تعتبر هذه المسرحية التي استهلت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها بمسرح الأزيكية من أنسب المسرحيات لمنتاجها وجمهورنا باعتبارها من روائع المؤلفات المسرحية العالمية ، ولأن مضمونها يهدف إلى الوعي بالحياة والواقع وإيقاظ النفوس الغافلة الداهلة ، ومكافحة الإغراق في التخيل ، والإمعان في التوهم . والإيمان بالأشباح وما إليها . .
( مدام يويوف ) سيدة يموت زوجها ، وهي لما تزل شابة فاتنة ، فتأبى إلا أن تسيطر عليها عاطفتها دون عقلها ، وتسرف في حدادها ، فلا تبرح دارها ولا تستقبل زوارها ، ويرهق خادمها الهرم ( لوكا ) نفسه دون جدوى في تذكرها بنضارتها وتبصيرها بعقم اعتزالها ، وعبثاً يحاول " إقناعها " بأن الدنيا حولها فياضة بالبهجة ، وأن الحداد على زوجها طول العمر لن يرده إلى الحياة ثانية . . وفجأة يفتح الدار ( سمير نوف ) ، وهو ضابط متقاعد في العقد الرابع من عمره ، ودائن لمقيدها ، جاء يطالبها بسداد الدين بلا إمهال ، إذ أنه هو الآخر مدين ومطالب كذلك بالسداد ، وإلا بيعت أملاكه في الغد ، ويتعذر عليها إجابة طلبه ، فيستقر أمرهما على المبارزة ، ولكنهما لا يتبارزان ، بل يتعانقان !.. .
لقد عالج تشيكوف في هذه المسرحية حقيقة نفسية عجيبة . ولكن أين في مضمونها ما زعمناه من وعي بالحياة والواقع ؟ .
لكى تبين ذلك يجب أن تعلم أن البيئة الغربية والروسية كلها كانت - إلي منتصف القرن الماضي - راسفة في رومانتيكية خائرة تباينت أسبابها ومظاهرها ونتائجها من حيث التفاصيل ، ولكنها في مجموعها تجلت في هروب الشعوب
من الواقع الذي لم تستطع ملامسته إلى الأحلام والأوهام التي طاب لها العيش فيها أو التعلق بها .
وكما كان الأدب أكبر معبر ومصور لهذه الحالة ، كذلك كان أكبر منتقد لهم منها . والمسرحي الترويجي إبسن Ibsen هو أول منقذي تلك البيئة من رومانتيكيتها ، لأنه أول من عبر لها عن الواقع والحياة وطالبها بالوعي بهما ، وإحلال الفكر محل التخيل ، واليقظة محل الذهول والعقل محل العاطفة . ونتج عن ذلك ما نتج من نزوع الأمم نحو التحرر والمجتمع نحو العدالة والمرأة نحو المساواة بالرجل .
ويجتمع النقاد على أن تشيكوف - وإن يكن من أتباع إبسن في مذهبه الواقعي - إلا أنه كان من النبوغ والأصالة بحيث جاوز الحد الذي بلغه استاذه من ناحية النهج الفكري الذي نهجه فيما عرض له من موضوعات .
من هذه الرواية ينبغي أن ننظر إلى مسرحيتنا .
فموضوعها ليس مجرد عرض لقضية نفسية ، وإنما جاءت معالجة تلك القضايا في مسرح تشيكوف تمشياً مع مذهبه الذي يوجه الفكر نحو التنقيب عن الخفايا والاهتمام بالدقائق .
وبطلتها ( بوبوف ) ليست مجرد امرأة يهزمها الحزن وتهزها الفجيعة فتستسلم إلي اليأس ، وإنما هي كذلك نموذج يتحلى فيه أثر الرومانتيكية في التشبث بالدري الوهومة والغفلة عن الحقيقة . وليس أكثر غفلة من حسناء تترهب وهي موقنة أن ترهبها هذا ليس إلا إخلاصاً ، وسرعان ما تكشف لها المصادفة عن خيانة من تخلص له .
وبطلها (سمير نوف ) ليس مجرد " جلف " يجهل كيفية معاملة الجنس اللطيف بالحسنى ، وإنما هو نموذج للرجل الذي تحيط به الظروف القاسية فلا يوقفه شئ عن التوسل
إلى ما ينتشله منها بكل وسيلة ، حتى ولو أدى ذلك إلى تعكير صفو امرأة أو تحديها بالمبارزة
وبطلها الثالث ( لوكا ) ليس مجرد خادم ينحني للسادة ، وإنما هو أيضا " إنسان " كأي إنسان له أن يبصر سيدته بأخطائها ، وله أن ينهر الضيف الثقيل ، وإن اقتضت المعالجة المسرحية - واحترام العقل والواقع أيضاً - أن يكون هذا وذاك بلهجة تنم عن شخصية الناطق بها .
وأقول عن هذا " بطلها الثالث " عمداً لأن مسرحيات الواقعيين لا تعترف بطولة فرد ، وإنما كل فرد في المسرحية ككل فرد في الحياة له وفيه من الإمكانيات ما قد يساويه بأي فرد آخر .
