ما أقسي حياة السجين! إنه يشرف على الحرية من خلال قضبان من حديد، وقد انقبضت عليها يداه فلا سبيل إلي اقتنائها والتوائها ... إنه يعيش وحيدا يمضي سحابة يومه عاملا تحت حر القيظ أو زمهرير البرد، ثم يعود وفي نفسه من الثورة والتمرد ما لو وزع على الأنام جميعا لكفاهم وفاض، ثم إذا به يقضي الليل كله وحيدا إلا من خياله، فيذكر أول ما يذكر زوجه وبنيه فيشعر بحنين يدفع بالدموع إلى عينيه، ثم يتدرج به هذا الحنين شيئا فشيئا إلي البكاء ... حتى ذلك المخلوق الذي يقتل دون أن يختلج في عينيه هدب أو ينبض في جسده عرق، يكون أمام ذكري بنيه كالطفل الرضيع لا حول له ولا قوة ... ذلك الثائر القاسي الذي لا تحرك قلبه صرخات فريسة تعاني العذاب، يبكي إذا ماتناهي إلي سمعه بكاء طفل له، فإنه على ما به من قسوة وجمود عاطفة لم يتجرد بعد من حنان الأبوة وحدبها.
ما أقسى حياة السجين حينما تصك أذنيه ضحكات العالم ويخالط أفكاره عجيج الحياة وصخبها؛ هذا العجيج وذلك الصخب هما عنده أحلى وأعذب من موسيقي حلوة رائعة؛ لأنهما يذكرانه بأن هناك وراء هذه الجدران المحكمة والنوافذ المغلقة، وراء هذا البؤس والشقاء، دنيا حافلة بالنضرة والنعيم، فياضة بالمني، زاخرة بالأماني والآمال !!! هذا العجيج وذلك الصخب يبعثان في نفسه الميتة الأمل في آخر حدود قوته فتتشبث أنفاسه الضيقة بخيوط الحياة الواهية في قوة وعزم!
ولكن مالي والسجين؟ وما له كان أول ما خطر ببالي هذا الصباح؟ ذاك لأن حياتي كحياته، غير أن حياته لا يتخللها الخداع والمراآة، فكل الناس يعلم أنه شقي
بائس، وكل الناس يعلم أنه سجين تعس. أما أنا فحتم على أن أبدو كمن يحمل هناء العالم كله ولا نصيب لي منه ... قد ضجر البدر ومل بلواي وضجت النجوم من طول شكواي. ووالله إن حياتي لأشق من حياة السجين، لأني ولم أقترف إثما ولا جريرة، حرمت ضوء النهار وأشعة الشمس، فلا أراهما إلا من خلال قضبان كقضبان السجن. فواخالقي إنى لأحسد ذلك البائس الذي لا يكاد قميصه المهلهل يستر جسده، أحسد تمتعه بالحياة على النحو الذي يريده. هو ينطلق في طريقه هائما علي وجهه يفترش الأرض ويلتحف السماء ... هو أول ما يتلقى قبلة الشمس عند بزوغها وآخر من يسعي لوداعها ... هو يتنسم هواء طلقا غير محصور، بينما نحن نوصد من دونه الأبواب ... فما الذي يشكوه إذا؟ الجوع؟ ولم يجوع؟ وأمامه الأشجار يقتطف من ثمارها الدانية ما يمسك عليه ومقه، أمامه الكون الساحر يملأ منه عينيه. إنه يأخذ من الحياة اللب، بينما نحن نحتفظ منها بالقشور. ما أجمل لفظ الحرية؛ وما أحلى وقعه علي النفس!! أي الطيور يروقنا منظره أكثر: أهذه الحبيسة في الأقفاص أم تلك الطليقة في السماء؟ أي الورود أطول عمرا وأشد تأثيرا وسحرا: أهذه المرصوصة في الأواني أم تلك التي يمتلئ بها الفضاء؟
أنا وحيدة، وقلبي وحيد لا يكاد يصبو إلى ما تصبو إليه قلوب الناس عادة، حتى يصطدم بالحقائق فينكمش، وتقصيه كبرياء النفس عن متع الحياة ولذائذ العيش.
إنه يعيش في عالم موبوء مثقل بالخطايا والآثام!.. إنه يعيش في عالم قوامه الكذب والرياء والخداع!.. إنه يعيش في عالم ما كان له أن يعيش فيه لولا آدم وحواء...
