وردت كلمة للأستاذ (السيد يعقوب بكر) في العدد (٤٦٣) من الرسالة يقارن فيها بين ديكارت في قوله: (أنا أشك فأنا أفكر فأنا موجود) وابن يعيش في كلمة له: (إنك إذا قلتُ: عدمتني، فمعناه علمتني غير موجود، لأنك إذا علمت كنت موجوداً وصحته على الاستعارة)
وقد أورد ابن يعيش هذه الكلمة في شرحه على مفصل الزمخشري في قواعد اللغة العربية - أوردها عرضاً وهو يناقش تركيباً من حيث معناه، ثم تركه ومضى فيما يعنيه من شرح القضايا الأخرى
فابن يعيش لم يكشف مذهباً فلسفياً، بل لم يجل بفكره أن يقف عند هذه القضية قليلاً ولا كثيراً، فكيف ينتظر منه أن يسايرها إلى غايتها ويتخذها أساساً لمنهج فلسفي؟
فليس الفرق أن هذا لم يصغ مع أنه السابق وذاك صاغ مع أنه اللاحق؛ ولكن الفرق هو أن ابن يعيش يناقش تركيباً عربياً من حيث معناه ثم يتركه إلى غيره، وديكارت درس طويلاً مختلف المذاهب الفلسفية التي تقدمته فرأى الفلاسفة عاجزين عن حل ما تصدوا لحله من المشاكل العقلية فتركهم يائساً (ألا يطفئ غلته من جداولهم) . ولجأ إلى الشك بعد أن لج به اليأس، فشك في كل رأي وعقيدة في طريقي المعرفة: العقل والحواس، حتى لشك في وجوده فإذا هو مضطر أن يعترف بحقيقة لا شك فيها وهي أنه يشك أي يفكر فهو لابد أن يكون موجوداً، فوضع قاعدته: (أنا أفكر فأنا موجود) وهو لم يثبت بذلك وجود جسمه ولا نفسه بل ذاته المفكرة
ثم مضى في تفكيره على هذا الأسلوب حتى شاد فلسفة رفيعة تضيء الطريق لأصدقائها وأعدائها على السواء.
إن كان أحد قد سبق ديكارت بشيء من فلسفته - فيما أعلم - فليس ابن يعيش الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي متقدماً
نحو أربعة قرون على ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر (١٥٩٦ - ١٦٥٠) بل فيلسوف آخر عاش في القرون الوسطى الأوربية في عصرها الأول الذي يسمى في تاريخ الفلسفة (عصر آباء الكنيسة وقد سبق ديكارت بأكثر من أثني عشر قرناً، وهو القديس (أورليوس أوغسطين فيلسوف المسيحية. وقد ولد عام ٣٥٣م في (تجستي في شمالي أفريقية لأب وثني وأم مسيحية ملؤها الإخلاص والحماسة لدينها فنشأ وثنياً على ملة أبيه، ثم اعتنق المسيحية في الرابعة والثلاثين من عمره، فصار فارسها الأوحد الذي يناضل عنها بكل ما أوتي من قوة وبراعة؛ ورأى فيه المسيحيون إمامهم الذي إليه يرجعون في مشاكلهم فلا يذكر اسمه في مجال خلافي حتى ينحسم الخلاف في رضا واستسلام فهو الفيصل الذي لا معقب له.
قرر أوغسطين - وهو يفصل رأيه في المعرفة - أنه إذا جاز للإنسان أن يرتاب فيما تمده به الحواس من معلومات فلا يجوز له الريب فيما يزوده به العقل؛ لأنه حق ثابت، إذ الشك لا يمتد إلى شعور الإنسان باحساساته الباطنة، كما أن الشك في الاحساسات الخارجية يتضمن الاعتراف بوجود ذات تشك، لأني إذا كنت أشك، فإني أعلم بشكي أني موجود؛ فالشك إذن يتضمن الاعتراف بوجود المفكر من غير شك ولا خطاء، فإذا تشككت في كل شيء، فلن أخطئ إذ لا بد أن يكون المخطئ موجوداً.
وهكذا يمضي الفيلسوف في فلسفته فيثبت وجود الله وقدرة العقل على تحصيل المعرفة التي مصدرها الله ويبين الكيفية التي خلق الله بها العالم، ويفصّل رأيه في الروح والمادة والأخلاق وطريق الاتحاد بالله والسعادة الأخروية. وقد توفي عام ٤٣٠م.
ومن مفكرينا المسلمين اثنان شكا كديكارت في كل شيء وإن ينتهيا إلى ما انتهى إليه من خلق فلسفة شاملة تفيض باليقين والإيمان من طريق العقل: أحدهما فيلسوف المعرة أبو العلاء الذي انتهت به قسوة الحياة وآلامها الملحة إلى الشك بالتشاؤم فلم يبق له إلا الإيمان بالألم كما يرى ذلك من قرأ له لرومياته ورسائله إلى داعي الدعاة ورسالة الغفران. وثانيهما حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي انتهى الشك إلى الإغراق في التصوف كما يرى ذلك من قرأ كتابه (المنقذ من الضلال) . ومما هو جدير بالالتفات هنا تشابه القديس أوغسطين والإمام الغزالي
في كثير من آرائهما وحياتهما ومنزلتهما في الدين، فأوغسطين في المسيحية هو الغزالي في الإسلام، وكل منهما اضطرته ظروفه المحيطة به، والتي كانت تهدد دينه أن ينبري ليدافع عنه أعداءه فوفق في دفاعه كل التوفيق
(سمالوط)
