الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 278الرجوع إلى "الثقافة"

مختارات من إمرسن

Share

في اليوم الخامس والعشرين من مايو من عام ١٨٠3 ولد رالف والدو إمرسن في مدينة بوستن بأمريكا لأب من رجال الدين . وبعدما تخرج في جامعة هارفارد اشتغل بالتعليم ، ولكنه لم يلبث على هذه الحرفة طويلا ، بل التحق بإحدي الكنائس قسيسا كأبيه . ولما كان يميل بطبعه إلي حرية الفكر ، فقد أخذ يذيع على الناس خلال عظاته مبادئ ثورية لم تتفق وما كانوا فيه يعتقدون . فاشتد سخط العامة عليه ، وتبرمهم به ، حتى اضطر إلى الاستقالة من عمله ثم رحل إلي أوروبا والتقي بكبار كتابها وشعرائها ،

وتعرف إلي كولردج ، ووردزورث ، وكارليل ، وعاد بعدئذ إلي أمريكا واشتغل أستاذا بجامعة بوستن ، وألقي كثيرا من المحاضرات العامة التي لفتت إليه الأنظار . وحينئذ أدرك الناس أن بينهم أديبا كبيرا وقائدا عظيما من قادة الفكر ، وقوة تدفع الرأي الأمريكي إلي الإمام . ومات إمرسن في عام ١٨٨٢ ، بعدما اعترف له الأمريكيون جميعا بالصدارة في الأدب ، والزعامة في الفكر .

كان إمرسن عميق الفكر ، ولكنه لم يكن فيلسوفا بما تحمل هذه الكلمة من معني لم يكن فيلسوفا له مذهب خاص وطريقة خاصة ، بل إنه كثيرا ما يناقض نفسه فيما يكتب وما يقول . وأشهر ما خلف لنا هذا الكاتب العظيم " مقالاته" و " كتاب الطبيعة " و "خصائص الإنجليز" الذي نشره إثر عودته من زيارة إنجلترا ، و " نماذج الرجال " الذي صاغه علي صورة كتاب كارليل " الأبطال وعبادة البطولة" وله فوق هذا بعض المقطوعات الشعرية الرائعة .

ومن النقاد من يعتقد أن " نماذج الرجال " خير ما كتب إمرسن . في هذا الكتاب تخير إمرسن تلك الشخصيات البارزة التى كان يراها نماذج للبشرية . ولو ألقينا نظرة عاجلة على من كتب عنهم من الرجال عرفنا

كثيرا عن مبادئه في الحياة . فلم يشتمل كتابه على رجل من رجال الدين أو رجال الأخلاق والإصلاح الاجتماعي ، إذ لم تكن له ثقة بأمثال هؤلاء من عظماء الرجال. الأبطال عند إمرسن هم أفلاطون الفيلسوف ، وسودنيرج المتصوف ومونتيني المتشكك ، وشكسبير الشاعر ، ونابليون رجل الدنيا ، وجيته الكاتب .

يقول عن أفلاطون إنه كان يري العلم والفضيلة شيئا واحدا ، لأن الرذيلة لا تستطيع أن تعرف نفسها وتعرف الفضيلة ، في حين أن الفضيلة تعرف نفسها كما تعرف الرذيلة .

ثم يقول كذلك : " ليس في العالم في وقت واحد أكثر من اثني عشر شخصا يقرأون أفلاطون ويفهمونه وليس من بين هؤلاء من يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته . ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جبل إلي جيل من أجل هذه القلة من القراء ، كأن الله يحملها لهم بين يديه

ويقول في الشك عند كلامه عن مونتيني : " من ذا الذي لا تداخله الريبة ؟ إن الإنسان لا يستطيع في مشكلة واحدة من المشاكل أن يصل إلى حل حاسم قاطع لا يتطرق إليه الشك . . إنما نشك في نظام الزواج ، وفي الدولة وفي الكنيسة ، كما يشك الشاب في الطريق التي يسلكها لتكوين مستقبله . .

وكان شكسبير لديه نموذج الشاعر الذي يري للشجرة منافع غير الثمر ، وللغلال فائدة غير الخبز ، وفي الكرة الأرضية شيئا أكثر من أرض تفلح وطريق تمهد .

ونابليون عنده مثل أعلى لرجل العمل والتنفيذ ، الذي طهر الجو من أدران الإقطاع والامتيازات والملكية المستبدة ، أجل ! لقد لجأ نابليون إلي حشد الجيوش وإلي العنف والقوة ، وهي - عند إمرسن - وسائل ممقوتة تبررها الغاية النبيلة.

