أقام المشرع الإسلامى قواعد للمجتمع، على أسس اجتماعية أصلها ثابت وفرعها فى السماء. ونظر إلى الدعامة الأولى لبناء الأفراد وهى المرأة، فجعلها قسيمة الرجل فى الحياة، أمّاً أو زوجة، ثم أوضح لها شرعتها
حكيمة مسدّدة تمهد لها كل ما هو ميسر لها، متسق مع طبيعتها. وطبيعة المرأة: وجدان متأثر، وعاطفة مشبوبة، وجانب لين، وأجزاء دقيقة، وهيكل متأنق، ورونق متألق، ولطف ساحر فى التأسية، وفيض ضاف من الحنان
ولقد تنطق المرأة بكلمة تواسى بها الرجل إذا تفزع فؤاده من الهول، فتفعل الكلمة فى قلبه، وتؤثر وتجدى ما لا يؤثره أو يجديه بلاغة الأساة من الرجال. ولعلك على ذُكر من كلمة خديجة أم المؤمنين يوم جاءها زوجها محمد صلى الله عليه وسلم وفؤاده يرجف من لقاء الملك، ومن تلقى الوحى، وهو أمين الله ومختاره جلادة وقوة وصبراً واحتمالاً، فلم يكن منفرجُ الروع، ولا ذهاب الخوف إلا ساعة قالت خديجة كلمتها، كلمة المواساة والترفق والأمل: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدم، وتعين على نوائب الدهر)
أعلى الإسلام من قدرة المرأة ما وسع العلاء طبيعتها، وعظم من شأنها ما شاءت الخليقة أن تعظم، ثم وفر لها من الحرية ما يناسبها ويُهَيِّئ له من ميدانها سبيل النفع والخير؛ فلم يُردْها قعيدة بيت بل سيدة بيت؛ ولم يجعلها مسلوبة الإرادة، بل شاءها طليقة فى مملكتها الصغيرة الكبيرة، ورجا لها الصيانة فى قدس الخِدْرِ
خطب صلى الله عليه وسلم بنت عمه أبى طالب واسمها أم هانئ، وكانت قد تزوجت ونسلت ومات عنها زوجها. فما الذى ألهمها الإسلام أن تقول أن تقوله فى جواب هذا العرض المحمدى الشريف؟ لقد قالت تخاطب صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، لأنت أحب إلى من سمعى ومن بصرى؛ وإنى امرأة مؤتمة (مات عنى زوجى) وَبنِى صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجى أن أضيع بعض شأنى وولدى؛ وإن أقبلت على ولدى أن أضيع حق زوجى)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش: أحناهن على ولدٍ فى صغره، وأرعاهن على بعل فى ذات يده)
لم تكن تلك الحرية فيمن تختاره المرأة لنفسها قاصرة على كرائم أحرارهن، بل بسطها الإسلام حتى على من كانت أمَة وخلصت من الرق.
ملك عقبة بن أبى لهب جارية حبشية اسمها بريرة، وزوجها عبداً من العبيد، فكانت تضيق به وتتبرم منه. ولكنها مملوكة، وأمرها ليس بيدها. فلما علمت عائشة أم المؤمنين بما تعانيه (بريرة) فى هذا الزواج اشترتها وأعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملكتِ نفسكِ فاختارى) فاختارت أن تنجوَ بنفسها من هذا الزواج الذى لا تطيب به. فكان زوجها بعد هذا الفراق يمشى خلفها ويبكى ويسترضيها، فلا ترضى عنه. وكان يرثى له كل من يراه خلفها باكياً. رآه صلى الله عليه وسلم مرة وتلك حاله فقال لأصحابه: (ألا تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له!) ثم قال لها: (اتقى الله فإنه زوجك وأبو ولدك) فقالت: (أتأمرنى يا رسول الله؟) فقال: (لا. إنما أنا شافع) فقالت: (إذن، فلا حاجة لي إليه...)
