وجهت مجلة " الآداب " البيروتية الى الاستاذ المسعدي بعض الاسئلة عن احوال الادب بتونس فكانت اجوبته صريحة رأينا ان ننقلها الى قراء " الفكر " تعميما للفائدة . والملاحظ ان زميلتنا أرفقت هذا الاستفتاء برسم حاتم المكى " الكتاب " الذي ازدان به غلاف العدد التاسع من ( السنة . ) " الفكر "
السؤال الاول : هل لكم ان ترسموا لقراء الآداب الخطوط الكبرى للوضع الثقافي والفكري في تونس ؟* ١ - للواقع - اى واقع - على صاحب الفكر اذا رام تقريره او تحليله او وصفه المجرد ان لا ينقصه حقه من البحث العلمى وما يستلزم من تطويل واستيعاب وقد حملتمونى بطبع سؤالكم على الاجمال واود ان يؤخذ جوابى لكم على انه لا يعدو الاشارة البسيطة والايماء التقريبى.
في رأيي انه ينبغي اولا للمتطلع الى تونس الثقافية والفكرية ان لا ينسى انها البلد التى كان لها بعد القرن الثاني للهجرة اعلام من علماء الاسلام امثال سحنون واسد بن الفرات تدوى باصواتهم اركان جامع القيروان وانها اغنت ثروة الثقافة العربية على طول العصور بمثل مؤلفات ابن رشيق وابن شرف وابى القاسم الشابى وانها كان بها طوال قرون احد معاقل العلم الاسلامي الثلاثة الكبرى الا وهى جامع الزيتونة بتونس والازهر بالقاهرة والقرويين بفاس ثم انها فوق ذلك كله انجبت للعالم باسره احد عمالقة الفكر الانسانى : ابن خلدون . . . . ولعل اخص خصائص الوضع الثقافى والفكرى فى تونس انه يتنزل فى صميم هذه السنة الثقافية العربية الاسلامية التى لا تزال سنته على وجه الدهر وانه قائم على هذا الضرب الفطرى او الجبلى من الوفاء التاريخي الدائم الى ذاتيته تلك ولونه الانسانى ذاك .
على ان من السنة ما قد يكون جمودا ومن الوفاء ما قد يكون شيخوخة ونضوب حياة . وما وفاء تونس ولا اخذها بسنتها الثقافية التالدة من هذا ولا من ذاك في شىء . بل لا اظننى مخطئا اذا قلت ان تونس لا تزال منذ القرون تجهد ان يكون وفاؤها لسنتها الثقافية وفاء " ديناميا " حيا لسنة " دينامية " متجددة حية وان يكون الذي ترثه عن الماضى فى غير تنكر له وانكار نقطة الانطلاق نحو جديد يكتسب بجهد جهيد ويضاف الى صالح الموروث وباقيه .
بهذا يفهم السر في ان الثقافة التونسية والتفكير التونسى استطاعا ان يتحملا نحو القرن من الغزو الاوروبى والسطو الاستعمارى وان يخرجا من ذلك بذاتية سالمة من مسخ التقليد الاجنبى والاصطباغ بمستعار الصبغة من ثقافته وتفكيره وسالمة في آن واحد من التجمد والتحجر فى قديم الذاتية الموروثة الذين كانت تدفع اليهما غريزة المحافظة على الوجود تجاه الاستعمار واخطاره وهجوماته .
ولا ريب ان طور " التعصر " الضرورى الذى مر به الشرق العربي كله بين اواسط القرن التاسع عشر واليوم قد مر على تونس اعسر ما يكون وفى اشد الظروف وباعظم الاخطار . وقد خرجت منه البلاد مع ذلك بثقافة مبعوثة كاصدق ما يكون البعث واقوى وبفكر مجدد كاحيا ما يكون التجدد والتجديد . وما من شك عندى فى ان الذى خرجت به تونس من هذا الطور هو - الى جانب محافظتها الكلية على ذاتيتها الثقافية العربية الاسلامية - تقوية الجانب " الانساني " الصميم من تفكيرها ونظرتها الى الوجود . وقديما انتقل ابن خلدون التونسي بالتفكير العربى الاسلامى من لفظة " سنة الله " التى كان بعض العلماء قبله يكررونها من دون معنى علمى الى مفهوم " السنن الكونية " المستقراة من واقع الاحداث والتى يعنى جماع ما كسبه الفكر الانسانى لما ابتدع العلم الحديث .
