الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 588الرجوع إلى "الثقافة"

مدام دى ستايل وموقفها من نابليون

Share

من أهم نتائج الثورة الفرنسية وأبقى آثارها أنها أيقظت الشعور الوطنى ، ونبهت الوعى القومى ، وبدأت فى أوربا عهد الحركات القومية والتطلع إلى الحرية والمساواة والحكم النيابي ، ولم تؤثر هذه الاتجاهات الجديدة فى العلاقات السياسية بين الأمم المختلفة فحسب ، وإنما أثرت كذلك فى الصلات الثقافية والروابط الأدبية والتبادل الفكرى ؛ ولقد كانت الصلات الثقافية قبل عهد الثورة الفرنسية مجرد تبادل أفكار بين أفراد من بلاد مختلفة وأرضين نائية ، ولكنهم مع ذلك تجمعهم رابطة واحدة ، وينظمهم عقد الأدب ، وتؤلف بينهم جمهورية التفكير

أما بعد عهد الثورة ، فإن هذا التلاقى الفكرى أصبح مقابلة بين آداب قومية مختلفة اللون متباينة المنزع ، وقوى الاعتقاد بأن الأدب والفلسفة وسائر مقومات الحياة الثقافية ليست من عمل الأفراد فى عزلتهم الفردية ، وإنما هى نتيجة لأحوال البيئة وملابسات العصر والتقاليد القومية ؛ وقد تأثر بهذه الفكرة كثيرون من مفكرى القرن الثامن عشر ، وكان للكاتبة الفرنسية القديرة الموهوية مدام دى ستايل أثر كبير فى ترويج هذه الفكرة وإذاعتها والدفاع عنها والمناضلة دونها بما أوتيت من بلاغة أداء وقوة بيان واجتراء على إعلان ما تعتقد أنه الحق والإصرار عليه .

ومدام دى ستايل هى ابنة الوزير الاقتصادى المالى المعروف نكر الذى اشتهر أمره في أواخر عهد لويس السادس عشر ، وكان معقد آمال الطبقة المتوسطة فى فرنسا ، والذى حاول أن يصلح أحوال فرنسا المالية بعد فوات الأوان وتمكن الفساد وتأبينه على جهود المصلحين .

وقد بدأت مدام دى ستايل حياتها الأدبية برسالة عن روسو تناولت فيها كتاباته وأخلاقه ، ثم تزوجت إريك مجنس بارون دى ستايل هولستاين ، وقد رقى

زوجها بعد ذلك إلى منصب وزير السويد المفوض ، فنالت بذلك المكانة التى كانت تطمح إليها ، وقد كانت مدام دى ستايل على ذكائها المتوقد وعمق تفكيرها وغزارة علمها امرأة مترامية الآمال ، حريصة على الشهرة ، محبة للظهور ، تريد أن تسترعى الأنظار ، وتخلب العقول ، وتترك فى الدنيا دويا ، وتحدث فيها حدثا ، وتود أن تصبح فى طليعة القادة والزعماء ، ولا بأس عندها من المغامرة والمخاطرة فى هذا السبيل وتحدي الطغاة والجبابرة المستبدين ولو كان على رأسهم نابليون العظيم .

ولقد طوفت مدام دى ستايل فى الآفاق وزارت معظم البلاد الأوربية وألمت بأحوالها وعرفت نظمها والكثير من دخائلها ، وكانت محبة للاستطلاع ، يافعة سئولا ، قوية الملاحظة ، سريعة الفهم والإدراك ؛ وحبها الشديد للحرية ، ومطامعها السياسية ، وصراحتها فى إيداء آرائها جعلت نابليون يضطهدها ويقاومها ويتابعها بنقمته أينما حلت . وقد كان نابليون بوجه عام سيء الرأي فى النساء ،

