كان شهر يونيه الماضي من الشهور الحاسمة في تطورات الحرب الحاضرة ، وفيه تدخل الحرب في مرحلتها الأخيرة ، أو فيما يمكن ان نسميه بداية النهاية . ونظرة واحدة إلى ميادين الحرب الحالية وميادين الأمس القريب تؤيد هذه الحقيقة فقبل شهر يونيه كانت الجيوش الألمانية لا تزال تحتل فرنسا والبلجيك وهولنده ولو كسمبرج ودانماركه والنرويج في الغرب ؛ وكانت في الشرق لا تزال تحتل رقعة كبيرة في شمال غربي روسيا ، كما كانت تحتل سائر بلاد البلقان وأواسط إيطاليا وشمالها . وكان يقف إلى جانبها في هذا الصراع عدة من الدول الصغرى هي فنلنده والمجر ورومانيا وبلغاريا ، وبينما كانت الدعاية الألمانية تشييد بمناعة القلعة الأوربية النارية ومناعة جدار الأطلنطيق ، كان العالم يتساءل دهشاً كيف يتسنى للحلفاء
تحطيم هذا الصرح الهائل ، وكيف ومتى يستطيعون الوصول إلى ألمانيا ؟ بيد أنه لم تمض أيام قلائل من شهر يونيه حتى وقعت المعجزة ، وبدأ الحلفاء غزو القارة الأوربية من الغرب بقوات واهبات لم يسمع بها ؛ وبدأت معركة فرنسا أو معركة الدول الغربية كلها ، في رقعة ضيقة من سواحل نورماندي الصخرية ، ولم تنجع أسطورة الجدار الغربي أو مقاومة الألمان المريرة في رد هذا السيل المتدفق لتحرير أوربا وغزو ألمانيا .
فماذا ترى اليوم بعد أشهر قلائل فقط من بدء الغزو ؟ لقد تداعت المقاومة الألمانية في الغرب بسرعة لم يتوقعها أشد المتفائلين ، وقد حررت فرنسا والبلجيك ولوكسمبرج وجزء من هولنده ، وارتدت الجيوش الألمانية إلى ما وراءَ حدود " الريح " واخترقت الجيوش المتحالفة حدود
ألمانيا في القطاع الشمالي ، واستولت على مدينة " آخن " (إكس لا شايل) الكبيرة ، واستولت في هجومها الحالي على رقعة كبيرة فى شمال شرقي آخن ، وهي تندفع الآن بقوة في السهل المؤدي إلى وادي الرور معقل ألمانيا الصناعي
ولم تكن تطورات الميدانين الشرقي والجنوبي أقل روعة ؛ ففي نفس الوقت الذي وقع فيه الغزو في الغرب ، بدأ الروس هجومهم الصيفي الكبير ، ولم تمض أسابيع قلائل حتى وصلوا إلى مشارف وارسو واخترقوا حدود بروسيا الشرقية في عدة مواضع ، وانحدروا من جبال الكربات إلى سهول رومانيا والمجر ، وهم يحاصرون اليوم بودابست العاصمة المجرية . وكان لضربات الروس القوية أثرها في تداعي خط الدفاع الألماني كله في الشرق والجنوب ؛
فأذعنت فنلنده لعقد الصلح الذي رفضته غير مرة ، وسلمت رومانيا وبلغاريا ، وتم تحرير اليونان ومعظم ألبانيا ويوجوسلافيا . وأما في إيطاليا فقد دخل الحلفاء ، رومه منذ الرابع من يونيه ، وهم يشرفون اليوم على سهول لمبارديا ، الفاصل الأخير بينهم وبين حدود ألمانيا الجنوبية . وهكذا تغدو ألمانيا الهتلرية بعد خمسة أعوام من الحرب وقد فقدت معظم الأراضي التي استولت عليها .
