نحن ضعاف ، ما في هذا شك . والغربيون أقوياء ، وما في هذا شك أيضا . وإنالنبغي أن يكون لنا مثل حظهم ، أو جليل من حظهم من القوة والعظمة ، ولكن كيف السبيل ؟ اللهم إن السبيل واضحة لا عوج فيها ولا أود ، هي أن نأخذ إخذهم ، ونسعى سعيهم ، ونحذو في وسائل الحياة حذوهم . وبذلك نبلغ كثيرا مما بلغوا إذا لم يقدر لنا أن نصبح مثلهم . وأرانا ، بحمد الله . فاعلين ، بل أرانا في هذا جادين جاهدين . ها نحن أولاء نتعلم علومهم ، وننقل فنونهم ، ونتروي ما تنتضح به قرائحهم في آدابهم ، ونمرن أيدينا في تقليد صناعاتهم . وننهج في تجاراتنا نهجهم ، ونستن في أسبابنا المالية والاقتصادية سبلهم . ونطبع جيشنا على غرار جيوشهم ، ونعد من آلات الحرب ما يعدون لأنفسهم . ونجري في أنظمة الحكم وسياسة الجماعة على طرائقهم . ونشيد دورنا علي طرز دورهم . ونتخذ لها من الأثاث كل جديد من أثاثهم . ونتزيا بأزيائهم . ونتخلق بأخلاقهم ونتأدب بآدابهم . ونصطنع عاداتهم . ونفكر على أساليب تفكيرهم . ونسلك في فنون النقد مسالكهم . والخلاصة أننا بتنا نقلدهم في كل كبير وصغير ، ونترمم أثرهم في كل دقيق وجليل . لا نستثني علي هذا إلا بعض ما تحتمه علينا قواعد ديننا في زواجنا وطلاقنا ، وما إلي ذلك من أسبابنا ، وإلا ما لا تزال تمسك علينا العادات المتأصلة من آلاف السنين ، حتى كادت بذلك تتصل بالخلق ، وتلصق بالطبع . علي أنها في طريق التحول والنصول ، ولا بد لها يوما أن تحول .
نحن صائرون إلي حياة غريبة لاشك فيها . وما لم نأخذه منها لنفعه ، ونحاكيه ابتغاء ثمرته ، أخذناه جريا على سنة الطبيعة في تقليد الضعفاء للأقوياء ، ومحاكاتهم بظهر الغيب دون تمييز بين ما ينفع وما يضر ، ولا نقد لما يسوء مما يسر .
نحن صائرون في عامة أمورنا إلي هذا العيش ، ما لنا إلي غير ذلك حيلة . وإن شئت قلت ما لنا من ذلك بد !
على أن هنا أمرا جليل الخطر ، أو علي الآدق من أجل الامور خطرا ، قد سقط في هذه الوثبة من حسابنا ، وأخشى إذا هو تخلف أن تكون مشيتنا في حضارتنا الجديدة عرجاء وكيف للأعرج بمسيارة المغذين الأقوياء ؟
فقد رأيت أن كل عناصر الحياة عندنا غربي خالص ، اللهم إلا عنصرا واحدا لا غناء عنه ولا سداد بدونه ومن ينكر ان اللغة من مقومات حياة الأمم ، فهو كمن ينكر الشمس في وضح النهار كما يقولون
كل سبب من أسبابنا أضحي غريبا . وما لم يستغرب بعد فهو ولا مراء في طريق الاستغراب ، اللهم حلا اللغة ، فلغتنا ما برحت العربية التي تحدث بها الجاهليون من آلاف السنين
إذن آبات علينا ، لكي ينسق أمرنا ، ويستقيم منطقنا ، أن نقضو عنا لغتنا كما ينقضي الثوب الخلق ، ونتخذ للساننا لغة غربية تستطيع ان تحيا مع هذا العيش الجديد ؟
لست ، علم الله ، امازح ولا اعابث . فإن المقام من
الجد الذي لا يحتمل العبث ولا المزاح
هناك علوم تشتعب جميع سبل الحياة . وهناك فنون منها ما يتصل بصلب العيش ، ومنها ما يسمي للتسلية والترفيه والتنعيم . وهناك الآات وعدد ، وهناك مصنوعات لا يملكها عدد . وهناك ما لا يحصى من المستحدثات التى اصبح لاغني عنها للناس ، استغفر الله ، فإنما اعني المتحضرين من الناس ، لاغني لهم عنها في قضاء لباباتهم وتناول جميع أسبابهم .
