الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 244الرجوع إلى "الرسالة"

محنة الآنسة " مى "

Share

عزيزى صاحب الرسالة سلام الله عليك ورحمته . وبعد فقد ذكرتم فى العدد ٢٣٨ من (الرسالة) الغراء تماثل الآنسة  (مى)  زيادة من مرضها الذى لازمها نحو عامين ، وبشرتم أهل العلم والفضل بهذه البشرى التى أثلجت الصدور وأقرت الأعين ، فقمتم بعملكم هذا بحق الأدب عن كل أديب جزاكم الله خير الجزاء ولكن قارئ هذا الخبر يظن أن الآنسة (مى) كانت حقيقة مريضة فى لبنان وأنها الآن فى دور النقاهة ، مما يخالف الواقع ويسدل ستاراً كثيفاً على المأساة التى أراد بعض من لا أخلاق لهم أن يمثلوها ويحولوا بين هذه العبقرية وبين ما كانت تنثره من الدرر الغوالى وتبديه من الأفكار النيرة وتخدم به المجتمع العربى وأظنكم لا تضنون على قادرى قد ( مى) وعارفى  فضلها بإزاحة ذلك الستار الأسود عن تلك النفوس المريضة والوجوه السود التي قذفت بأرقى شخصية أدبية في المارستان ثم بالمستشفى تحت جنح الظلام ومنعتها من الاختلاط بالناس فجعلوا منها ميت الأحياء

وعلى هذه العقيدة أكتب للرسالة الغراء - لا لك ولا لى ، ولكن للحقيقة والتاريخ - عما أصاب (مي)  من المصائب، وانتابها من النوائب، وفى خلال السنتين المنصرمتين حتى عادت شبحاً من الأشباح تنقم على البشرية الظالمة وتعبت على جيرانها الأقربين ، وخصوصاً سيدات العرب اللائى انتصرت لهن فيىكل مواقفها . وإلى القارئ العزيز فصول هذه المأساة وله أن يحكم بنفسه فى أى عصر من العصور المدنية نحن ؟ وما هذا الذي يجري فى معاهد العلم والفن من المآسى والمخازى التى تشيب لهولها الولدان وتضطرب الأفئدة ؟

لا يعرفون أين تنبت هذه الزنبقة العطرة ، فرأينا أن نقتضب من سيرتها ما تجب معرفته الآنسة مى هى مارى ابنة المرحوم الأستاذ إلياس زيادة من عرمون غزير فى لبنان الذى كان مسقط رأسها ومنبت غرسها كما كانت مصر التى انتقلت إليها مهبط أنسها ومهوى نفسها وهناك فى بلد العلم فى العالم العربى بدأت حياتها المجدية المفيدة فنشرت كتاب باحثة البادية وهو بحث انتقادي طبع سنة ١٩٢٠ ثم عززته بثان وثالث هما ابتسامة ودموع أو الحب الألمانى طبع سنة ١٩٢١ ، وكلمات وإشارات وهو يحتوى على خمس عشرة خطبة ألقتها فى مناسبات مختلفة وهو أول كتاب جمعت فيه خطب سيدة شرقية عربية وقد طبع سنة ١٩٢٢ ثم كتاب بين الجزر والمد ، ودمعة وابتسامة ، وظلمات وأشعة ، وقد طبعت جميع هذه الكتب فى سنة ١٩٢٣ ثم كتاب الصحائف الذي طبع سنة ١٩٢٤ وكتاب سوانح فتاة والمساواة ، غير الأبحاث الناضجة والآراء الاجتماعية الصائبة التى كانت تنشرها فى المجلات والصحف حتى وصلت إلى درجة كانت جريدة الأهرام الكثيرة الأنصار الواسعة الانتشار تفتح لرسائلها صدرها وتجعلها أولى مقالاتها ومما يدل على علو منزلة الآنسة  (مى) أن بين الذين قرظوا كتابها (المساواة)  الأمير شكيب أرسلان فكتب له المرحوم الدكتور يعقوب صروف أحد صاحبى المقتطف رسالة جاء فيها ما يلي: ( والمساواة مقالات نشرت أولاً تباعاً فى المقتطف ثم جمعت وطبعت كتاباً على حدة فراقنى جداً وصفكم له ، وأرجح أنه لم تترجم شيئاً ترجمة لأنها تتكلم معى فى كل الموضوعات الأدبية والفلسفية كما تكتب ، فإنها قوية الذاكرة إلى حد يفوق التصور، وقد قرأت كثيراً من الكتب فى اللغات التى تحسنها: الفرنساوية والإنكليزية والإيطالية حتى لقد تستشهد فى كلامها معي بأبيات من شكسبير أو بيرون كما تستشهد بالمتنبى والمعرى وحفظت أيضاً كثيراً من قصائد شوقى  والمطران وحافظ وأظنها تصوغ معانيها فى ذهنها بالفرنساوية والإنكليزية قبلما تعبر عنها بألفاظها العربية )

