئ وهذه السرعة فى التطور هي بدون شك احدى الاسباب التى تجعل " معنى الحياة " يبدو لنا احيانا كانه تلاشى وافتقد . ونحن ندرك تماما ماذا تكون عليه مجموعة بشرية مركبة من اناس محرومين من الذاكرة .

ان النماذج من هذا القبيل متوفرة لدينا من الان ! صنف ضئيل من حشرات نصف عالمه ومع ذلك مزهوة بعلمها فخورة باختصاصاتها الضيقة وبالارقام  القياسيه المحرزة عليها وهى جشعة عجولة لا يهمها من كل شئ سوى النتائج شغلها الوحيد هي النجاعة والارباح العاجلة ومع ذلك تجيد استعمال فكيها لكن راسها خاو محصور في الحين فلا احلام ولا ذكريات انما مالها الضجر والياس

لم يعوز أوضع الناس حتى عهد قريب ضرب من الثقافة الشفاهية وحكمة مدرج في الامثال والتقاليد القديمة والاقاصيص والخرافات والمعتقدات التى كانت تمثل لافكارهم سماء وافقا ، لكن فى هذا الوقت الذى تهافتت فيه التقاليد واضمحلت فيه الهه البراري والجداول وكل تلك الالفة القديمة بين القرى والهيئات العرفية والصناعات ، ليس ثمة من وسيلة لكى نرجع للناس عشهم وندفئهم سوى ان نعطيهم حسب الامكان نصيبا من الذاكرة العظمى ، من ثقافة الانسانية البعيدة الغور .

اشترك في نشرتنا البريدية