من أجل ذلك لا نجد في هذه الرواية بطلا شاذ البطولة خارق الفعال ، بل لا نجد أحداثًا ذات عقدة وحبكة بالمعنى المسرحي المفهوم ، وإنما نجد قطعة من الحياة العادية ذات حوادث محتملة الوقوع . وليس معنى هذا أن المسرحية بلا صراع وإلا فقدت اعتبارها الفني ؛ فالبطلة تصارع في نفسها أهواءها وشهواتها المكبونة ، وتصارع مغريات الحياة حولها ، ومن هنا تزداد غيظاً يوماً بعد يوم . والبطل يصارع في نفسه خشية الفضيحة والخيبة في الحصول على ماله ، وهو الشئ الوحيد الذي يكفل له الاحتفاظ بكيانه وكرامته وأملاكه : ومن هنا يزداد غيظاً كلما تبين له تبدد رجائه في استرداده . وبينهما أو بالأحرى بين انفعاله وانفعالها بدور الصراع الدراماتيكي الرهيب العميق .
ولا تقل أهمية الخادم عنهما في هذا الصراع ؛ فقد خلق منه المؤلف العظيم أضخم مساعد على تجلية شخصيتي البطلين . فهو في غمرة حزن البطلة يذكرها بمباهج الحياة ، وهو في قورة ثورة البطل يبدو ضعيفاً هزيلاً ليذكرنا بالفارق الجسيم بين الضعف والقوة ، حتى إذا ما هدأ البطل زال منه هو بعض ضعفه ليتجلى ما توخاه المؤلف من تصوير أسباب هذا الهدوء .
وهكذا تمكن تشيكوف من إدارة الصراع دراماتيكيا ، ذلك الصراع الذي اخذ يتطور في ظاهره من ضيق إلى سخط إلى غضب وحقد ، وفي باطنه من مواجهة نفسية إلى اختيار إلى حب واعتناق .
هذه هي الرواية التي استطاعت فرقة المسرح الحديث إخراجها وتمثيلها على أحسن ما يكون الإخراج والتمثيل في مسرح كحديقة الأزبكية . فنحن نعلم صعوبة إخراج روايات الفصل الواحد ، إذ تختلف المعاني وتتطور والمنظر واحد ، لا حيلة في تغيير شئ منه سوى الإضاءة . وهنا وضح حذق المخرج وبلاغته في التعبير بإحياء الصبغة النفسية وإحكام الحركة المسرحية . وليس هذا بالأمر اليسير في رواية هادئة الطابع والمشاهد ، خفية المعاني والأهداف . على أنني برغم هذا أطالب الأستاذ زكي طليمات بشرح مذهبه في الإخراج في إحدى النشرات التي يصدرها . أقول ذلك بمناسبة ما كتبه الأستاذ عباس خضر في ( الرسالة ) الغراء منذ أسبوعين بصدد إخراج هذه الرواية ونصه : " . . ولكني لاحظت أشياء صغيرة في منظر مسرحية الجلف . . فهناك إطار مرآة يحيط بغير مرآة ، ومع ذلك فقد كان البطلان ينظران فيه . . وقد أمسكت السيدة بحبل معلق بجدار الغرفة لتستدعي الخادم ، والمفروض أن الحبل متصل بجرس في الداخل ، ولكن لم يسمع أي صوت لهذا الجرس " فلو قد شرح المخرج طريقته الإيحائية لعلم الناقد الفاضل علة ذلك وانه من الميسور أن يملأ المسرح بعشرات المرايا وان تسمع عشرات الأجراس ، ولكنه المذهب الإيحائي الذي يؤثر الرمز والإيحاء
كيفما كان الأمر فما من شك في أن هذه الفرقة قد بذلت أضخم جهد في إعطاء الناس ما أراد تشيكوف أن يعطيه . مصداق ذلك انني سمعت كثيرين يتساءلون عن أسباب تسمية هذه الرواية ( فكاهية ساخرة ) بينما هي داعية إلى الضحك من أبطالها والرثاء لهم في نفس الوقت . ومعنى ذلك أنهم فطنوا - إلي حد كبير - إلي تذوق إنتاج تشيكوف وإدراك ميزته الكبرى وهي قدرته على مزج الأسى بالضحك والإشفاق بالسخرية . ومعى ذلك أيضاً أن المخرج نجح في إبراز معاني المؤلف وتجسيدها للناس نابضة بالحياة والحركة . ولا جدال في أن للممثلين فضلا لا ينكر في هذا النجاح . والحق أني أعجبت ( بمحمد السبع ) الذي قام يدور البطل واستغرق بقاؤه على المسرح معظم الوقت ، وانفرد بالجمهور فترة بعيدة أخرى ، ومع هذا بدا ( فاهما ) لطبيعة دوره وملأ
( البقية على الصفحة التالية )
المسرح دون أن يلحظ عليه انفعال أو ارتباك . وعلى الرغم من صعوبة دور البطلة فقد حاولت ( ملك الجمل ) ان تؤديه وإن كنت أظن أنها تستطيع أن تكون أروع مما كانت . أما ( أحمد الحزيري ) الذي مثل دور الخادم فقد كان همزة الوصل بين البطل والبطلة . وأعتقد أن هذا الممثل ذخيرة من ذخائر الكوميديا في مستقبل المسرح المصري . فهو مع اشتراكه في كل روايات الفرقة واضطلاعه دائما بدور كوميدي إلا أنه لم يتكرر ، وهذا دليل على أنه كوميدي مطبوع .
بقيت ملاحظة أريد أن أوجه النظر إليها ، وملخصها أن المشهد الختامي - وفيه مغزى الرواية - كان يمكن أن يكون أقوى مما شاهدناه . ولعل لضعف الكومبارس اثراً في ذلك ، ولكن المسئولية واقعة على الفرقة كلها .