وشاء القدر أن تفقد مى والديها واحداً إثر واحد كما يفقد كل إنسان أبويه فى هذه الحياة ، ولكن مى الشاعرة العطوف الرقيقة الحواس تزلزل منها هاتان الصدمتان قوتها واحتمالها ، وتساورها الهموم والأحزان فتقبع فى عقر دارها تناجى نفسها وتندب حظها بفقد أعز الناس عليها ، فيأتى إليها بعض ذوى قرباها في ثياب الحمل وهم ذئاب خاطفة ويحملونها على السفر إلى لبنان وطنها الساحر على أمل أن تجد فى جوه الجميل ومائه النمير ومناظره الخلابة وجباله الشم ما يرفه عن نفسها المشوبة بالأكدار

وتحقن مى بمصل مخدر سواد ليلة من الليالى فتصبح بياض نهارها بين المجانين فى مستشفى الأمراض العقلية المسمى بالعصفورية فى ضاحية بيروت فتثور ولكن على من ؟ وتستنجد ولكن بمن ؟ إنها أصبحت فى عداد الذين أفقدتهم صدمات الحياة الرشد وأقعدتهم المصائب هذا المقعد الأليم . وتنقطع مى عن الطعام والشراب إلا ما تسد به الرمق وتستبقى بواسطته الحياة

وبعد أن تقضى السنة فى ذلك المارستان ينقلها أولئك الذئاب إلى مستشفى ربيز فى بيروت ولكن يحوطونها برقابة شديدة ويمنعونها من الاختلاط بأحد لئلا يطلع على ما بيتوا لها من شر مستطير وأعدوا لها من ظلم صارخ فتتم سنة أخرى بين العقلاء الذين لا تستطيع الدنو منهم والتحدث إليهم

ويسعف الحظ فيؤتى بسيدة من آل الجزائرى فى دمشق إلى المستشفى وتوضع فى غرفة مجاورة لغرفة مى السجينة فتسمع  (مى) صوت السيدة وهى تتململ فى فراشها من شدة الألم الذى أعقب عملية جراحية فتفتح الباب الموصل بين الغرفتين بجهد وتدخل إلى غرفة السيدة الجريح لمواساتها على تخفيف آلامها وتكرر مى هذه الزيارات ليلاً فى خلسة من الرقباء

وتستأنس السيدة الجزائرية بجارتها الحنون لا سيما بعد أن اندمل جرحها فتسألها عن حالها وسبب مقامها فى المستشفى فتنفجر ( مى )  بكل ما فى نفسها من آلام وتشكو أمرها وما تقاسيه من عنت

الظالمين إلى السيدة التى تألم كثيراً لها وتستعين بأوليائها من الرجال على كشف مظلمتها ويقوم هؤلاء السراة الأمجاد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائرى ويعملون على إطلاق سراحها وينتهى الأمر بتدخل إدارة الأمن العام وإخراج ( مى)  النابغة من سجنها