أنا أريد أن أنسى كل هذا لكي أستطيع أن أعيش، فكيف السبيل إلى هذا النسيان؟ وكيف أطمع في رحمة الأيام وقلبي لا يرحمني؟ إنه يتمرد على، ويطالبني بحقه في هذه الحياة ... إنه قد سئم الأوجاع والأسقام ... سئم
الأحزان والآلام ... سئم الوحدة وراح يناضل في ميدان الحياة ... ولكنه وا أسفاه! كان غافلا ثم عاد فاصطدم بالحقيقة فجأة. لقد شاب مع الزمن! تنكر للهوي وما عرفه قط أبدا، ولا مسه سحره العجيب. ولقد قالوا : إن الحب عاطفة تسعد وتشقي، وتعطي وتأخذ، وإن لسهام "كيوبيد" طعنات هي طورا رقيقة، تمس شغاف القلب مسا ناعما رقيقا، فتحمل أوتاره الثملة بخمرة الهوي إلي النفس المدلهة أسمي العواطف وأرق المشاعر وأعذب الآمال. وهي تارة توخزه وخزا أليما موجع، وتضربه في مقتل منه ضربات قاسيات قاتلات، فتتقد في النفس جذوة اليأس مختلطة بحمي الحرمان، ويندلع منها لهيب الرغبة ... واليأس والحرمان والرغبة عوامل إذا اتحدت أرهقت النفوس، وقضت عليها القضاء المبرم. ولكن: أين نحن من الحب؟ إن الحب لا ينبت إلا في مراتعه، حيث الحقول الناضرة، والفضاء الوسيع، وحيث الطبيعة الرائعة تهيج في النفوس الفتية عواطف الشباب الثائرة. هنالك في ظلال وارفة، أو على حافة غدير زلال، تتفتح القلوب الصغيرة الساذجة لأحلى عاطفة وأعذب حديث، وتخفق الأفئدة الغضة الصافية، وتشرق الوجوه الناضرة الباسمة، وتضطرم النفوس البريئة الوادعة، لأول لفظ من ألفاظ الهوي العذري يهمس به فتي أو فتاة، وهما متقاربان كمتباعدين على بساط من سندس أخضر بديع، تجوس خلاله أيديهما الصغيرة تجتثه في اضطراب حبيب، يشغلان به نفسيهما عن كل ما في الوجود، يتبادلان النظر في خجل وحياء فطري، في صدريهما كلمات وكلمات وأحاديث وأحاديث، وهما صامتان، يقدمان فيحجمان، ثم يخرجان من صدريهما زفرات يضطرب لها من حولهما الهواء، وترتعد من فوقهما النجوم، فلا يقومان حتى يسمعا ترنيمة الفجر في صياح ديك، ويريا بزوغ الشمس في وجه الغدير، ونشاط الصبح في شقشقة عصفور، فيسعيان ، هو إلى عمله في
الحقل، وهي إلى عملها في الكوخ الصغير، وينفقان النهار كله يتهيآن لحديث الليل، ويقولان ويرددان، هو سيقول، وهي ستقول؛ ثم يأتي المساء ويجلسان، هو إليها وهي إليه، فلا يقول ولا تقول، وتروح أيديهما الصغيرة تجوس خلال السندس الأخضر تعبث به في حيرة واضطراب.
هنالك في البادية مرتع آخر من مراتع الحب، حيث الرمال الحارة الناعمة تجري بها الريح فتهمس همس المحبين. وتتناغي تناغي العاشقين . . حيث الابل والخراف، وأسراب الغزلان، وحداء العذاري من الفتيات.
وراء القطيع فتي ذو قيثارة يوقع عليها توقيع الحزين، ممشوق القد، رائع القسمات، على وجهه سمات من هدوء تكلفه ليقهر به عواطف الشباب المتدفقة الثائرة؛ في نظراته عزم وقوة، وفي حركاته إرادة وجبروت، يرتدي ثوبا طويلا فضفاضا وعباءة واسعة، وعلى رأسه قلنسوة يطفر من تحتها شعره الأسود الفاحم، فيتناثر على جبينه الوضاء في فوضى أخاذة ساحرة، وعن يمينه على بعد خطوات قصار تمشى عذراء حسناء، منكسة الرأس في إطراقة طويلة، تسوس الخراف بعصاها الصغيرة، وبين الحين والحين تختلس إلى فتاها نظرة خاطفة من بين أهدابها الوطف ... والقطيع من أمامها ينساب على نعم قيثارة الفتي، ثاغيا في عذوبة دونها عذوبة موسيقي الملأ كله.
هنالك يترعرع نبت الحب، يحمل على شجيراته في عناية ورفق أزهار الطهر والنقاء، يغذيه عفاف العذاري ووفاء الفتيان.
هنالك ينمو الحب بين الفتي والفتاة، فيرعيانه وليدا، ويهدهدانه صبيا، ويدللانه فتي يافعا. في مرائعة ينمو الحب، فأين نحن من الحب؟ أين؟ (س)
