قد يحمد الفنان إذا اعتز بنتاجه وسما به عن الابتذال والعرض والمقارنة ؛ وقد يحمد إذا عرف لنفسه قدرها لأنه أدرى الناس بعبقريته وقوته ، وأشدهم إيمانا بالهامه وتوفيقه
ولكنه لا يحمد ولا يثنى عليه إذا تدرج اعتزازه وإيمانه بقدرته إلى الأنانية التي تحمله على تقديس نفسه وإنكار الجميع ... الجميع دون استثناء ... !
و محمود صبح موسیقی مرهوب موهوب يلم يفته إلماما تاما ويجيد العزف على العود والناى والبيان ، وله لون خاص ينفرد به ويعجب جمهرة كبيرة ... ولكنه يعتقد بل يؤمن إيماناً عميقاً أنه مبعوث العناية الإلهية لإنهاض الرسالة الموسيقية . فعلى كل من ينتمي إليها بوشيجة أن يؤمن به إيمان العجائز فلا نقاش ولا جدال
) لأن الذى يستطيع أن يناقشه أو يجادله لم يخلق بعد ، ولأن الله سبحانه لا يخلق رسولين في عصر واحد وإلا فسدت الرسالة ) . هكذا يقول الرسول ( محمود صبح) الذي يذكرنى ( بروبسبير ) الذي آمن بعصمته فكان يعدم كل من يظن فيه المعارضة لآرائه ومبادئه لا لشيء إلا لأنه كافر بالعصمة والفضيلة !
قامة ربعة وإن كانت تميل إلى القصر ، تشبه ) شوال ( اللح لونا و شكلاً وثقلاً ، وإن كانت تمتاز بظرف عجيب . قامة وإن حرمت نور البصر ، فقد وهبت قوة هرقلية تستطيع (بفضل الله) أن تجندل من تشاء بضربة فنية قاضية . قامة تجيد كافة الألعاب الرياضية من ملاكمة ومصارعة وحمل أثقال ....
رأس أودع الله فيه كنزاً غنياً من الفن الأصيل للمكين المقتدر المبتكر حاجبان كثيفان لو وزع شعرهما على عشرة رؤوس ( صلعاء ) لأصبحت غنية بالشعر القوى . أنف كأنف الصقر يهبط في هدوء وتقوس حتى يستقر على شكل ) هاب كبير ) ... !!
وجه ممتلىء طالما زينته العامة حتي نار عليها وأبى إلا أن ( يتطربش ) لتكمل أناقته ورشاقته ... فم وإن كان يذكر الله كثيراً ويجيد تلاوة كلامه ... إلا أنه لا يحب أن ينضب الشيطان فيهجر أوامره وإغراءه بل يندفع في سبيل ترضيته فيصف ) إخوانه ( وزملاءه بوصف ) مزخرف ) مصنوع في معامل ) بولاق ) وحوش بردق
أذنان حادتان صارمتان لا تعترفان إلا بنتاج صاحبهما ، أما غيره ... ف ( صوء ... صوء أعوذ بالله ، يا ستار العيوب ، إيه ده ؟؟ )
بدان قديرتان ساحرتان إذا صفا صاحبهما أسرتا وسحرتا ، وخلقنا قوة وقدرة وفناً أصيلاً نبيلاً . يدان تسجد لهما الموسيقى العربية ( البحتة ) ، ويخضع لهما الفن العالي الذي لا يخضع إلا للقليلين
صوت هائل كامل شهد له الجميع بالقدرة والقوة والمذوبة وقوة التأثير . أروع من يؤدى ( الباص ) وأبدع من يحسن ( البريتون ) ، وأرفع من يجيد ( التيتور ) . يتكون من ديوانين ونصف تقريباً لا عيب فيه إلا خلوه من العيب ....صوت
لو استطاعت محطة الإذاعة أن تهى له الجلسة الفنية المضبوطة أمام (الميكروفون) لكان آية ، ولخلا من تلك العواصف التي تكاد تصم الآذان .