فتعود الذئاب الخاطفة التي تخشى أن ترد إلى ( مى)  حقوقها الشرعية بالتصرف فى أموالها وحليها ومكتبتها الغنية التى وضعوا أيديهم عليها ظلماً وعدواناً ، وتصرفوا بها تصرف المالك فمى ملكه اعتسافا وطغياناً - يعودون إلى مزاعمهم الأولى من اختلاط عقلها وضعف مداركها ويلحون باستشارة أهل الاختصاص من الأطباء ، وتكون النتيجة دعوة طبيبى مستشفى العصفورية وربيز لمعرفتها السابقة بحالتها وطبيبين آخرين ، فتقرر هذه الهيئة الطبية المستشارة أن حالتها الحاضرة تبعث على الرضى ، ولكن بالنظر لضعف جسمها يخشى أن تتأثر أعصابها مرة أخرى ، ولذلك يشيرون عليها بقضاء دور النقاهة فى منزل مناسب ببيروت

وتنقل بالفعل إلى ذلك المنزل هى وممرضتها الموكول إليها أمر العناية بها والقيام على حاجاتها ولوازمها وعقيدة الطبيب فى مريض من مرضى العقول لها تأثيرها فى نفسه ، فهو يظن به الظنون ولا يريد أن يقتنع بصحة مداركه مهما كانت ظواهره حسنة ولعل هذا هو الذي حدا بالطبيبين المداويين لها قبلا على الإصرار على رأييهما فيها إن لم يكن هناك دافع آخر يدفعهما إلى ذلك التعنت ويستمع الناس ولا سيما الطبقة المستنيرة إلى ما آل إليه أمر ( مى ) فيأتون زرافات ووحداناً إلى كعبة الفضل يحجون إليها ويكون فى طليعة هؤلاء الحجاج الكرام صديقنا فارس بك الخورى رئيس المجلس النيابى السورى  وقرينته الفضلى . واستمع إلى ما يقوله هذا الرئيس الجليل لمندوب أكبر صحيفة يومية لبنانية عن الآنسة ( مى )  :

(يمكننى أن أقول بكل صراحة إننى تحدثت إلى أناس كثيرين فى بيروت فلم أر فيهم من هو أعقل من الآنسة ( مى ) . وأزيد على ذلك أننى سمعت من بعضهم أخطاء لم تفه             ( مى )  بواحد منها فهى بحالة عقلية تامة، ولكن صحتها الجسدية ضعيفة جداً

ومما قالته لى والألم ينبعث من عينيها : (تصور مى زيادة على بعد عشرين دقيقة من بيروت قلب الشرق العربى وعاصمة لبنان الجميل الخالد ومهد الحضارة والنور وأم الجامعات والمؤسسات العلمية ودار الجمعيات الأدبية والخيرية ومركز جمعية النهضة النسائية . أجل تصور  (مى) سجينة على بعد عشرين دقيقة من البلد الذى ذكرت)

ثم تلفتت مى إلى السيدة قرينته فتقول لها : (أهذا ما كنت أنتظره يا سيدتى ؟ أهذه هى المكافأة التى أعدتها لى المرأة الشرقية بعد جهاد طويل ؟ أهذا ما تلقاه الأديبة فى الشرق ؟ )

ولم يقتصر عمل فارس بك على الإدلاء بآرائه إلى الصحف ، بل إنه ذهب وبرفقته الأمير عادل أرسلان إلى ندوة المجلس النيابى اللبنانى وتحدث عن زيارته لمى وعن الأثر المؤلم الذي تركته هذه الزيارة فى نفسه