وفيما يلي مقتطفات مما كتب إمرسن اخترناها من

تراثه الأدبي ، ونقلناها إلى اللغة العربية لعل فيها حافزا علي الاستزادة لمن أراد مزيدا

الجماعة الإنسانية لا تتقدم . إنما هي ترتفع في جانب وتنحط في جانب آخر ، وتسير سيرا ظاهرا أشبه ما يكون بسير العجلة الدائرة . وهي لا تفتأ تتحول من حال إلي حال ، فهي آونة همجية وحشية ، وآونة أخري متمدنة متحضرة ، يسود فيها الدين مرة والعلم مرة أخري . وليس هذا التغير إلي الخير دائما فنحن كلما كسبنا شيئا خسرنا شيئا آخر ، تظفر الجماعة بفنون جديدة ، ولكنها تفقد فعل الغرائز القديمة . ما أشد التباين بين الرجل الأمريكي في ثياب فاخرة ، يقرأ ويكتب ويفكر ، ويحمل في جيبه ساعة وقلما وصكا ماليا ، وبين الرجل من أهل زيلنده الجديدة عاري الجسد ، أداته العصا والرمح ، ليس له سوى جزء من عشرين من حظيرة ليستلقى تحت سقفها لينام ! ولكن هلا وازنت بين صحة الرجلين ؟ قارن بينهما تجد أن الرجل الأمريكي الأبيض قد فقد قوة النيوزيلندي الساذج

روي لي مسافر - إن صحت روايته - أنك لو ضربت الرجل الهمجى بفأس غليظة التأم جرحه بعد يوم أو يومين ، كأنك تضرب الفأس في القار . ولو أنك أهويت بمثل هذه الضربة على الرجل الأبيض لشيعته بها إلي قبره .

يؤثر الكاتب في عقول الجماهير بمقدار ما عنده من عمق التفكير . . فالكاتب الذي يستمد موضوعه من أذنه ولا يستمده من قلبه ينبغي أن يعلم أنه يخسر بمقدار ما يربح... لا تقوم الشهرة الأدبية على الحظ ، فإن أولئك الذين يصدرون الحكم النهائي على الكتاب ليسوا هؤلاء القراء المتحيزين الصخبين الذين يضجون للكاتب عند ظهوره ، إنما هي محكمة كأنها من الملائكة ؛ هو جمهور لا يرتشي ، ولا يتوسل إليه ولا يروع ؛ ذلك الجمهور هو

الذي يقرر شهرة الكاتب . ولا يبقى من الكتب إلا ما يستحق البقاء . فالغلاف المذهب والورق الصقيل والجلد المتين ونسخ الهدايا الفاخرة التي تقدم المكاتب ، كل أولئك لا يكفل للكتاب الذيوع إلا إلي أمد قصير .

كل شىء مزدوج ، هذا يقابل ذاك ، دقة بدقة ، العين بالعين ، والسن بالسن ، والدم بالدم ، والحب يقابله الحب أعط يعطك الله . من سقي غيره ماء لم يشك العطش إن أردت شيئا فلا بد أن تدفع الثمن . إذا لم تغامر لم تكسب شيئا . جزاؤك يكافئ عملك ، لا يزيد ولا ينقص من لا يعمل لا يأكل، ألق بنفسك إلي التهلكة تهلك.

اللعنة تقع على رأس من يستنزلها ، لو أنك استعبدت رجلا وطوقت جيده بسلسلة من حديد فإن طرف السلسلة الآخر يطوق جيدك كذلك . المشورة السيئة تعود على قائلها بالشر .

هكذا قدر الله ، وهذه هي الحياة ، فإن قانون الطبيعة يسيطر على أعمالنا ونحن راغمون .

بلوغ الحق هو الغرض من الحياة . ولكنك إن وجهت التفاتك إلي ناحية واحدة من الحق ولم تشغل نفسك إلا بتلك الناحية أمدا طويلا ، فإن الحق يتشوه ولا يعود حقا ، وإنما ينقلب إلي البهتان والزور . والحق في هذا يشبه الهواء ؛ وهو عنصر ضروري للحياة وبدونه لا يكون التنفس . فإنك إن تعرضت لتيار شديد مدة طويلة أصبت بالبرد والحمي ، وقد يؤدي بك هذا التيار الشديد إلي الفناء . ما أشد الخطأ يقع فيه الرجل إذا تعصب لعلم النحو ، او النفس ، او السياسة ، او الدين أو لأية ناحية من نواحي المعرفة ! إنه يفقد التوازن بالمبالغة في موضوع واحد ، وهذا لون من الوان الجنون .

