حركتني الرغبة في استطلاع ما ينطوي عليه ذلك العنوان. فقرأت الكتاب فأعجبت به وكان إعجابي من جهة الشكل ومن جهة الموضوع.
أما الشكل، فهذا كتاب يقوم مقام صورة صحيحة لطريقة علمية مستقيمة، لما هو عليه من تقسيم وترتيب وتبويب (ولحق) و (مسارد) و (مضاف) و (فائت) . ثم إن كتاباً يخرج على هذا الشكل من الدقة والعناية وفيه ما فيه من المصاعب الفنية في إحكام الإخراج ليدل على مقدرة الصانع المصري في فن الطباعة.
أما من جهة الموضوع، فلن أقف عند أسلوب هذا الكتاب الفذ ولا تراكيبه البارعة ولا ألفاظه المتخيرة، لأني أريد أن أصل بكلمتي هذه إلى ما هو أجل شأناً من الأسلوب. ذلك أن الأسلوب يختلف الناس في النظر إليه وفي تذوقه، وإنما أنا أقصد إلى التنبيه على ما في هذا الكتاب من مستحدث في الفكرة والتعبير.
أما الفكرة فقد اختار المؤلف موضوعات شتى جديدة: فبحثه عن المسلمين في فنلندا لم يسبقه إليه أحد بل هو كشف أضاف المؤلف به فصلاً علمياً طريفاً إلى معرفة أحوال المسلمين في العالم.
وقد طرق المؤلف بعد هذا في مباحثه الخاصة بعلم الاجتماع وعلم اللغة مسائل هابها البحاث من قبل أو استثقلوها، فأقدم على درسها الدرس الأتم وعرضها مبسوطة واضحة. ولا غرو في ذلك فللمؤلف باللغة الفرنسية كتاب (العرض عند عرب الجاهلية)
وهذا الكتاب مما حدا دائرة المعارف الإسلامية الصادرة في هولندا على أن تسند إلى المؤلف كتابة طائفة من المباحث فيها، ومن هذه المباحث: (الهجاء) و (الفتوة) و (العِرض) .
والآن أعرض لك مسائل الكتاب في علم الاجتماع وعلم اللغة. بحث الدكتور بشر فارس تعبير (مكارم الأخلاق) مستقصياً كل الاستقصاء؛ إذ استخرج وروده من بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة ثم شرح التعبير من الناحية اللغوية وفحص عنه في كتب الحديث والتأليف الدينية، ثم دل عل أن من يكتب في مكارم الأخلاق إنما يجري إلى إكبار الفضائل الإسلامية وإغراء الناس بالإقبال عليه اقتداءً بالرسول. وذكر آراء المتكلمين في مكارم الأخلاق، وعرض لآراء المصنفين من كتاب العرب المستقلين عن الطرائق الكلامية والمذاهب الدينية. ثم آراء المنشئين فالمتصوفة. وقد عقد المؤلف فصلاً في علاقة مكارم الأخلاق بالفتوة والمروءة ثم اتصال مكارم الأخلاق بالجاهلية، وخرج من مبحثه بأم مكارم الأخلاق تعبير - في أول أمره على الأقل - أجنبي عن علم الأخلاق المنحدر من الحكمة اليونانية وعن علم السلوك النظري.
ومبحث آخر عن المروءة يدلك على استقامة الدراسة بالتدقيق العلمي. في هذا المبحث يبين المؤلف أن المروءة مدلول للفظ قالت فيه العلماء بالتقريب والاحتمال. ثم ذهب إلى أن في تعريفات المروءة جانبين متضادين كلاهما معقود بالآخر: الأول حسي ينحدر من زمن الجاهلية، والثاني معنوي مصدره الإسلام. ثم تتبع معنى المروءة في الجاهلية ومطلع الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين وعهد بني أمية، ثم طلبها عند أهل اللغة حتى في اللهجة الأندلسية وفي لغة العامة لهذا العهد. وانتهى المؤلف إلى أن المروءة أفلتت من المادة لتصير من الكلم الروامز. وقد جاء كلامه في هذا
مناقضاً لآراء المستشرقين بأدلة فلسفية ولغوية مستقيمة.
أما مبحثه في التفرد والتماسك عند العرب، ومبحثه في البناء الاجتماعي عند عرب الجاهلية؛ فكلاهما دراسة اجتماعية على أساس صحيح. وقد دفع في الأول أقوال المستشرقين عن التفرد إذ أثبت من طريق الاستشهاد بالشعر والأخبار المتواترة أن العرب كانوا قوماً متماسكين. وبين في الثاني تضارب الألفاظ الدالة على بناء العرب الاجتماعي بحيث يتعذر الفصل في كيفية تكون الجماعة وانتظام الأسرة، وإن تميزت هذه من تلك.
وأما مباحثه في اللغة فقد دلَّ كيف يكون التنقيب عن معاني الألفاظ، بتعقبها في أطوارها المختلفة. من ذلك تعقبه لمدلولات لفظة الشرف وردها إلى أصولها بالاستناد إلى النصوص الجلية. ومما أظهره أن لفظة الشرف خرجت في الجاهلية من الحسيات إلى المعنويات حتى إذا طلع الإسلام أدرج فيها قيماً خاصة به.
أما اصطلاحات الموسيقى التي أفرد لها المؤلف باباً خاصاً فقد أخرج لنا من بطون الكتب تعبيرات وألفاظاً عارضها بما ينظر إليها في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية. ومن ذلك لفظة المساوقة والمراسلة. ونحن نقيد له فضل السبق في هذا الكشف.