وهذه العلوم والفنون ، وهذه الالات والعدد ، وهذه المستحدثات التي لاغني عنها لأحد . هذه كلها اصبح طلبها والتفقة فيها وتجويدها كما يجودها اهلها هو همنا وشغل نفوسنا ومرامنا الأقصي ومثلنا الأعلى . فكيف لنا بها ولغتنا لا تحيط بها ، بل لا تكاد تلم منها بكثير ولا بقليل ؟
لقد كانت لغتنا ثقة العلوم والفنون التي جاءت بها حضارتنا ، فلما عفي الزمان على هذه الحضارة عفي على اللغة كما اتي علي تلك العلوم والفنون . ونحن الآن إنما نطلب علوما جديدة ، وفنونا حديثة ، ومبتكرات طريفة ولكل منها في الافرنجية اسم ، ولكل منها تعبير يؤديه في غير عسر ولا التواء . فكيف لنا بهذا كله ولغتنا ، كما عرفت ، في هذا التقلص والانقباض ؟ !
لابد لنا من تناول العلم والفن ، ومن تناول وسائل الرقي والقوة والعظمة جميعا ، وتناول هذا في غير لغة ضرب من المحال ، وتناوله في لغة قاصرة من معضل الإشكال !
وهنا تصدع الاراء وتفترق الطرق : فقوم منا يذهبون إلي أخذ العلوم والفنون وسائر حاجات الحضارة في لغاها ، وتناولها في أسمائها المعروفة ومصطلحاتها المقسومة في تلك الللغي حرصا على سلامة المعلومات والفنون ، واختصارا للزمن ، وتوثيقا للصلات بيننا وبين بن ينابيع الحضارة في بلاد الغربيين . وارفق هؤلاء ، من يقولون بالتعريب في كل شئ ، حتى فيما له تعبير عربي قديم
ويخالف هؤلاء اخرون إلي وجوب تناول كل شئ بالعربية الصميمة لا أثر فيها لأي استعجام ، مهما يكن المعنى مما لا عهد للعربية به في يوم من الآيام .
ينبغي أن يكون كل شئ عربيا مخلصا . فإذا كان بين اصحاب هذا الرأي مسرف في المرونة والترخص رضي بأن يصار إلى التعريب إذا عيت وسائل العربية جميعا باصابة المعنى المطلوب . وهيهات ان تعيا في ظن الا كثرين .
وهؤلاء إنما يذهبون هذا المذهب ، وبتشددون هذا التشدد إيمانا منهم بأن اللغة من اقوى مقومات الامم ومن أخص مشخصانها . فإذا هي حالت ذهبت الامة ولم يبق لها بين سائر الأمم كيان . وإذا كانت الإفرنجية هي لغة العلوم والفنون وسائر اسباب الحضارة ، ولم يبق للعربية إلا تناول التافه في الأسباب الدائرة بين الناس ، فقل العفاء والسلام ، على لغة القرآن لغة الإسلام ! وعلي الجملة ، فاننا لو ذهبنا مذهب أولئك المعربين لأضحت لغتنا والمالطية بمنزلة سواء ، والعياذ بالله
في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء وللنبات والأزهار مئات الالاف من الإسماء والصيغ والمصطلحات ، فإذا نحن عربنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة . وانت خبير بأن ما يدور من صيغ العربية على السنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب ، وما يتحدث به " الخاصة في مجالسهم ، ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم ، وما تنتضح به رسائلهم كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف . وكيف لهذا بأن يقوم بإزاء ذاك ؟ بل كيف له بأن يعيش بجانبه ، ويحقق ما تحقق اللتي لها من كيان ؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير ؛ فليت شعري ماذا يكون المصير ، فاللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير .
