فكرة باطلة سادت أفكار بعض الناس في معني " الرسالة " فخلع بعضهم عليها احيانا بعض أوصاف الآلوهية ، وأحيانا بعض أوصاف الرهبانية ، من مبدأ البعثة إلي اليوم . وكان النبي ( ص ) يحارب هذه الفكرة كما يحارب الإلحاد ، ويعلن ويكرر في كل مناسبة أنه " بشر رسول " لا " ملك رسول " .
من مبدأ البعثة اجتمعت صناديد قريش مكة ، فقالوا لمحمد : " لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ، ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا ، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ، وليفجر فيها انهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضي من ابائنا ، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل ، فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، ولتسأله فيجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما تلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا ، فإن لم تفعل فاتخذ إلي السماء سلما ترقي فيه وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك اربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول
فقال محمد : سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ! لقد أخطئوا إذ نسوا انه بشر لا يقدر على الإتيان بهذه الأشياء ، ولا يستطيع اقتراحها لما فيها من التعنت والتحكم ، وليس للرسول إن يتحكم على الله فيطلب منه خرق قوانينه التي ادار عليها ملكه .
وخطأ آخر مثله وقع فيه بعض المسلمين ، إذ خلعوا عليه بعض أوصاف الرهبانية ، فقد روي في الحديث أن
بعضهم كان يسأل عائشة ماذا كان يفعل رسول الله فى بيته ، ظانين تبتله ؛ فكانت تجيبهم أنه يفعل في بيته ما يفعله الرجل الكريم بأهله . وسألها رجل : ما كان يصنع رسول الله في أهله ؟ قالت : كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلي الصلاة "
وجاء ثلاثة نفر إلي بيوت أزواج النبي ، فقال احدهم إني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : انا اصوم الدهر ولا أفطر ، وقال ثالث : أنا اعتزل النساء فلا اتزوج أبدأ فقال عليه الصلاة والسلام : " أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له ؛ ولكني أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني
لقد كان محمد إنسانا يأكل ويشرب ، ويمشي في الأسواق ، ويتاجر ويتزوج ؛ وكان رسولا عرف الله ودعا إليه ، اختارته العناية الإلهية ليكون سفيرا بين الله وخلقه ، فله جانبه الإنساني ، فهو يضرب في الأرض ، يسعي ويكد ، وتتوارد عليه العواطف الإنسانية ، وله بيان روحاني يتصل فيه بربه ، ويتلقي رسالته ويبلغها خلقه ، يحيا كما يحيا الناس ، ويجري عليه حكم الموت كما يجري علي الناس ، ويتصل بالله كما يتصل الرسل ، ويؤدي رسالته كما يؤدي الرسل ؛ فمن زعم انه فوق قوانين البشر فقد أخطأ ، ومن جحد رسالته فقد أخطأ
وهو في أداء رسالته أمين معصوم ، وهو في إنسانيته يفعل ما يفعل الرجل الكامل ، يتطلب معالي الأمور ، ويترفع عن سفسافها ، وينشد المثل الاعلي ، ويتحمل بالمروءة ، ويشعر بعظم التبعة ، وتطهر نفسه فلا يتصنع ، ويفعل في السر ما يفعله في العلانية ، ويملؤه الشعور بأن الله خالقه ، وان الله يراه ، وان الله يأمره وينهاه ، فيأتي ما يأتي من الخير ، ويذر ما يذر من الشر ، لا رغبة ولا رهبة ، ولكن حبا في الله ، ومن أحب أطاع -
فكان المثل الاعي للناس في جانبه الإنساني ، وجانبه الروحاني ، في معاملته ، وفي بيته ، وفي دعوته ، وفي عبادته ، وفي تضحيته ، وفي إخلاصه .
لقد كان لمحمد ( ص ) بيت في مكة قبل الهجرة ، وبيت في المدينة بعد الهجرة ، والبيتان مختلفان في مظاهرهما .
ففي مكة ظل من غير زواج إلي الخامسة والعشرين ، وهي سن متأخرة بالنسبة لحالة العرب الاجتماعية إذ ذاك ، ولكن دعا إلي هذا التأخير فقره ، وما الفقر بعيب ، فلما أتيح له الزواج تزوج ، وكان الزواج مؤسسا على أساس صحيح ، من معرفة الزوج للزوجة في خلقها وخلقها ونسبها ، وكانت الزوجة تعرف زوجها كذلك ، فأحر أن يكون هذا الزواج موقفا . لقد عرفت خديجة محمدا في تجارتها ، وكانت تبعث بالرجال يتاجرون لها بالمال في الشام كما يفعل أغنياء قريش ، فبعثت محمدا في ذلك فعرفها وعرفته بعد أن سمعت به وسمع بها ، وخبر كل حال الآخر عن قرب ؛ ثم كان أن عرضت عليه أن يتزوجها بعد أن خطبها كثير من رجال قريش فأبت عليهم ، ولعلها قرأت فيهم الطمع في مالها ، ورأت فيه التعفف عن مالها ، كما كانت من أولئك النساء القلائل اللاتي يقرأن المعاني في الرجل أكثر مما يقرأن المادة والمظاهر . " فأرسلت إليه نفيسة بنت أمية " دسيسا إليه ، فقالت له : ما يمنعك أن تتزوج ؟ قال : ما في يدي شيء . قالت : فإن كفيت ودعيت إلي المال والجمال والكفاءة ؟ قال : فمن ؟ قالت : خديجة ؛ فأجاب
كانت خديجة امرأة مكتملة ، في الأربعين من عمرها ، من قريش أما وأبا ، تزوجت في شبابها رجلا من خيار بنى تميم اسمه أبو هالة ، فولدت منه ابنين هما هند وهالة ، ثم مات عنها ، فتزوجها قرشي اسمه عتيق بن عابد ،
فولدت له بنتا اسمها هند ، ثم مات عنها كذلك ، وقد عاش الثلاثة ، ولعل مالها جاءها من قبل زوجيها فكانت ذات مال وذات تجارة في حياة ابيها .
ثم تزوجت محمدا في الخامسة والعشرين من عمره
في بيت ، في حي النجار بمكة ، كانت تسكن هذه الأسرة ، خديجة وأولادها الثلاثة ومحمد ، وصبي صغير كانت اشتدت الأزمة بأبيه ، فرجاه أهله ان يأخذوا عنه بعض أولاده يعينونه في تربيتهم ، فأخذ محمد احدهم ، وكان هذا الصبى على بن أبي طالب ، كما كان يسكنه مولى لهم هو زيد بن حارثة ؛ فتعادل البيت بصبيانها وصبية . وتعادل الكسب بمالها وعمله ، وظل هذا البيت سعيد خمسة وعشرين عاما ، يتبادل فيه الزوجان الحب والالفة والتعاون ، فلم نسمع مرة بخلاف ولا مشادة ولا غضب ؛ رزقت منه بأولاد لم يعش إلا بنات أربع ، وبين في هذا الوسط الوادع السعيد . وقد اعتاد العرب في هذا الزمن أن يعددوا زوجاتهم ، وخاصة في سني شبابهم . ولم يعدوه عيبا ، ولا تعده النساء كذلك ، ولكن محمدا لم يفعل هذا حبا في خديجة وحرصا على رضاها ؛ ولأنه شعر أنه مهيأ لأمر عظيم يتطلب التقلل من مشاغل الدنيا
كان يشغله التفكير في أمر قومه وضلالهم في عبادتهم وفساد نظامهم ، وكان مقتنعا كل الاقتناع بأن ما عليه قومه ضلال لا شك فيه ، وما يعبدونه باطل لا محالة ، ولكن ما هو الحق ؟
وكانت تبدو عليه نزعة دينية حائرة تتلمس الحق وتصبو إليه ، وكان بيت خديجة كل ذلك فتفهمة وتشجعه وتعينه ، ولقد شوهدا ومعهما علي في الكعبة يعبدون الله على نحو خاص غير ما تفعله قريش ، كان هذا يملك عليه نفسه ، فكانت خديجة له أكبر عون ، فلما حببت
إليه العزلة ، ورأي أن يمضي في عزلته الليالي في غار حراء كانت هي التي تعد له زاده ، وتفهم نفسه ، وتعينه على غرضه . ولما جاءه الوحي لأول مره ، ورجع إلي خديجة يرجف فؤاده ، كانت هي التي دثرتة واذهبت روعه ، واخذته إلى إبن عمها ورقة بن نوفل ، وكان رجلا متنصرا عالما بالأديان ، فطمأنه انه الوحي ، فكانت أول إنسان أمن برسالته وصدقه في قوله ، لأنها رأت منه ما لم يره أحد ، رأته في بيته على فطرته وسجيته ، فلم تقع منه على كذبة ، ولم تقف منه على رياء ، ولا يعرف أحدا كما يعرفه أهل بيته ، فهناك المظهر الحقيقي والإنسان على سجيته . ورأت مقدمات الوحي خطوة خطوة ، فسهل إيمانها بالنتيجة . ولا تسل عن عظمة هذا الموقف يوم يتجلى المعظم الحق فيجد في الوجود إنسانا بجانبه يؤيده ويثبته ،
ثم لما أعلن الدعوة لقومه ولقي منهم شر أنواع العنت ، كانت هي التي تخفف بحديثها وأسلوبها كربه ، وتؤنس وحشته . قال ابن إسحق " كان ( ص ) لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة ، إذا رجع تثبته وتخفف عنه وتصدقه ، وتهون عليه أمر الناس " وكان من فضل الله أن كانت بجانية العشر السنين الأولى من الدعوة وهي اشق السنوات عناء وجهادا وكفاحا .
لذلك لم يكن محمد ( ص ) من الحب والوفاء والتقدير والإعظام لأحد ما أكنه لزوجته خديجة ! فلما قالت له عائشة قد رزقك الله خيرا منها ، قال : " لا والله ما رزقني الله خيرا منها ، أمنت في حين كفر بى الناس ، وصدقتني حين كذبني الناس ، وأعطتني مالها حين حرمني الناس
ولما توفيت في الخامسة والستين من عمرها في العام الذي توفي فيه عمه أبو طالب سمي العام " عام الحزن " وكان شديد الحزن إليها والذكري لها ، فكان من حين إلي
حين يبعث بعض الهدايا إلي صديقاتها ، إحياء لذكرها ودخلت عليه مرة - وهو بالمدينة - اختها هالة ، وكان رسول الله نائما ، فلما سمع صوتها انتبه من نومه لفوره وقال هالة هالة هالة ! ترحيبا بها وهياما بذكر اختها ، وإعظاما لأحب الناس إليه .
أما في الدين فقد كان لبيت محمد ( ص ) شأن آخر ، قد دعاه موقفه في الدعوة وتاييدها والنسب ، وطبيعة الحالة الاجتماعية في عصره ، وظروف كثيرة - ليس هذا موضع ذكرها - إلي أن يعدد زوجاته : هذه عائشة بنت صاحبه ابي بكر ، وهذه حفصة بنت صاحبه عمر ، وهذه أم حبيبة بنت ابى سفيان زعيم قريش ، وهذه صفية بنت حيى بن اخطب سيدة قومها من يهود بني النضير ، وهذه زينب بنت جحش مطلقة مولاه ومتبناه زيد بن حارثة ؛ وعلى الجملة فكن خمس قرشيات واربع غريبات من غير قريش ، بين هلالية وخزامية واسدية وواحدة من بني إسرائيل . فكان سبب الزواج احيانا تأليف قوم ، او توثيق رابطة ، او تشريعا جديدا يخالف ما كان عليه العرب ، أو عطفا على ايتم مات عنها زوجها في جهاد في الإسلام .