وطوقها أعداؤها أو اقتحموا أراضيها في غير موضع ، ولم يبق من آثار نصرها الخلاب سوى احتلالها لهولنده ودانماركه والنرويج وبعض أراض في بولونيا ومنطقة البلطيق وشمال إيطاليا ، وسوى الدمار المروع الذي تركه الغزاة الألمان في كل مكان وطئته أقدامهم . وقد اضمحلت قوى النازية الهائلة بعد معارك مضطربة استمرت أربعة أعوام ؛ ولكنها ما زالت مع ذلك تبدي منتهي الإصرار والعزم في مدافعة أعدائها ؛ وقد استطاعت بالفعل أن تؤخر زحف الروس في الشرق عند حدود بروسيا الشرقية وأمام أبواب وارسو وبودابست ، وأن تؤخر زحف الإنجليز والأمريكيين في الغرب عند خط زيجفريد .
وحينما استطاعت القوات المتحالفة أن تخترق الحدود الألمانية في القطاع الشمالي ، نجدها تشق طريقها إلى الداخل ببطء في وجه مقاومة ألمانية تزداد شدة وعنفاً .
وكان المظنون قبل أن تقف الحيوش الألمانية هذه الوقفة العنيفة عند أبواب الوطن الألماني ، أن الحرب قد تنتهي قبل نهاية العام الحالي (١٩٤٤) ، ولكن تطورات القتال في الأسابيع الأخيرة عدلت من هذا الرأي .
والظاهر أيضا أن دخول الشتاء وتغير الأحوال الجوية سيكون له أثر في تأخير المعركة أو المعارك النهائية ، وقد صرح لنا مستر نشرشل في خطابه الأخير بأن الحرب في أوروبا سوف تمتد إلى صيف سنة ١٩٤٥ ؛ وقال الرئيس روزفلت في خطاب ألقاه منذ أيام قلائل إن الحرب لم تنته بعد ، وسوف لا تنتهي إلا بعد معارك تكبدنا ثمناً غالياً ، وهذا التأخير بالذات سوف يتيح للألمان فرصة أخرى . للتأهب ومضاعفة جهودهم الدفاعية .
وليس معنى ذلك أن ألمانيا النازية يحدوها اليوم أي أمل في النصر ، فقد نبذت هذا الأمل منذ بعيد ، ولكنها تعرف جيداً أي مصير مروع يجره عليها التسليم أو الهزيمة .
وما زالت الأمم المتحدة تصر على تسليم ألمانيا بلا قيد ولا شرط ، وتؤكد أنها لا تقبل الدخول مع ألمانيا في أية مفاوضات للصلح قبل أن تلقي السلاح وتضع نفسها تحت رحمة الحيوش المتحالفة ؛ وما زال زعماء النازية من جانبهم يؤكدون بأن ألمانيا لن تسلم ، وأنها سوف تقاتل حتى تحصل علي صلح شريف . وهذا هو السر فيما تشهده اليوم من اضطرام المعارك من الفريقين ، ولا سيما على حدود " الريخ " الشرقية والغربية ، وما يبدو من استمائة الألمان في الدفاع عن الوطن الألماني عسي أن يحمل الحلفاء بذلك على تغيير موقفهم الصارم متى رأوا ما يقتضيه النصر من ثمن فادح وتضحيات لا نهاية لها .
ولا ريب أن ألمانيا تخوض اليوم آخر المعارك التي
تستطيع خوضها ، بيد أنها تخوض معركة عقيمة ؛ فمصير الحرب قد استبان منذ بعيد ، وتأكد منذ الصيف الماضي بما بدا على جيوش الريخ من مظاهر الإعياء والتفكك ، وما لحقها من هزائم متوالية في الشرق والغرب . ولسنا نستطيع أن نتصور اليوم كيف يمكن أن تنجو ألمانيا من قدرها المحتوم ، ولا سيما بعد أن تطورت الحوادث على هذا النحو ، وظهرت بوادر الكارثة واضحة في الأفق
وقد حدثنا هتلر قبيل وقوع الغزو في الغرب عن عبقرية الاختراع الألماني ، وأشار إلى الأسلحة السرية التى يمكن أن تقلب ميزان المعركة ؛ وظهرت القنابل الطائرة بعد الغزو بأيام قلائل ، وأخذت تحدث آثارها في إنجلترا ، وأخذت الدعاية الألمانية من جانبها تهول من شأن هذا السلاح الألماني السري ، وتمنى الشعب الألماني في شأنه بأطيب الوعود ؛ ولم يخف مستر تشرشل يومئذ خطورة الفتك الذي تحدثه القنابل الطائرة بين المدنيين ، ولا الجزع الذي ساور الشعب البريطاني من جرائها ؛ على أنها لم تحدث في سير المعارك أثراً يذكر .