ولعل المرأة الوحيدة التي حازت إعجابه وظفرت بتقديره هى والدته ليتيزيا ، وكان لا يرى مساواة المرأة بالرجل ويفضل استعبادها وخضوعها التام للرجل ، وقد حاولت المرأة أن تطالب بحقوقها حينما اجتاحت الثورة فرنسا ، ولكن بعض المؤرخين يرون أن النساء أظهرن حينذاك حماسة واندفاعا أكثر مما أظهرن من حكمة وتبصر ، وان هذه الحماسة المسرفة كانت لها آثارها السيئة ، وقد أحدث ذلك حركة رجعية ترمى إلى الحد من حرية المرأة ؛ وكان لنابليون شئ من العذر فى محاولته إيقاف الحركة النسائية إبقاء على النظام وصيانة للأمن ( ١ ) ؛ ومن مأثور

أقواله : " لن يكون للنساء تأثير فى بلاطى ، وقد يضمرن لى الكراهة ولكنى سأظفر بالهدوء والطمأنينة " وقد لوحظ أن هذه المعاملة زادت النساء تعلقا به وإ كبارا له ، ولم يشذ عن ذلك سوى بعض النساء القوبات الشخصية ومنهن مدام دى ستابل .

وقد لاحظت مدام دى ستايل أن نابليون كان يحترم الخصم الذى يواجهه ويثبت له ويقارعه الحجة بالحجة ، وقد كانت حاضرة أمره فى سنة ١٧٩٨ حينما تراجع وخاذل تلقاء سيدة سريعة البديهة مفحمة الجواب ، فقد تقدم نابليون من سيدة فى الصالون أثار جمالها وذكاؤها الإعجاب وقال لها فى صراحة نادرة : " أيتها السيدة إنى لا أحب النساء اللواتى يخضن فى السياسة " فأجابته قائلة : " إنك على حق أيها القائد ، ولكن فى البلاد التي تقطع بها رؤسهن من الطبيعى أن يحاولن تعرف أسباب ذلك " فلم يحر نابليون جوابا .

ومن رأى مدام دى ستابل أن نابليون كان رجلا تسكته المقاومة الحقة ، وأن الذين صبروا لطغيانه واحتملوه هم شركاؤه فى الذنب ، وهى تذهب فى ذلك مذهب خليل مطران فى قوله من قصيدة " مقتل بزرجمهر " منددا بكسرى :

هم حكموه فاستبد تحكما

وهم أرادوا أن يصول فصالا

والواقع أن رأى مدام دى ستابل ينطوى على حكمة بالغة وحق عميق ، فإن المقاومة الثابتة الصابرة تكشف أحسن صفات الرجل القوى المتاز ، أما الاستسلام والخضوع فإنهما يغريانه بالجموح والإمعان فى الطغيان .

وقد حاولت مدام دى ستايل فى بادئ الأمر أن تستميل نابليون وتستولى عليه بعد انتصاراته فى إيطاليا . ولكنها لم توفق فى ذلك ، لأن نابليون بطبيعته كان لا يعبأ بالنساء المفكرات ، وبالرغم من ذلك ظنت معجبة به حتى بعد عودته من مصر . ولكنها وجدت أنها كانت مخدوعة فيه ، ولاحظت أن طبعه الأصيل قد أخذ ينكشف ويظهر . فحالما توطد مركزه وامتد ظله وسالمته الليالي طغى وتجير ،

وتعالى وتكبر ، وأصبح لا يطيق المناقشة ، ولا يحتمل أدنى مخالفة أو معارضة ، فحز ذلك فى نفسها ، وأثارها ، فبسطت فيه لسانها ، وشنعت عليه ، وسمعت به ، فخاصمها نابليون ، ونصب لحربها ، ولم تكف هى عن مقاومته بلسانها الطويل ، وقلمها البليغ ، وحجتها الناهضة ، وقد كانت مدام دى ستايل معروفة المكانة ذائعة الصيت قبل مخاصمتها لنابليون ، ولكن المعركة التى نشبت بينها وبين نابليون جعلتها من الشخصيات الأوربية العظيمة البارزة التى يشار إليها بالبنان ويتردد ذكرها على كل لسان .