وكان النساء في المدينة غير النساء في مكة ، فهن في مكة مضغوط عليهن ، مستسلمات لإزواجهن ، من العار أن يرددن لهم قولا ، بحكم بأس رجال قريش وشدتهم وسطوتهم ، وهي العكس من ذلك نساء المدينة ، فلهن قسط وافر من الحرية ، يراجعن ازواجهن ، ولهن رأي يسمع ، ومطالب تجاب ، واستتبع هذا شيئا آخر وهو غلبة الجد الدائم على رجال قريش ونسائهم ، وحب الفرح والمرح في نساء المدينة ورجالها ؛ ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال : " كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا
تعلمن من نسائهم ! وفيه أن عائشة زفت امرأة إلي رجل على الأنصار فقال النبي : اما كان معكم لهو ؟ فإن الانصار يعجبهم اللهو . وتعليل ذلك من الوجهة الاجتماعية يطول افرد رسول الله لكل زوجة بيتا ، ومع هذا فالعواطف الطبيعية للنساء لا يمكن محوها ، ولا من الخير زوالها ، والإنسان إنسان مهما كان ، كل منهن كان يحرص أن يكون له من رسول الله أكبر نصيب في حبه ، وكل تغار إن شعرت بعطف أ كبر علي ضراتها ، وكل يحاسب علي النظرة والإبتسامة ، ولكل نوع من المزايا تدل بها وأخيرا انقسمن إلي حزبين : حزب فيه عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وصفية وسودة ، وحزب فيه أم سلمة وزينب وميمونة وام حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية
ثم مشكلة اخري طبيعية ، فعائشة أحب زوجة إلي رسول الله لمزاياها ، وفاطمة بنته من خديجة ، وطبيعي ما يكون بين البنت ماتت أمها وتزوج ابوها غيرها وبين زوجة أبيها ، ويزيد ذلك في نفس الزوجة الجديدة انها لم تلد ، والبنت تزوجت وولدت ، والرسول يجب زوجه ويحب بنته ويحب أولاد بنته
هذه كلها مشاكل مستعصية ، ما كان يمكن التغلب عليها والعيشة الهانئة معها ، لولا حكمة من الرسول فوق كل حكمة ، وكان من نعم الله حدوث هذه المشاكل وظهورها فقد استوجبت من التشريع الإسلامي قدرا كبيرا . وكان هؤلاء الزوجات - وخاصة عائشة - مدارس يتلقي فيها الصحابة والتابعون علمهم عنهن " واذكرن ما يتلي في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، فيروون الاحاديث في مختلف الموضوعات من علمهن ، ويحكين ما شاهدن وما سمعن ، وما تصرف فيه الرسول من مشاكل واحداث أمام اعينهن ، وادبه فيما بينهن ، حتى قيل إن ربع الاحكام الشرعية مأخوذ عن عائشة ، وروي لها في كتب الصحاح ألفان ومائتا حديث ؛ قال لها عروة يوما : يا أمتاه
لا أعجب من فقهك اقول زوجة رسول الله ، ولا اعجب من علمك بالشعر وايام الناس اقول ابنة إلى بكر ، وكان من اعلم الناس بذلك ، ولكن اعجب من علمك بالطب كيف هو واين هو ؟ قالت : أي عرية ! إن رسول الله كثرت اسقامه عند اخر عمره ، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتتعنت له الأنعات فكنت أعالجها ، فمن ثم . عدل بينهن في المعاملة علي ادق وجه ، واعتذر من عدم العدل بينهن في الحب فإنه لا يملكه وقال : " اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا املك ؟ وكان إذا صلى العصر زار نساءه جميعا وتحدث لكل منهن ، ثم بات في بيت من لها الليلة وأحيانا يجتمعن في بيتها ، وإذا خرج إلي سفر أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها
إلي أسلوب في المعاملة ظريف ، ونمط في المعاشرة لطيف ، يلعب الأحابيش فتحب عائشة أن تري لعبهم فتستند علي منكب النبي فلا يسأم حتي تسأم ؟ ويسابقها فتسبقه ، حتى إذا سمنت سابقها فسبقها ، فقال هذه بتلك ؟ ويقول : " إن أكمل المؤمنين إيمانا احسنهم خلقا والطفهم بأهله ، وكان اليوم يوم عيد فدخل أبو بكر على عائشة فوجد عندها جاريتين تضربان بالدف ، فانهرهما أبو بكر ، فقال رسول الله : دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد
ويحب الأطفال ويقبلهم ويلاعبهم ويجلسهم في حجره ويأتي أعرابي بدوي فيقول يا رسول الله أتقبل الصبيان ؟ والله ما نقبلهم ؛ فيقول رسول الله ما أملك أن الله نزع من قلبك الرحمة
