الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 964الرجوع إلى "الرسالة"

محنة مصر محنتنا

Share

تعانى مصر العزيزة هذه الأيام، ما يعانيه الحر الأبى  أكره على الضيم، وأريد على ما لا يريد، وجرع السم مدوفا فى  الحنظل، وقطعت أوصاله وهو يشعر، واستبيحت محارمه وهو  يسمع ويبصر حتى إذا استيأس من الإنصاف ونفذ صبره خطا  الخطوة الفاصلة، وأقدم على تحطيم القيد بنفسه، وعلى تمزيق  الصحيفة التى أملتها القوة على الضعف فقبلها مكرها كمختار؛  وكانت أهون الشرين، فأصبحت - بحكم الزمان - أثقل  الخطبين

سمعت مصر على حل العقدة التى عقدها السيف يوم التل  الكبير، وأحكم المكر عقدها بعد ذلك فى سلسلة من الأعوام  بلغت السبعين، صاحبتها سلاسل من الأحداث والأسباب  المصطنعة زادت العقدة تأربا واستحكاما، وسلاسل من الوعود  المنومة تكررت فألفت وفقدت التأثير؛ وفتحت مصر عينيها على  أفظع ما تفتح عليه العيون: تغرم ليغنم الإنجليز، وتجوع ليشبع  الإنجليز، وتموت ليحيا الإنجليز، وينهدم مجدها ليبنى بأنقاضه  مجد الإمبراطورية الإنجليزية، ويفرض عليها أن تعيش غريبة فى  وطنها، وأن تعاون على طمس حضارتها ومسخ عقليتها، والانسلاخ  من شرقيتها، والنسيان لماضيها، وأن تنتبذ من أهلها مكانا  غربيا... وأن تجفف النيل لتفهق به مشارع التاميز...

صممت مصر على إحدى الخطتين، فكانت التى فيها الشرف  والكرامة، بعد أن استنفدت التجارب، وأستفرغت الجهود،  وبعد أن استعرضت الماضى بعبره وشواهده، فرأت أن ساعة من  العمل خير من ألف شهر فى الكلام، وأنها تمارس خصما إن  استنجزته الوعد طاول، وإن تقاصرت أمامه تطاول؛ فخطت  هذه الخطوة واثقة مستبصرة، وتركت للأقدار ما وراءها، كما

يفعل المظلوم المستيئس من إنصاف ظلمه، ومن نصر النظارة:  يركب الحد الخشن، ويعتمد على نفسه، وينادى ربه: (أنى  مغلوب فأنتصر)

رأت مصر - كما رأينا وكما رأت الشعوب المستضعفة -  أن السنة قد انعكست، فأصبحت أيام الحرب أكثر عددا من  أيام السلم، وأن لصوص الاستعمار تشغلهم الحرب عن السلم، ولم  تشغلهم السلم عن الحرب، فأصبحوا فى حرب متصلة الحلقات

وعلمت مصر - كما علم غيرها - أن الشعار الكاذب لحرب  ١٤ - ١٨ هو وعود المتحاربين للأمم الضعيفة بأن نهاية الحرب  هى بداية تحريرهم فليسكتوا إلى حين، لأن السلاح خطيب يجب  الإنصات له، ويحرم الكلام معه، فلما انتهت تلك الحرب أمعن  اللصوص المنتصرون فى استعباد المستضعفين، وصمت آذانهم  عن سماع أصواتهم. وجاءت حرب ٣٩ فتجددت تلك الوعود  بألفاظها، وزيدت عليها نون التوكيد المشددة، وسيقت تلك  الشعوب الموعودة على نغماتها إلى جهنم بأوزار غيرها، ولمنافع  غيرها. فلما خفتت المعامع، وسكتت المدافع، عادت طبيعة  الكذب والإخلاف إلى مستقرها من نفوس اللصوص، وعادت  الحالة إلى أشنع مما كانت عليه من تحكم واستعباد. وما انتهت  تلك الحرب حتى ظهرت عليها أعراض الحمل بحرب أخرى ثالثة،  وأصبح العالم كله استعدادا لها، وأوجد الطغاة العالون فى الأرض  بذاك مرخصا لطغيانهم ولإسكات الأصوات المطالبة بالتحرير؛  وعادت نوبة المماطلة والتسويف والوعود الكاذبة والتعلل بأن  الحرب على الأبواب، فلنحتفظ بهذه الأبواب، وبأن الديمقراطية  فى خطر، فلنتعاون على إنقاذها مجتمعين قبل كل شىء ثم تتناصف.  وهم لا يريدون من الديمقراطية إلا سيادتهم واستعلاءهم وتحكمهم  فى الشعوب والأوطان واستئثارهم بقواتها وخيراتها، فقالت  مصر: إذا كانت الحرب لم تنصفنى مع احتراقى بنارها،  وكانت السلم لا تنصفنى مع اضطلاعى بوسائلها وتمهيدى لأسبابها،  فلأنتصف لنفسى، ولآخذ حقى بيدى... فأقدمت، وجاءت بها  غراء شهرة الأعلام، وسنتها سنة حسنة لها أجرها وأجر من  عمل بها، ممن ضاقت به الحيل، واشتبهت عليه السبل. ولعمرى  لئن سبقها إلى هذه المنقبة رجال من فارس، ليلحقنها فيها رجال