وهنالك اصطلاحات في الفلسفة، مثل لفظي التفرد والتماسك بدلاً من الفردية والتضامن الشائعتين عندنا. وقد وضعها المؤلف فيما وضع، ومعه حجج قاطعة من ناحية اللغة ومن ناحية الفلسفة، سالكاً في ذلك طريقاً جديداً مما يدل على مرونة في التفكير وسعة في الاطلاع.
أما الفصل الذي عقده المؤلف لبعض المخطوطات العربية التي درسها في دور الكتب المختلفة؛ فنأمل أن يتنبه المجمع اللغوي إلى الاستفادة بها لما فيها من الفائدة الجليلة لوضع اصطلاحات في علوم كثيرة.
هذا ما يتعلق بالفكرة. وأما التعبير فقد أخذتني جرأة المؤلف في التدقيق لوضع ألفاظاً واصطلاحات لمدلولات شتى ثم في تخيرها؛ الأمر الذي نحن في أشد الحاجة إليه حتى نؤدي بكلمة واحدة معنىً نحتاج إلى التعبير عنه بجملة أو جمل. أعجبني منه وضع كلمة. استطلاع: وهي تفيد البحث العلمي لا الصحفي عن أمر مجهول أو حقيقة مستورة.
الإمداد: البحث العلمي الذي يلقى في محافل العلماء كالمؤتمرات. الرأي القَبلي: الرأي القائم في الذهن قبل شهادة التجربة، ويقابله الرأي البَعدي.
البناء الاجتماعي: كيفية تكون الجماعة من حيث الصلات المتبادلة فيها ومن حيث اتساعها.
التفرد بدلاً من كلمة الفردية، والتماسك بدلاً من التضامن. كلمةٌ رمزٌ: أي كلمة متى وقعت في مسمعك نشرت في خاطرك مجموعة من القيم المجردة. وهي من باب الصفة بالمصدر. المشتَمل: وهو مضمون الكتاب. المسرَد: لجداول الألفاظ والأسماء وما إليهاIndex
وقد خرج المؤلف على استعمال لفظة الفهرس الشائعة اليوم بإفادتها مدلولات مختلفة، بأن استعمال هذه اللفظة للدلالة على الكتاب الجامع للكتب فقط ثم جعل المشتل لمضمون الكتاب وموضوعاته والمسرد لجداول الألفاظ والأسماء.
أما تلك الرموز التي سبقنا إليها الأوربيون؛ فقد تصرف المؤلف في وضعها، ثم زاد عليها الكثير من عنده فوضع علامة لاسم الكتاب حتى نفرق بينه وبين سائر الكلام لنقص الحرف المائل في طباعتنا، وهو المستعمل في مثل هذا الموضع في اللغات الإفرنجية. ثم وضع رمز شاهد (على شكل هرمي) بدلاً من الصليب الذي يضعه الإفرنج للدلالة على الوفاة. ثم ي=وما يلي ذلك، ك ك=الكتاب المذكور قبل للمؤلف، ن=المؤلف نفسه، ذ=الكتاب ذاته. وإني لا أريد القول بأن ما وضعه المؤلف يجب أن يؤخذ به أخذاً، بل أرى أن يلتفت إلى ما وضعه فينظر فيه إن كان يحتاج إلى مراجعة حتى نبني عليه للمستقبل. على أني أسأل المؤلف أن يدون الرموز في الطبعة الثانية على ترتيب ما، نحو الترتيب الأبجدي؛ وأملي أن يتم وضع الرموز والعلامات اللازمة للتأليف العلمي حتى نظفر بدستور يلجأ إليه الباحث والعالم.
هذا وقد سلك المؤلف في كتابه مسلكاً علمياً صحيحاً وسار على المنهج الذي وضعه لنفسه، وهذا المنهج على قوله في تصدير الكتاب (الاعتماد على المشاهدة دون الفرض، والتحقيق دون التخيّل، والموضوعية دون الذاتية، وإقامة الدليل دون القناعة
بالمقبولات والمسلّمات، ثم الذهاب من المركب إلى البسيط، ومن الخاص إلى العام؛ مع تسليط النقد النافذ - من جانبيه الخارجي والباطني - على الواقعات، من حيث إنها أشياء طبيعية مبذولة للحس، لا أمثال عالية ولا معانٍ منتزعة من المحسوسات مجردة في الذهن أموراً كلية عامة؛ ومع نبذ
التشيع للآراء من مرتجلة وقبلية، فلا إيثار هوىً ولا تعصب لأحد على أحد؛ ومع رد تلك الواقعات إلى مصادرها من طريق الوصف المباشر أو الاستشهاد بالنصوص الصريحة حتى لا يرسل الكلام فيضيع حظه من التثبت؛ ومع التحري في البحث سعياً في الدنو من الحقيقة بفضل المنطق بالعرض البين والسلك المتصل والاستدلال القويم والنظر الصادق على غير استكراهٍ ولا تحكم ولا مكابرة؛ ومع إثبات ما أتى به العلماء العاملون من قبل بالاستناد إليهم أو الاعتراف بجهدهم خروجاً من ظِنَّة التلصص والسطو) .
وبكل ما تقدم يبذل لك المؤلف دراسة فلسفية اجتماعية بذهن مجرد عن التشيع للآراء المرتجلة والمعاني المتوهمة مما يجدر بطلبة التعليم العالي أن يلتفتوا إليه. ويبذل لك أيضاً مباحث في اللغة وتاريخ الألفاظ واستخراج الاصطلاحات مما يهم المشتغلين باللغة وفي مقدمتهم المجمع اللغوي.
وهكذا خرج الكتاب مبشراً بانبعاث الروح العلمي الخالص الذي أهدى إليه المؤلف كتابه.

