الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 635الرجوع إلى "الثقافة"

مدح, مسرحية الجلف

Share

تعتبر هذه المسرحية التي استهلت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها بمسرح الأزيكية من أنسب المسرحيات لمنتاجها وجمهورنا باعتبارها من روائع المؤلفات المسرحية العالمية ، ولأن مضمونها يهدف إلى الوعي بالحياة والواقع وإيقاظ النفوس الغافلة الداهلة ، ومكافحة الإغراق في التخيل ، والإمعان في التوهم . والإيمان بالأشباح وما إليها . .

( مدام يويوف ) سيدة يموت زوجها ، وهي لما تزل شابة فاتنة ، فتأبى إلا أن تسيطر عليها عاطفتها دون عقلها ، وتسرف في حدادها ، فلا تبرح دارها ولا تستقبل زوارها ، ويرهق خادمها الهرم ( لوكا ) نفسه دون جدوى في تذكرها بنضارتها وتبصيرها بعقم اعتزالها ، وعبثاً يحاول " إقناعها " بأن الدنيا حولها فياضة بالبهجة ، وأن الحداد على زوجها طول العمر لن يرده إلى الحياة ثانية . . وفجأة يفتح الدار ( سمير نوف ) ، وهو ضابط متقاعد في العقد الرابع من عمره ، ودائن لمقيدها ، جاء يطالبها بسداد الدين بلا إمهال ، إذ أنه هو الآخر مدين ومطالب كذلك بالسداد ، وإلا بيعت أملاكه في الغد ، ويتعذر عليها إجابة طلبه ، فيستقر أمرهما على المبارزة ، ولكنهما لا يتبارزان ، بل يتعانقان !.. .

لقد عالج تشيكوف في هذه المسرحية حقيقة نفسية عجيبة . ولكن أين في مضمونها ما زعمناه من وعي بالحياة والواقع ؟ .

لكى تبين ذلك يجب أن تعلم أن البيئة الغربية والروسية كلها كانت - إلي منتصف القرن الماضي - راسفة في رومانتيكية خائرة تباينت أسبابها ومظاهرها ونتائجها من حيث التفاصيل ، ولكنها في مجموعها تجلت في هروب الشعوب

من الواقع الذي لم تستطع ملامسته إلى الأحلام والأوهام التي طاب لها العيش فيها أو التعلق بها .

وكما كان الأدب أكبر معبر ومصور لهذه الحالة ، كذلك كان أكبر منتقد لهم منها . والمسرحي الترويجي إبسن Ibsen هو أول منقذي تلك البيئة من رومانتيكيتها ، لأنه أول من عبر لها عن الواقع والحياة وطالبها بالوعي بهما ، وإحلال الفكر محل التخيل ، واليقظة محل الذهول والعقل محل العاطفة . ونتج عن ذلك ما نتج من نزوع الأمم نحو التحرر والمجتمع نحو العدالة والمرأة نحو المساواة بالرجل .

ويجتمع النقاد على أن تشيكوف - وإن يكن من أتباع إبسن في مذهبه الواقعي - إلا أنه كان من النبوغ والأصالة بحيث جاوز الحد الذي بلغه استاذه من ناحية النهج الفكري الذي نهجه فيما عرض له من موضوعات .

من هذه الرواية ينبغي أن ننظر إلى مسرحيتنا .

فموضوعها ليس مجرد عرض لقضية نفسية ، وإنما جاءت معالجة تلك القضايا في مسرح تشيكوف تمشياً مع مذهبه الذي يوجه الفكر نحو التنقيب عن الخفايا والاهتمام بالدقائق .

وبطلتها ( بوبوف ) ليست مجرد امرأة يهزمها الحزن وتهزها الفجيعة فتستسلم إلي اليأس ، وإنما هي كذلك نموذج يتحلى فيه أثر الرومانتيكية في التشبث بالدري الوهومة والغفلة عن الحقيقة . وليس أكثر غفلة من حسناء تترهب وهي موقنة أن ترهبها هذا ليس إلا إخلاصاً ، وسرعان ما تكشف لها المصادفة عن خيانة من تخلص له .

وبطلها (سمير نوف ) ليس مجرد " جلف " يجهل كيفية معاملة الجنس اللطيف بالحسنى ، وإنما هو نموذج للرجل الذي تحيط به الظروف القاسية فلا يوقفه شئ عن التوسل

إلى ما ينتشله منها بكل وسيلة ، حتى ولو أدى ذلك إلى تعكير صفو امرأة أو تحديها بالمبارزة

وبطلها الثالث ( لوكا ) ليس مجرد خادم ينحني للسادة ، وإنما هو أيضا " إنسان " كأي إنسان له أن يبصر سيدته بأخطائها ، وله أن ينهر الضيف الثقيل ، وإن اقتضت المعالجة المسرحية - واحترام العقل والواقع أيضاً - أن يكون هذا وذاك بلهجة تنم عن شخصية الناطق بها .

وأقول عن هذا " بطلها الثالث " عمداً لأن مسرحيات الواقعيين لا تعترف بطولة فرد ، وإنما كل فرد في المسرحية ككل فرد في الحياة له وفيه من الإمكانيات ما قد يساويه بأي فرد آخر .