من العرب الأشاوش...

الآن... يا مصر. الآن وقعت على مفتاح القضية، وقد  أقدمت فصممى، وأحذرى النكول والتراجع فإنهما مضيعان  للفرصة. اجعلى من أرضك صعيدا واحدا وأجمعى أبناءك كلهم  فيه صفا واحدا بقلب رجل واحد، على الحفاظ والنجدة والاستماتة  فى حقك والموت فى سبيله؛ واجعلى على وجهيك وجها واحدا  مستبين القسمات، واضح السنن، يراه عدوك فلا يرى إلا الحق  مشرقا، والغضبة بارزة العنوان.

إن بين السبق والتخلف خطا دقيقا يتجاوزه الحر الأصيل  فإذا هو مستول على القصب. وإن بين النصر والهزيمة خطوة  ضيقة يخطوها الشهم الشمرى فإذا هو حائز للغلب. وإن المعالى  شد حيزوم، وشحذ عزيمة، وتلقيح رأى سديد برأي أسد،  وتطعيم عقل رشيد بعقل أرشد؛ ثم استجماع للقوة الداخلية كما  يستجمع الأسد للوثبة

ليت شعرى.. لو لم تصنع مصر ما صنعت، فماذا كانت  تصنع؟ أكانت تستخذى للغاضب فتبقى مقيدة به، يعادى  فتعادى بلا سبب، ويحارب فتحارب بلا أجر ولا غنيمة،  ويرضى فترضى بلا موجب، ويواصل فتواصل على مضض؟

وكنا نظن أن الإنجليز راجعوا بصائرهم، وأخذوا من  تأديب الزمان بنصيب، ومحو سيئة الاستعمار بحسنة التحرير،  وسنوا للمستعمرين الجائعين سنة التعفف - يوم حرروا الهند  وباكستان - على ما فى ذلك التحرير من شوائب - ويوم  أعانوا سوريا ولبنان على التخلص من البلاء المبين. كنا نعتقد  أَن تلك البوادر من إنجلترا - لو تمادت عليها - أصلح لها  وأبقى على شرفها؛ لأن من ثمراتها أن تصير خصومها أصدقاء  وأعوانا، ولكن معاملتها لمصر هذه المعاملة القاسية التى انتهت  بالأزمة الحالية - كذبت ظنوننا، وسفهت اعتقادنا، وأقرت  أعين المستعمرين أعداء التحرير

إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المعبرة عن إحساس  الشعب الجزائرى كله، تعلن تأييدها للشعب المصرى وتضامنها  معه فى موقفه الحازم؛ ولا تصدها عن أداء واجبات الأخوة                                                      هذه الحدود الوهمية التى خطها الاستعمار بين أجزاء الوطن الواحد،

ولا هذه السدود الواهية التى أقامها بين أبناء الوطن،  لأن العواطف الجياشة كعثانين السيل لا تردها حدود ولا سدود  وجمعية العلماء تحيى جهود الشعب المصرى المجاهد فى سبيل

حريته واستقلاله، وتدعو له بالثبات فى هذا المعترك الضنك،  وبالانتصار فى هذه المرحلة الحاسمة؛ وأن يكون انتصاره آية من  الله يثبت بها عزائم المستضعفين، ويحل بها ما عقد الأنوياء.  وإن الشعب الجزائرى حين ظهر بهذا الإحساس الشريف الطاهر  نحو أخيه الشعب المصرى - إنما يقدم جهد المقل من قلوب  ملؤها الحب لمصر، والاعتزاز بأخوة مصر، والإعجاب بما  صنعت مصر. وإنه يعتقد أن كل مصرى يخرج من إجماع مصر  فهو مدخول العقيدة، مغموز النسب، وأن كل عربى لا يؤيد  مصر، فهو عاق للعروبة، ناكث لعهدها؛ وأن كل مسلم لا يعين  مصر بما يملك فهو مارق من الأخوة الإسلامية الشاملة  البصائر

اشترك في نشرتنا البريدية