صوت يقلد القطار أدق تقليد ، ويحاكي صوت ( القلة ) أنم محاكاة. ومن ظرف محمود أنه إذا صفا أسمعك بفمه صوت العجين عند ما ( يلت) حتى لتخاله امرأة منهمكة فى ( ماجورها ) . أقدر من يلحن الموشحات ، ويكفيه فخراً وسموا وخلوداً أن أعظم معن بالناما بلغ من القوة والقدرة لا يستطيع أن يحاكيه يواحد من موشحاته لتشميها ، وكثرة أنغامها ، ووفرة حركاتها ، ودقة تركيبها ، وإن حاول فالفشل له بالمرصاد ...!
فنان موهوب مبتكر بصير بما يصنع ، خبير بفنه لا يحاكي ولا يقلد بل له لونه الخاص المعروف لأنه كما قلنا قبلاً لا يؤمن إلا برسالته . لا يعرف شيئاً في القواعد الغربية مع أن علم و التحسيس » قد تقدم وأصبح يدرس في كل مكان
يجيد العزف على المود ، واللعب على البيان والنفخ في الناي إذا سألته عن ( فلان ( المشهور قال : ( طز ) وعن فلانة المعروفة قال : ( طزین یا سیدی )
الويل لك إذا سمته وأعلنت سرورك وتقديرك بقولك ( ياسلام يا شيخ محمود ! الله يزيدك) لأنه يلتفت إليك متهكماً متحفزاً صارخاً ( هو لسه يا أخينا حيزيدنى ... حيخلينى إيه أكثر من كده ؟) والويل لك أكثر وأكثر إذا أخذتك النشوة فنسيت أن تحييه لأنه يسكت فجأة ويخاطبك :
حضرتك مش سامعني يا فندى ؟ سامع يا أستاذ دى حاجة عظيمة جداً أمال ساكت ليه ؟ ساكت ليه يافندى ؟ ودانك بتوجعك ؟ والله مانا قابل حاجة إلا لو خرجت من هنا . اتفضل يا فندى وخدها وهى حلوة ... !
كان في الحسينية من خمس عشرة سنة يعرف بعوده أمام حشد من مريديه ومحبيه فلما أخذته النشوة رى ( بعوده ) وصرخ متمدداً قائلاً :
أغيثوني ... أدركونى ... ! - مالك يا مولانا ... مالك يا مولانا . .؟ - أغيثوني ... أدركونى ... أمسكونى جيداً ... سدوا ودانی ... سدوا د ودانى » ... !د
هرع إليه هذا الجمع الحاشد وكله طفة وإشفاق فإذا بالشيخ محمود يقول :
الجن عاوزه تخطفني ، رئيسهم كلمنى فى ( أذنى ) وقال : احنا عاوزينك يا محمود عشان بنتى حتتجوز ... امسكونى ليخطفونى
عصبي إلى درجة بعيدة . لا يطيق النقد . ومن ظريف أمره أيام كان يذيع في المحطات الأهلية أنه كان يجلس في محطة فؤاد ) قائلاً لهؤلاء الذين يكتبون عنه أو يتكلمون بما لا يحب :
يا ليل ، ياليل ، سامع ( يا فلان ) يا ابن . . . شايف الشغل ازای ... يا ليل ، یا عونى يا ليل ، ( فلان ) نحن محمود صبح ، انائب يابن الـ ياليل يا عينى ، لاح بدر التم أمان . أمان دوس بالاللي ... يا بتوع (....) يا أولاد ... اتعلموا وخلوا عبد الوهاب بتاعكم يتعلم ! ؟
وبعد محمود صبح شخصية عظيمة ظريفة انحدرت من بيت عريق ؛ ومن أصل طيب . لا يعتمد في معيشته على فنه بقدر ما يعتمد على إيراده الخاص الذي يكفل له عيشاً رغداً ، ولولا مغالاته بقدره واعتداده بنفسه لكان عظما نافعاً