وقد تبين بعد استيلاء الحلفاء على قواعدها على الشاطئ الفرنسي أنها سلاح قصير المدى . والمظنون أن الصواريخ الألمانية الجديدة التي تلقى اليوم على إنجلترا ، لن تزيد بالرغم من فتكها الشديد في أثرها المحدود عن القنابل الطائرة ، ولن يكون لها أو لغيرها من الأسلحة المماثلة في تطور المعارك الحربية أثر بذكر . وإذا كانت الدعاية الألمانية قد استطاعت يوم ظهور القنابل الطائرة أن تبعث إلى الشعب الألماني شيئاً من الأمل الخلب في كسب الحرب بواسطة الأسلحة السرية الجديدة ، فإنه يصعب عليها اليوم ، والجيوش المتحالفة تقتحم أراضي الوطن الألماني في عنف وقوة أن تحدث مثل هذا الأثر في نفوس شعب أضحى يرى شبح الهزيمة ماثلاً أمام عينيه ! ولكن إلى متى تستطيع ألمانيا أن تصمد لأعدائها في
ميدان الحرب ؟ إن مدى المعارك الدفاعية التي يمكن أن تخوضها المانيا لم يبق رهيناً بقوة الجيش الألماني وحده ،
بل أضحى يتوقف بالأخص على مصير الجبهة الداخلية الألمانية ؛ فإذا استمرت الجبهة الداخلية على تماسكها ، وإذا استطاع الزعماء النازيون أن يستمروا في السيطرة عليها ،
فقد يستطيع الريخفر (الجيش الألماني) أن يصمد في ميدان الحرب أشهراً أخرى ، وهنا يتأكد ما يتوقعه مستر تشرشل من استمرار الحرب إلى ربيع أو صيف سنة ١٩٤٥ . على أنه يبدو من جهة أخرى أن الجبهة الداخلية الألمانية تقوم اليوم على بركان مضطرم قد ينفجر بين آونة وأخرى ؛ ذلك أن الأنباء المتنافضة التى تتسرب من ألمانيا إلى الخارج تكاد تجمع على أمر واحد ، هو أن هيئة أركان الحرب الألمانية ليست على اتفاق مع الحزب النازي ، الذي يستتأثر اليوم داخل ألمانيا بكل سلطة ،
ويحرص على تماسك الجبهة الداخلية بأعنف الوسائل ؛ ويبسط الجستابو وهو عماد الطغيان النازي اليوم على ألمانيا حكم إرهاب لم يسمع مثله . وقد أنشأ النازيون قوة داخلية جديدة من الحرس الوطني لتحافظ على سلامة الجبهة الداخلية وتعاون في أعمال الدفاع الوطني ، وتولى عمل رئيس الجستابو ، وهو اليوم حاكم ألمانيا الحقيقي ، القيادة العليا مكان هتلر ، وأضحى من الصعب على أية قوة معارضة أن ترفع رأسها في الداخل . ولكن زعماء الريخفر الذين فشلوا في اغتيال هنلر في حادث ٢٠ يونيه الماضي ، قد يحاولون مرة أخرى سحق الإرهاب النازي بسحق زعمائه والتمهيد بذلك لوقف الحرب . وقد تنهار الجبهة الداخلية فجأة بصورة أخرى ، ولا سيما متى تقدم هجوم الحلفاء على ألمانيا من الشرق والغرب ، واستطاعت الجيوش المتحالفة أن تتوغل في مناطق " الريخ " الحيوية ، قد يحدث هذا أو غيره مما يصعب التكهن به ، وعندئذ تحل الخاتمة فجأة ،
وتجثو ألمانيا أمام الظافرين