وقد حاولت فى كتابها عن إيطاليا المعروف باسم كورين وفى كتابها عن ألمانيا أن تنقل رسالة فرنسا الحرة إلى إيطاليا وألمانيا ، وأن تستنهض همم الإيطاليين ، وتثير عزائم الألمان ، وحاولت أن تسترعى نظر هاتين الأمتين إلى الحياة السياسية ، وطلب الحرية الفردية ، والوحدة القومية ، وحاولت من جانب آخر أن تعرف الفرنسيين بالأدب الألمانى وفلسفة كانت وخت وشعر شار وجيتى . وقد قدمت للفرنسيين صورة حية مشرقة للأدب الألمانى ، قربته إلى نفوسهم ، وأغرتهم بالاطلاع عليه ، والإعجاب به ،

وإ كبارة ، وإجلاله ، والتأثر به ، وقد ظل لهذه الصورة البديعة سحرها الأخاذ حتى كشفت حرب السبعين عما بها من خطأ ومجافاة للواقع ، فألمانيا الحالمة الوادعة المثالية الشاعرة التي شاهدتها مدام دلى ستايل عن قرب كانت - منذ بدأت مدام دى ستايل تصويرها - قد أخذت لتحول رويدا رويدا إلى ألمانيا الموغلة فى المادية المعتزة بقوتها النزاعة إلى الكفاح والعدوان .

ولم تتعرض مدام دى ستابل فى كتابها لمشكلات ألمانيا الساسية ، ولكن غرضها كان واضحا ، فقد كانت ترمى إلى إيقاظ الشعور القومي الألماني ، وتحبذ توحيد الجهود ، وتوحيد الجهود هذا لابد أن يتجه إلى مقاومة فرنسا وتحدى مطامع نابليون ، ولنذا لانعجب إذا علمنا أن الرقابة التى فرضها نابليون على الآثار الأدبية لم تسمح بظهور الكتاب فى فرنسا سنة ١٨١٠ ، فقد كتب لها الوزير المشرف على

الرقاية رسالة مؤدبة رقيقة يقول لها فى خلالها : " إن الفرنسيين لم يصل بهم الحال إلى حد أن يلتمسوا المثل والتماذج بين الأقوام الذين تعجب بهم " وصارحها بأن كتابها الأخير - عن ألمانيا - ليس كتابا فرنسيا ، ولما ثم طبع الكتاب فى سنة ١٨١٣ قبل معركة ليبزج بأيام قلائل نشرت الخطاب فى مقدمة الكتاب ، ودافعت عن نظريتها فى القومية وأبانت أن اختلاف اللغات والحدود الطبيعية وذكريات التاريخ المشتركة وما إلى ذلك من العوامل تساعد على أن توجد الفرديات العظيمة التي تسمى " أمما " وذهبت إلى أن إخضاع أمة لأمة أخرى من الأمم أمر ضد الطبيعة ، ودافعت عن ألمانيا قائلة : " من يفكر اليوم فى إمكان إخضاع أسبانيا أو انجلترا أو فرنسا ؟ ولماذا تكون الحالة مختلفة فى ألمانيا ؟ "

وقد ظلت مدام دى ستايل وفية لفكرة القوميات الحرة . مؤمنة بإمكان تعاون الأمم الحرة فى سبيل الحرية النيابية الدستورية على النمط الانجليزى ، فهى كانت تؤمن بالاستقلال الثقافى والأدبى ، وتؤمن فى الوقت نفسه بالتعاون الأممي ، وكانت لا تستريح لهذه الوحدة المتكلفة المصطنعة التى حاول نابليون أن يفرضها فرضا على الدول الأوربية ، ولما زارت روسيا فى سنة ١٨١٢ أعجبت بالملابس القومية الروسية . ولم تر أن يتركها الروسيون ويلبسوا الزي الأوربى .