وكذلك ترى في ميدان آخر ابا القاسم الشابى يتأثر بالغرب وآدابه على طريق شعراء المهجر ولكنه لا يلبث ان يعود الى " حظيرته " الاولى مجددا النظرة والاحساس فيخرج شعرا عربيا صميما يتعالى فيه عن نواح " الرومانتيكية " المجردة وعن " العبرات " المنفلوطية الساذجة الى التغنى بالحان مأساة مصير الانسان وشانه فى الوجود وفي الكون .
ومع انه ليس اكره الى من الكلام عن نفسى فان التصفح والاستشهاد يوجبان على ان اذكر هنا رواية " السد " التى نشرت لى بتونس فى السنة الماضية والتى لا اعلم انه كتب عنها وعرفها فى الشرق غير الدكتور طه حسين . وهى رواية عالجت فيها مشكلة الفعل والخلق الانساني من بعض وجوهها . وكل ما يهمني ذكره منها هنا انها تتناول مشكلة " وجودية " تنتسب فى جوهرها الى بعض ما عالجته فى
القديم " الميثولوجية " اليونانية الخالدة وعالجه فى العصر الحاضر الكثير من كتاب الغرب ومفكريه ولكنها مع ذلك منزلة تنزيلا فى صميم الفلسفة الوجودية الشرقية او بالاحرى الاسلامية بكل ما تذهب اليه من تحديد لماهية الانسان ومنزلته من الله ومن الكون ومن تقدير لامكانيات الانسان وفعالية ارادته ولقدرته وخلقه ولكل ما تحويه تلك الفلسفة من روعة الايمان وقوة الشك ( ١ ) .
السؤال الثاني : كانت الثقافة التونسية مرتبطة اشد الارتباط بالثقافة الفرنسية . فهل تعتقدون انها بدأت تستقل عنها وما هى خصائص هذا الاستقلال ؟ ٢ - هذا ما كنت اتوقعه سؤالا منكم فتعمدت السكوت عنه فى الجواب عن سؤالكم الاول عن الوضع الثقافى والفكرى بتونس .
وسيكون جوابي لكم بسيطا : هذا الارتباط الذى تتحدثون عنه بين الثقافة بتونس ( ولا اقول التونسية ) وبين الثقافة الفرنسية هو اشبه شىء بالصلة بين الغل والمغلول به على وجه من الوجوه وبين الظمآن والماء الذى يشربه على وجه آخر . فان اخذته على الوجه الاول فما اظن ان غلا يصح ان يعد عنصرا من عناصر ثقافة المغلول به . وعلى كل فقد سقط الان وانكسر القيد . وان اخذته على الوجه الثاني فان الماء المشروب لا يسأل عنه بل المهم ان تعرف كيف اصبح الظمآن بعد شربه وهل أرواه الماء وهل انعش فيه قوى الحياة .
وذاك هو معنى الاستقلال فى اخصب صوره واحياها وان يكون الغذاء خادما للحيوية وان ينقلب الى طبيعة المتغذى به قوة فيه . فان كان على هذا المعنى فان الثقافة بتونس كانت ولا تزال اشد الثقافات - الشرقية منها على الاقل - استقلالا عن الثقافة الفرنسية لانها كانت ولا تزال اشدها ملاصقة لها واكلا وهضما واشدها تغذيا بها وامتلاكا لقواها . وهل شأن الحي غير انتزاع قوى الحياة من كل ما . يجده حوله من مأكل ومشرب ؟ انما مراد الامر كله ان يقلب الآكل ما يأكل الى جوهره وطبعة . وقد سبق ان قلت ان الثقافة التونسية موفية كل الوفاء الى طبيعتها العربية الاسلامية . فاى ضير عليها بعد هذا من التغذى بالثقافة الفرنسية - فى الماضي وفى المستقبل - او بغيرها من الثقافات الغربية ان هى استطاعت ان لا يمسخها الغذاء الى غير ما ينبغى ان تكون بحسب ارادتها الوجودية .