هكذا تقررت حرية المرأة فى أمر نفسها، حرية تكفل للبيت النعيم، وتوفر لها الهناءة. وبهذا جاء الإسلام موقراً لرأيها، محافظاً على كيانها، مظهراً لشخصيتها. فإذا ما أجارت المسلمة لاجئاً، أو أمَّنت أسيراً، فقد أجار المسلمون - جميعاً - مَن أجارت، وفكوا من أطلقت، وحموا من استعاذ بها...
ورد فى الصحيح البخارى أنه لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة يوم الفتح احتمى رجلان بأم هانئ بنت أبي طالب وهى مسلمة، فدخل عليهما أخوها على وهَّم بقتلها، فأغلقت دونه الباب، وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (مرحباً وأهلاً يا أم هانى، ما جاء بك؟) فأخبرته خبر الرجلين وخبر أخيها على، فقال عليه السلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمَّنا من أمنت)
فقد أجاز المشرع لعقيلة مسلمة كريمة أن تفك عانياً أسره المسلمون فى غزوتهم، وقد كانت بين الأسير وبين الكريمة أسباب وثيقة، فما هو إلا أن عاذ بها واستجار فى حماها، فأجارته
ولقد كانت كبرى بنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهى زينب قد تزوجت من ابن خالتها أبى العاص بن الربيع، وكان أبو العاص يخص زوجته زينب بإكباره وتكرمته، فلما انصرف عن الإسلام بادئ الأمر وزوجته مسلمة فرق بينهما الإسلام، وهاجرت زينب، وبقى هو منصرفاً عن الإسلام؛ غير أن حنينه لزوجته لم يفتر، فكان يرسل لوعته الحرَّى فى أبيات من الشعر الرقيق ويقول:
ذكرت زينب لما وركت إرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاه الله صالحة ... وكل بعل سينبى بالذى علما
ثم خرج إلى الشام في تجارة لقريش، فعرض للقافلة زيد بن حارثة فى جمع أرسله محمد عليه السلام، فغنموا المال وأسروا الرجال. وكان فى الأسرى أبو العاص، فاستجار بزينب، فرجت أن تحقق إجارته وأن تحميه، وترقبت صلاة الفجر، وأبوها يؤم المسلمين، فلما انتهوا وقفت بباب المسجد ونادت بأعلى صوتها: (إنى قد أجرت أبا العاص بن ربيع). فقال صلى الله عليه وسلم: (هل
سمعتم ما سمعت؟) قالوا: نعم. قال: (فوا الذى نفسى بيده ما علمت بشىء مما كان حتى سمعت ما سمعتم. ألمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت) فلما أنصرف النبى صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبى العاص ما أخذ منه، ففعل...
ولقد حسن شأن أبى العاص، وحلت الهداية قلبه، فعاد إلى مكة وأدى الحقوق إلى أهلها، ثم رجع إلى المدينة مسلماً، فرد رسول الله إليه زوجته زينب الوفية البارة.
رأى المشرع الإسلامى أن صيانة الأعراض وحرمة السير وكرامة الأسر من حقوق المجتمع، بل من أسباب بقائه ونموه؛ ذلك بأن الخلية الأولى من خليات المجتمع هى الأسرة، والأسرة لا قوام لها إلا بالرجل، يندفع لحمايتها، وينبعث لرعايتها، ويعانى أخطار الحياة، ويجوب العامر والخراب - كل ذلك ليوفر لأبنائه ولبيته أسباب الحياة وسعادة العيش؛ وما يدفعه إلى ذلك إلا حنان الأبوة، ووشائج النسل، وشعور ملتهب بأن الولد قطعة من أبيه، وفلذة من كبده، فمن أين تتم للرجل تلك الدوافع وهاتيك الوثبات إذا هو ارتاب أو حاك الشك فى نفسه صحة انتساب ولده إليه، أو خلوص زوجته له...!
لهذا أحاط الإسلام المرأة بسياج حصين، وأمن الرجال على أنسابهم وأعراضهم، لصلاح مجتمعهم، ثم توعد - فى أسلوب قوى رائع - كل من يمس قداسة الطهر، أو يتعرض - على غير علم - لصفة المرأة، أو جرى على لسانه الهُجْرُ والفحش فى سيرتها...
يقول تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون)
فانظر كيف حدد الله للتهجم على الأعراض عقوبة جسيمة ثم أردفها بأخرى أنكى وأخزى وأبقى على الأيام، تَسِمُ القاذَف بميسم الخزى وتتهمه - أبد الأيام - بفقدان الثقة وخبث الذمة ومرض الضمير. ثم يختم سبحانه الآية بتسجيل فسق القاذف
وخروجه عن طاعة الله ونبذه من لمجتمع الأخلاقي. . . ثم شاء - جل وعلا - ألا يدع هؤلاء الوالغين في الأعراض حتى يجعل الخزي والعار ناطقاً بشناعتهم مشهراً بسوآتهم فقال:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)
ولقد ثقف الإسلام المرأة ثقافة يتطلبها شأنها، ثقافة دينية خلقية، فكان عليه الصلاة والسلام يجعل للمسلمات يوماً كل أسبوع يعلمهن ويثقفهن، وكان كريم الصبر في إرشادهن، فسيح اللبان في هدايتهن
أخذ عليهن - عندما كن يبايعنه مرة - ألا ينحن على الموتى. فقالت عجوز ممن حضرن: يا رسول الله، إن أناساً أسعدوني على مصيبة أصابتني، وإنهم أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أُسعدهم. فقال لها عليه السلام: (انطلقي فأسعديهم) ثم عادت فبايعته.
تلك بعض نظرات المشرع الإسلامي إلى المرأة، فأين نحن؟ وكيف صرنا؟
لقد يروي لنا المؤرخون أن دولة الرومان يوم تألق نجمها، وعظم سلطانها، واستبحر عمرانها، كان الشطر الثاني للمجتمع وهو النساء، لا يعرفن غير البيت والأسرة، يقمن للبيت بواجبه،
ويؤدين للأسرة حقها، وهن من وراء حجبهن. بل لقد غلون في الحجاب يومذاك غلواً كبيراً، فلن تخرج واحدتهن إلا وهي ملثمة، وعليها الأردية السابغة، ومن فوقها العباءات التي لا تبين تقاسيم الجسم - في ذلك الحين برع الرومان في كل شيء، في الملك والصناعة والتشريع، ودانت لسلطانهم الشعوب. فلما بلغت الدولة مداها ولع الناس بالترف، وغمرهم النعيم، وأفسد أجسامهم البذخ، فغدوا يبتكرون الملذات من غير تحرج ولا تأثم، حتى فترت غيرتهم، وامحت نخوتهم، فتضعضعت قوة الملك، ووهى صرح المجتمع، ولم تلبث دولة الرومان العظيمة أن تساقط ملكها، وانتزع الفساد شوكتها، وراحت صريعة الشر الاجتماعي الذي نزل بالمرأة من عليائها إلى الحضيض، وهوى بالدولة معها إلى الفناء.
ولقد نسمع المفكرين وذوي المذاهب الإصلاحية الاجتماعية يتصايحون اليوم: أن ارجعوا بالمرأة إلى ما خلقت له، وجنبوها مزالق الاجتماع، واجعلوا تحت نظرها كتب التهذيب الديني، والتدبير البيتي، لتروي أبناءها من منابع الدين وأصول الفضائل، وتحكم بتدبيرها نظام الأسرة الذي أوشك يتداعى. فهل من سميع؟ وهل من مجيب؟ لنا في تراثنا مرجع لصد العابثين، وإيقاظ السامدين. إن في تربية الإسلام للمرأة ما يوفر لها حريتها ومجدها وكرامتها.