وشاع ما عوملت به مى من العمل السيئ وذاع فى لبنان فراع الناس ما سمعوا وأذهلهم ما قرءوا ، فاندفع أنصار الفضيلة إلى الأخذ بضبعها وشد أزرها ورد عاديات العادين عنها ، وتقدم الجميع المحامى المشهور معالى الأستاذ حبيب أبى شهلا وزير الداخلية السابق فى الحكومات اللبنانية المختلفة ، وتطوع للدفاع عن حقها الهضيم وحريتها السليبة أمام القضاء الذي أقيم لإنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوى ، فسر الناس لهذه الغضبة المضرية والنعرة الإنسانية ، وبدءوا يذكرونها بكل شفة ولسان ، ويكبرون هذا العمل من شخصية كبيرة مشهورة فى الأوساط القضائية والإدارية ، وهم على مثل اليقين من حصول القصد ونجاح المسعى لما عرف عن معالى الأستاذ أبى شهلا من قوة الحجة ووفور العلم وصحة المنطق مما يضمن الفوز له فى هذا المعترك

وبلغ أمر مي إلى أسماع الفلسطينيين الذين يجلون هذه النابغة ويبجلونها ككل عربى فقامت أقرب مدينة من فلسطين إلى لبنان وهى عكا تثأر للفضيلة وتنتصر للعلم والأدب وتقدمت بواسطة الهاتف برسالة إلى المحامى الأستاذ حبيب أبى شهلا على

يدي كاتب هذه السطور هذا نصها : - إن محدثكم الآن وحوله جماعة من أدباء وعلماء هذه المدينة التاريخية عكا يتوجهون بخالص الأمانى وكبير الرجاء إلى الوزير الذى لم تبطره النعمة ولم تمنعه من الدفع عن المظلومين لتتولوا بما عرفتم به من الهمة المشكورة والغيرة المحمودة الدفاع عن مفخرة أدبيات العرب فى القرن العشرين ونابغة النساء فى الأقطار العربية الآنسة مى زيادة

إن إنقاذها من هذه الكارثة يسجل لكم يداً كبيرة مشكورة بيضاء فى خدمة الأدب العربى واللغة العربية فنرجو أن يحقق الله على يديكم هذه المبرة العظيمة لنهضة النساء فى هذا الشرق العربى المتطلع إلى المستقبل الباسم بهمة أمثالكم وتقبلوا تحياتنا فى هذه المدينة. . .

ومما أذكره عن ( مى )  أنى كنت فى بيت المقدس فى أوائل سنة ١٩٢٣ فجاءته الآنسة ( مى )  زائرة دارسة وراح الأدباء والفضلاء للترحيب بها والتعرف إليها ، وقصدت أنا ورفيق لى إلى زيارتها في المنزل الذي نزلت فيه فلم نجدها إذ ذاك، وفيما نحن عائدون قال لي صاحبي وهو يحاورني: أتدري أن علم  ( مى ) جنى عليها؟ فقلت له: أفصح عما فى ضميرك فيظهر أن للكلام بقية . فقال : أنا أحد الذين كانوا يرون السعادة كل السعادة فى الاقتران  ( بمى)  لما وهبها الله من الخلق الجميل والصفات الطبية ولكنى كنت أرى أن مستواها العلمى فوق مستواى فلم أجرأ على طلب يدها . قال : وكان لى أمثال كثيرون ولكنهم كانوا يرون رأيى فيها وكنا حين نلتقى بمى النابغة نشعر بعاطفة الإكبار والإجلال لآدابها الرفيعة

والذى قال لى هذا القول لم يكن من عامة الناس بل هو من خريجي الجامعة الأمريكية ومن أصحاب الثروات الطائلة والذين أثروا فى الحياة الاجتماعية والمدنية ، ولكنه كان يرى نفسه دونها فى العلم والفضل ويعترف بذلك، فانظر ماذا كان مصير هذه العلوم والفضائل بين أعدائها الألداء ، عاملهم الله بما يستحقون وأذاقهم عذاب الهون

اشترك في نشرتنا البريدية