من أجل ذلك لا نجد في هذه الرواية بطلا شاذ البطولة خارق الفعال ، بل لا نجد أحداثًا ذات عقدة وحبكة بالمعنى المسرحي المفهوم ، وإنما نجد قطعة من الحياة العادية ذات حوادث محتملة الوقوع . وليس معنى هذا أن المسرحية بلا صراع وإلا فقدت اعتبارها الفني ؛ فالبطلة تصارع في نفسها أهواءها وشهواتها المكبونة ، وتصارع مغريات الحياة حولها ، ومن هنا تزداد غيظاً يوماً بعد يوم . والبطل يصارع في نفسه خشية الفضيحة والخيبة في الحصول على ماله ، وهو الشئ الوحيد الذي يكفل له الاحتفاظ بكيانه وكرامته وأملاكه : ومن هنا يزداد غيظاً كلما تبين له تبدد رجائه في استرداده . وبينهما أو بالأحرى بين انفعاله وانفعالها بدور الصراع الدراماتيكي الرهيب العميق .

ولا تقل أهمية الخادم عنهما في هذا الصراع ؛ فقد خلق منه المؤلف العظيم أضخم مساعد على تجلية شخصيتي البطلين . فهو في غمرة حزن البطلة يذكرها بمباهج الحياة ، وهو في قورة ثورة البطل يبدو ضعيفاً هزيلاً ليذكرنا بالفارق الجسيم بين الضعف والقوة ، حتى إذا ما هدأ البطل زال منه هو بعض ضعفه ليتجلى ما توخاه المؤلف من تصوير أسباب هذا الهدوء .

وهكذا تمكن تشيكوف من إدارة الصراع دراماتيكيا ، ذلك الصراع الذي اخذ يتطور في ظاهره من ضيق إلى سخط إلى غضب وحقد ، وفي باطنه من مواجهة نفسية إلى اختيار إلى حب واعتناق .

هذه هي الرواية التي استطاعت فرقة المسرح الحديث إخراجها وتمثيلها على أحسن ما يكون الإخراج والتمثيل في مسرح كحديقة الأزبكية . فنحن نعلم صعوبة إخراج روايات الفصل الواحد ، إذ تختلف المعاني وتتطور والمنظر واحد ، لا حيلة في تغيير شئ منه سوى الإضاءة . وهنا وضح حذق المخرج وبلاغته في التعبير بإحياء الصبغة النفسية وإحكام الحركة المسرحية . وليس هذا بالأمر اليسير في رواية هادئة الطابع والمشاهد ، خفية المعاني والأهداف . على أنني برغم هذا أطالب الأستاذ زكي طليمات بشرح مذهبه في الإخراج في إحدى النشرات التي يصدرها . أقول ذلك بمناسبة ما كتبه الأستاذ عباس خضر في ( الرسالة ) الغراء منذ أسبوعين بصدد إخراج هذه الرواية ونصه : " . . ولكني لاحظت أشياء صغيرة في منظر مسرحية الجلف . . فهناك إطار مرآة يحيط بغير مرآة ، ومع ذلك فقد كان البطلان ينظران فيه . . وقد أمسكت السيدة بحبل معلق بجدار الغرفة لتستدعي الخادم ، والمفروض أن الحبل متصل بجرس في الداخل ، ولكن لم يسمع أي صوت لهذا الجرس " فلو قد شرح المخرج طريقته الإيحائية لعلم الناقد الفاضل علة ذلك وانه من الميسور أن يملأ المسرح بعشرات المرايا وان تسمع عشرات الأجراس ، ولكنه المذهب الإيحائي الذي يؤثر الرمز والإيحاء

كيفما كان الأمر فما من شك في أن هذه الفرقة قد بذلت أضخم جهد في إعطاء الناس ما أراد تشيكوف أن يعطيه . مصداق ذلك انني سمعت كثيرين يتساءلون عن أسباب تسمية هذه الرواية ( فكاهية ساخرة ) بينما هي داعية إلى الضحك من أبطالها والرثاء لهم في نفس الوقت . ومعنى ذلك أنهم فطنوا - إلي حد كبير - إلي تذوق إنتاج تشيكوف وإدراك ميزته الكبرى وهي قدرته على مزج الأسى بالضحك والإشفاق بالسخرية . ومعى ذلك أيضاً أن المخرج نجح في إبراز معاني المؤلف وتجسيدها للناس نابضة بالحياة والحركة . ولا جدال في أن للممثلين فضلا لا ينكر في هذا النجاح . والحق أني أعجبت ( بمحمد السبع ) الذي قام يدور البطل واستغرق بقاؤه على المسرح معظم الوقت ، وانفرد بالجمهور فترة بعيدة أخرى ، ومع هذا بدا ( فاهما ) لطبيعة دوره وملأ

( البقية على الصفحة التالية )

المسرح دون أن يلحظ عليه انفعال أو ارتباك . وعلى الرغم من صعوبة دور البطلة فقد حاولت ( ملك الجمل ) ان تؤديه وإن كنت أظن أنها تستطيع أن تكون أروع مما كانت . أما ( أحمد الحزيري ) الذي مثل دور الخادم فقد كان همزة الوصل بين البطل والبطلة . وأعتقد أن هذا الممثل ذخيرة من ذخائر الكوميديا في مستقبل المسرح المصري . فهو مع اشتراكه في كل روايات الفرقة واضطلاعه دائما بدور كوميدي إلا أنه لم يتكرر ، وهذا دليل على أنه كوميدي مطبوع .

بقيت ملاحظة أريد أن أوجه النظر إليها ، وملخصها أن المشهد الختامي - وفيه مغزى الرواية - كان يمكن أن يكون أقوى مما شاهدناه . ولعل لضعف الكومبارس اثراً في ذلك ، ولكن المسئولية واقعة على الفرقة كلها .

اشترك في نشرتنا البريدية