ويقول عن الإنجليز : في كل ناحية من نواحي النشاط العملي تراهم يضارعون خير الأمم ، فليس هناك سر من أسرار الحرب لم يبلغوا فيه حد الإجادة . إن آلة ( و ت ) البخارية ، وقاطرة ( ستيفن ) ، ومصنع ( روبرتس ) للقطن تقوم بالعمل للعالم اجمع . ليس في الأدب ناحية ،

ولا في العلم باب ، ولا في الفن المفيد ضرب من الضروب لم يخرجوا فيه كتابا من خير الكتب ، إنما هي إنجلترا التي يتطلع الناس إلي رأيها في الحكم على كل مخترع جديد أو علم مستحدث . وفي مشاكل التجارة والسياسة في إمبراطوريتهم الواسعة كانوا أ كفاء لكل مأزق بصواب الرأي وحسن السلوك . فهل هذا هو حظهم أم هو في تركيب عقولهم ؟  إنما تلك ميزتهم الطبيعية ، تراهم يلمحون كل ضوء يشع من أي رأي جديد أو مخترع حديث . هم أسرة يتعلق بها مصير الأمم ؛ وقد قيل عنهم إنهم لا يعدمون أبدأ الوريث الذكر . لديهم ثروة من الرجال تملأ الوظائف الهامة ، وتنبه النقد الحزني عندهم يكفل لهم دائما حسن اختيار الرجال الأكفاء .

وتتجلي قوة الإنجليز في عدم التطفل ، فيكاد كل منهم لا يلتفت إلي الآخر . كل منهم له طريقته الخاصة يسير ويأكل ويشرب ويلبس ويتحرك في أية ناحية دون الرجوع إلي الواقفين من حوله ، ولا يهمه أن يتدخل في شأنهم أو يضايقهم . وليس معني الواقفين من حوله هذا أنه ينشأ على إهمال أعين الجيران ؛ إنما هو مشتغل بشئونه الخاصة ولا يفكر فيهم . إن كل إنسان في هذا البلد المهذب لا يستشير غير ضميره . إني لا اعرف بلدا يسمح فيه إلي هذا الحد بالحرية الشخصية التي لا تهم أحدا غير صاحبها . يسير الإنجليزي والمطر ينهمر مدرارا يلوح بمظللته المقفلة كما يلوح بعصا السير ،

ويلبس شعرا مستعارا ، وقد يضع على ظهره سرجا ، أو يقف على رأسه دون أن يتصدى له أحد بإبداء الملاحظة .

وقد مارس هذه العادة أجيالا عدة حتى باتت في دمائه . وله قصيدة عنوائها الوداع " هذه ترجمتها :

وداعا دنيا الغرور ، فإني إلي بيتي سوف آوى

لست من أصدقائي ولست من أصدقائك

كم ذا سرت بين جموعك المنهوكة

وكم ذا ركبت متن بحارك في زورقي

وطوحت بي أمواجك كما تطوح بالزبد !

أما الآن ، يادنيا الغرور ، فإني إلي بيتي سوف آوي

وداعا وجه الملق الذليل

وداعا أيتها العظمة الكاذبة

وداعا أيتها الثروة الخلابة

وداعا أيها السلطان المغري ، وضيعا كنت أو رفيعا

وداعا أيتها القاعات المزدحمة ، وأيتها الساحات والطرقات

وداعا أيتها القلوب الباردة وأيتها الأقدام المسرعة

وداعا أيها الذاهبون وأيها القادمون

وداعا دنيا الغرور فإني إلي بيتي سوف آوي

*

سأوي إلي نار موقدي

وحيدا على صدر تلك التلول الخضراء

إلي ركن خفي في أرض بهيجة

خطط أحراشها الجن في مرح وحبور

حيث المنعطفات المعشوشبة

طوال النهار تردد غناء الطيور

حيث الأقدام الوضيعة لم تطأ قط

هذا المكان المقدس عند المؤمنين

آه متى أطمئن في بيتي هذا بين الأحراش !

حينئذ أتعالي علي صلف الرومان والإغريق

وحينما أتمطي تحت أشجار الصنوبر

عندما يشرق نجم السماء المقدس

فسأضحك من حكمة الإنسان ومن كبريائه

ومن مذاهب السفسطة وجماعة العلماء

فما كل هؤلاء ؟ وفيم غرورهم الشديد ؟

إذا كان الإنسان قد يلقي الله بين الأشجار !

اشترك في نشرتنا البريدية