ولم ترض أن يعم القانون النابليونى الأمم المختلفة ، لأنها كانت ترى أن حرية الأمم تستلزم أن تحكم كل أمة نفسها بالأسلوب الذي يلأئمها وبطابق أحوالها الخاصة وعادانها وتقاليدها ! وعندها أن الأمم الحرة يجب عليها أن تجنح للسلم وإلا فقدت حريتها واستقلالها ، والحرية تقوى الأمم وتشد بنيانها ، ولكن الحرية التى تسند الأمم وتشد منها هى الحرية المقترنة بالعدالة والإنصاف ؛ وقد استطاع الفرنسيون فى أول عهد الثورة أن يثبتوا لأوربا جميعها فى حرب الاستقلال ، وكانوا أقوى من أوربا جميعها بقوة الرأى العام ، ومع حضها فرنسا على الاستمساك بأهداب السلم وتحذيرها لها من الانتشاء يخمر النصر والغلبة ، فإنها كانت تقر الحرب

الدفاعية ، وأشادت فى كتابها عن ألمانيا بفضل الحماسة وقدرتها على أن تسمو بالناس فوق المصالح الخاصة ، واسترعت النظر إلى عظمة التضحية فى سبيل الأغراض النبيلة ، وذكرت للإيطاليين والألمان المغلوبين على أمرهم أن المستقبل لهم إذا صدقت وطنيتهم وصحت عزيمتهم .

ولكن الاستقلال لم يكن له قيمة فى رأى مدام دى ستايل إلا إذا كان استقلال أفراد أحرار قد احتاطوا لأنفسهم من خطر الطغيان الداخلى ومحاولة سحق الحرية الشخصية والاستقلال الفردى .

وأغرت الانتصارات المتوالية نابليون باحتقار ثقافات الأمم المختلفة ، ووسعت شقة الخلاف بينه وبين انجلترا وكانت مدام دى ستايل لا ترى تغليب ثقافة على ثقافة اخرى ، وكان إعجابها بنظام الحكم فى انجلترا إعجابا شديدا ، وقد زاد ذلك ما بينها وبين نابليون فسادا وعمق الهاوية التى تفصلهما ، وقد ظلت مدام دى ستايل إلى النهاية وهي تحمل علم المعارضة لنابليون رغم الصواعق التى كان يرسلها عليها .

وقد زارت فى سنة ١٨١٣ الكثيرين من الوزراء والساسة الأعلياء ، وحرضتهم على مقاومة نابليون ، وكانت تفرق بين نابليون و بين فرنسا ؛ فمحاولة إسقاط نابليون كانت فى نظرها مسألة أخرى مختلفة كل الاختلاف عن محاربة فرنسا ، بل إن مصلحة فرنسا الحقة تقتضى إبعاد نابليون وإقصاءه عن عرش فرنسا ، وكانت أكثر إخلاصا لمبادئ الثورة من أن تميل إلى ناحية البوربون ، كما فعل الكاتب الكبير شاتو بريان ، وكانت أخطر جريمة اقترفها نايليون فى رأيها هى القضاء على الحرية الجمهورية فى فرنسا ، وظل مثلها الأعلى هو الحرية المستنيرة المعتدلة المعقولة أو الحرية التى يتمثلها الكتاب والفلاسفة .

وفى ضوء هذه الأفكار كتبت كتابها عن الثورة الفرنسية ، وذكرت فيه فكرتها عن نابليون وعهده مفصلة معززة بذكرياتها المرة وتجاربها القاسية ونقداتها النفاذة القوية ؛ وملخص رأيها فى نابليون أنه كان جنديا قبل كل ( البقية على صفحة ١٤ )

اشترك في نشرتنا البريدية