ولعل اشنع صور الاستقلال واقربها الى الحماقة استقلال الظمآن عن الماء . واشد الناس احتماء من ملابسة الغير من لم يكن له بقوة شخصيته وامتياز ذاتيته ايمان .
السؤال الثالث : ما هي في رايكم اسباب تأخر الادب التونسى عن الادب العربى في الأقطار الاخرى بصرف النظر عن اضطهاد الاستعمار الفرنسى للفكر التونسي ؟ ٣- اما ان يكون هناك " تأخر " كما تقولون ففي الامر نظر . . . على الاقل .
واما أن يكون انتاج تونس الادبى قليلا فى الجملة فهذا امر لا ينكر . ولا ارى هذا الاقلال الحالي امرا غريبا . فان تونس كانت فى جميع العصور مقلة على وجه العموم ؛ لم تنجب شعراء كثيرين ولم تنبت تربتها غير ابن خلدون واحد . على انى اعتقد مع ذلك ان هذا الاقلال لا يصح تقريره على وجه الاطلاق . فقد كان في الماضى ولا يزال في الحاضر بتونس انتاج فكري ليس فى كميته ولا فى قيمته قليلا كل القلة . ولكن مراكز الاشعاع ونقط الانطلاق - ومصادر التصدير ان صح هذا التعبير - لم تزل منذ القديم واقعة بالشرق . فكل كلمة تقال بالشرق تسمع بالمغرب العربى وكل حدث يحدث به يدوى صداه هناك وكل شويعر او كويتب يظهر بالشرق يصل صيته الى المغرب وقد فخمته الابعاد ودوت به ابواق الصدى المترامى . وعلى العكس لا يكاد يصل الى الشرق من المغرب صوت ولا يصدى لديه صدى . حتى التيارات التجارية جارية على ذلك . فانه لا يكاد يصدر بالشرق ( وبمصر ولبنان وسوريا خاصة ) كتاب الا استوردته تونس وطالعه الناس . اما اذا صدر بتونس تأليف ما فانه قل ما يستورده بالشرق مستورد او يسمع به بالتالي سامع . ومع ان التحرى العلمي يوجب الاحتفاط بالرأى والتحرز في الحكم على الادب التونسى قبل التصدى الى تعرفه والاطلاع على مجموع مؤلفاته وتناولها بالبحث والتحليل والنقد ؛ فانى شخصيا واثق - فى غير زهو بأدب بلادي ولا جحود جائر لقيمته - بانه ليس متأخرا عن ادب الشرق الى الحد الذى قد يظن . وهل نزل ادباء الشرق شعر الشابى وشاعريته الا المنزلة الممتازة التى تعلمون ؟ ولو تتبع الشرق حركة تونس الادبية وانتاجها عن كثب واستدرك ما فاته حتى الآن من تعرفها حق المعرفة لاستقام له حينذاك ان يصدر فيها حكمه الصحيح . فلا جعل اذن آخر كلامي هنا رجاء فى ان يكون استقلال تونس الحديث ودخولها عهد اتصال وتعاون مع شقيقاتها الشرقية عاملا على تسهيل ذلك التعرف وعلى اتاحة الفرصة لادباء الشرق للاطلاع على مقدار ما تشارك به تونس فى حقل النشاط الثقافى والادبى العربى العام من جهود وانتاج ولتقدير تلك المساهمة حق قدرها في الكمية وفي القيمة الفنية .
