في العدد 31 من (الثقافة) مقال بارع المنحى، عذب الأسلوب، عنوانه (مسألة) بقلم الأستاذ عبد العزيز البشري. وقد جاء في خاتمة هذا المقال - عند الكلام على أخذنا العلوم والفنون عن الفرنجة - ما حرفه: (في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء، وللنبات والأزهار مئات الآلاف من الأسماء والصيغ والمصطلحات. فإذا نحن عرَّبنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة. وأنت خبير بأن ما يدور في صيغ العربية على ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب وما يتحدث به الخاصة. . . ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم وما تنتضح به رسائلهم - كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف.
وكيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟ بل كيف له بأن يعيش بجانبه ويحقق ما تحقق الُّلغى لها من كيان؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير، فليت شعري ماذا يكون المصير، فاللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير). أهـ وإذا أذن لي الأستاذ البشري في أن أرى رأياً فأحاول التعليق على مقاله، قلتُ: إننا ناقلون إلى لغتنا كثيراً من مصطلحات العلوم والفنون، وهذا الطارئ الضخم إنما يحي اللغة المتداولة ويغنيها ويهذبها؛ فلا نسأل إذن: (كيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟) بل نسأل: كيف لهذا بأن يقوم بغير ذاك؟ إن اللغة التي تعجز عن سدّ حاجات التعبير وتبقى على عجزها مصيرها الموت أو السقوط عند ألسنة العامّة. فها نحن أولاء مقبلون على تلقِّي العلوم والفنون عن الفرنجة بل التأليف فيها لنعلم أو لنُنشِئ، فكيف يكون التأليف بالعربية ومصطلحات مختلفة تعوزها؟ هذه حقيقة لا تحتاج إلى دليل ولا بسط. فإما أن نستحدث في التعبير والأداء جميعاً وإما أن نعدِل عن العربية إلى لغة إفرنجية، وفي الحال الأولى تعزُ اللغة وتنشط، وفي الثانية تذلّ وتخور: الحياة أو الموت. وليس من الحق أن ندع اللغة تموت، وذلك لأسباب عمرانية وسياسية وتاريخية لا أعرض لها هنا، وليس ثمة ما يسوّغ الإماتة فالعربية صالحة للتجديد قابلة بفضل أوضاعها وأسرارها ثم بفضل كنوزها التي نهملها أو نجهلها.
وإغناء اللغة يهذَّبها فضلاً عن أنه يحييها. بيان ذلك أن الصيغ والألفاظ الطارئة، سواء استخرجناها من بطون كتبنا أو وضعناها وضعاً، لابدّ لها من أن تحلَّ في الحافظة محل صيغ وألفاظ مقيمة. وفي العربية التي تدور على (ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب) ما لا خير فيه بل ما يرد الأداء تفهاً أو يجعله حشواً. ومما يرد الأداء تَفِهاً تلك التعبيرات المطروقة من زمان قديم حتى إنها أضاعت قوَّتها بل لونَها،
وقد بين ذلك الأستاذ أحمد أمين في كلامه على جناية الأدب الجاهلي. وبما يجعل الأداء حشواً تلك المترادفات والمتواردات التي يظن بعضهم أنها هي اللغة. ولو علموا أن متن اللغة ينهض الألفاظ المفردة والصيغ المستقلة بنفسها! ولكنه كان جيل من الناس ضاق أفق تفكيرهم فانقبضت صفحة تعبيرهم فمطَّوا أطرافها بالثرثرة والتكرار. فأن تُترك المطروقات وتُهجر المترادفات ويشغل مكانها صيغ وألفاظ لا غنى عنها، ذلك خير للغة ومَدَد للمتكلمين بها
ومن هنا يتبين أن ذلك الطارئ لا يطغى (اشد الطغيان على سائر اللغة) مهما ضخم، بل قل إنه لِقاح له من جانب المبنى والمعنى. أما المبنى فقد تقدم القول فيه. وأما المعنى فبتلك الصور التي تجلبها معها الألفاظ والصيغ الداخلة على اللغة المتداولة، فُيحقَن المجاز بدم فتىِ فيهتزَّ. وإنك لتلمس ذلك في الشعر الحديث في أوربة ولا سيما في فرنسة وإنجلترة ثم في النثر الرفيع هنالك: فكثيراً ما يستعمل الشعراء (شعراء ما وراء الواقعية مثلاً) والكتاب (ValeryوFargue في فرنسة مثلاً) صيغ العلوم والفنون، طلباً للافتنان في التصوير
هذا من جهة الأدب الصرف. بقي أن أقول إن اللغة لا تنحصر في الإنشاء الأدبي. فثمة الإنشاء العلمي، وله أن يجري إلى جانب الإنشاء الأدبي: هذا في شعب وذاك في شعب، فلا طغيان ولا عدوان. وفي تاريخ آدابنا ما يؤيد هذا؛ فقد كتب الفلاسفة والموسيقيون والحاسبون وغيرهم ما شاءوا أن يكتبوا، فهل طغى ما كتبوا على قرائح الشعراء وأنفاس الكتاب؟ وكان طالب العلم المجتهد يحصّل العلوم والفنون؛ فإذا تفلسف بعد ذلك عمد إلى أسلوب الفلاسفة، وإذا تأدَّب نحا نحو المترسِلين تلك خطرات خطرت وأنا أقرأ مقال الأستاذ الفاضل عبد العزيز البشري، وقد سأل سؤالاً فلعله يتقبل محاولة تعليق، وله مني التحية الخالصة.