أزمة كانت نستيقظ من حين لآخر فوضع لها حدا حاسما . كان رسولا وكان مثلا للناس ، وفهم رسالته حق الفهم ؟ اني ليبلغ عن الله رسالته ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، ويدعو إلي الخير ويحذر من الشر ، وليست رسالته أن يجمع ثورة أو يؤسس لنفسه ملكا ، ولا يتأتي أن
يؤدي رسالته على أكمل وجه حتى يزهد في المال وعرض الحياة . ولو التفت إلي المال لم يطع هذه الطاعة ، ولا اجيب هذه الإجابة ، ولا لتفت الأتباع إلي المال ولم يأبهوا للدعوة ، ولفات على الناس درس التضحية ، ولذلك نفوس الفقراء واضطغنوها في أنفسهم ، وما أكثرهم ، ولعز الاغنياء في الدين بغناهم لا بتقواهم ؛ إذن فليتخل عن كل مظاهر الدنيا والترف في العيش ، وليعش عيشة أبسط رجل . وكذلك كان ، فلم يمتلئ جوفه شبعا ، ويبيت بعض الليالي طاويا ، ويمر الشهر ما يستوقد أهله نارا ، يعيشون على التمر والماء ، ولا يرون الرغيف المرقق ولا الشاة السميط ، ويموت ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير ، ويأتيه مال مرة من الغزو فيقسمه ألف بعير علي اربعة انفس ، ويسوق مائة بدنة فينحرها ويطعمها المساكين ولم يدخر لأهله شيئا ، فكان فقره إيثارا لا عوزا
لو كان الشأن شأن نفسه فقط لهان الأمر ، عظيم يضحي لربه ولدعوته فيجد من سعادة التضحية اضعاف ما يجد الشحيح بماله وترفه ، ولكن ما شأن زوجاته ولم يبلغن في السمو سموه ، ولا يفهمن المثل فهمه ، ولا يشعرن بالتبعة شعوره - ها هن أولا ، يطلبن شيئا من السعة في العيش ، شيئا من النعيم الذي ينعم به حتي صغار المسلمين ، وهو يردهن ردا جميلا ، فلما كثر الطلب واشتد اللحاح كان الموقف الحاسم " يأيها النبي قل لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " ؟ فبدأ يخير النساء بين الطلاق والعيشة التى تتفق ودعوته ، وبدا بعائشة فاختارت ربها ورسوله ، وكذلك فعل سائر نسائه ، وحسم الأمر ، ووطن انفسهن على الصبر ، وكان لهن في رسول الله أسوة
وتوفي رسول الله ، وظل نساؤه أمهات المؤمنين ، يرجعون إليهن في المشاكل ، ويستفتونهن فيما دق من مسائل ، يأخذ عنهن مؤرخو السيرة تاريخهم ، والمحدثون حديثهم ، والفقهاء فقههم ؛ هذه عائشة يروي عنها عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسي وابن عباس ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، وعلقمة بن قيس ، وآخرون كثيرون ؛ وقد عمرت حتى بلغت السادسة والستين ، وتوفيت في عهد معاوية بعد أن كانت مرجع الناس في الفتيا وخاصة في أدق المسائل الزوجية بما استفادت من رسول الله . وكذلك كانت حفصة بنت عمر رويت عنها الأحاديث الكثيرة وإن لم تبلع مبلغ عائشة ، وكان يروي عنها أهل بيتها كأخيها عبد الله وابنه حمزة وزوجته صفية ، وعمرت إلي أن بلغت الستين ، وماتت كذلك في خلافة معاوية وعمرت أم سلمة إلي أن بلغت الرابعة والثمانين ، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتا ، وهكذا . فكان حول كل منهن تلاميذ من أهلها وأقاربها وغيرهم يروون عنهن ويأخذون عنهن آراءهن فيما حدث من الفتن العظام بعد مقتل عثمان . ولم ينسين أبدا درس الزهد وبساطة العيش وبذل المال كما علمهن رسول الله ، فقد فرض لهن الفرض العظيم بعد الفتوح فكن يتصدقن به ولا يدخرن منه هذه عائشة أتاها مائة ألف درهم ففرقتها في يومها وكانت صائمة ولم تتذكر أن تشتري لحما بدراهم تفطر عليه ؛ وهذه زينب بنت جحش كانت مع ما يأتيها من عطائها صناع اليدين تصنع بيدها وتخيط ، وتتصدق بكل ذلك في سبيل الله ، ووصفتها عائشة ضرتها فقالت : " لم تكن امرأة خيرا منها في الدين ، وأتقي لله ، وأصدق حديثا ، وأوصل للرحم وأعظم صدقة ، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقربها إلي الله " .
صلوات الله عليه وعليهن أجمعين .
