إن سيطرة ابن آدم علي الطاقة الذرية يطلقها متي شاء وكيفما شاء تعتبر أعلى ذروة انتهينا إليها بعد قرنين من البحث العلمي . وقد يتبين أنها أخطر حارث في تاريخ الجنس البشري .
وهناك فريق عديد من الناس ( ليسوا أقل من غيرهم عقلا وحكمة ) يرون أنه لا أمل للجنس البشري في الحياة إلا إذا أقلع عن البحث العلمى ، ولذا يؤثرون بث الدعوة إلي إيقافه والكف عنه تماماً . وإن ما لقى العالم في سنوات الحرب الأخيرة من فزع رهيب يصور لخيالات هذا الفريق من الناس تصويراً واضحاً تلك الكارثة العامة التي يحتمل أن تصيب العالم على أثر استخدام مصادر أخري جديدة للطاقة في الحروب القادمة .
ومن العبث إنكار احتمال وقوع هذه الظلمة الكبرى . لكن العلاج الذي يقترحونه ليس بالعملي ولا بالمستحب .
وذلك لأن التنقيب والبحث عن مجالات جديدة للكشف سواء في المناحي الفكرية النظرية أو في الناحي التطبيقية العملية ، هو من الأمور المستقرة في طبيعة البشر ، وليس في مقدور أي نوع من التشريع أن يقتل هذه الرغبة عند الإنسان أو يكبتها .
ولابد لنا من جهة أخري أن ندرك أن المعارف العلمية فيها من القدرة على الخير بقدر ما فيها من القدرة على الشر ، وأن حبسها من الإنسان بقطع الأمل في رقبه ورفع مستواء وتحسين حالته بوجه عام .
والذي يجري في الرحلة التاريخية الحالية هو أن العلوم تخفي كل يوم من المعضلات التي تتطلب الحل عدداً أكبر من العدد الذي يستطيع الإنسان أن يتلمس له الحل بما لديه من استعداد وبما يملك من وسائل ؛ لكن هذا الوضع قد يتغير مع الزمن وتتعدل الأمور بحيث يحدث الأوان بين عدد المعضلات الى تستجد في المستقبل وبين مقدرة الإنسان على حلها
ويختلف الإنسان عن غيره من الكائنات الحية بما أودع فيه من ملكة للتفكير نامية إلي أقصي حد ، وتمكنه
من أن يتحكم في الوسط الذي يعيش فيه . ومن ثم كان في استطاعته أن يحقق بتفكيره عمليات يحتاج غيره من الحيوانات لتحقيقها إلى أعضاء خاصة أو إلى إكتساب مهارة بالذات . فالإنسان مثلا في مقدوره أن يطير بغير أجنحة وأن يعبر البحار دون أن يعتمد على إتقان العوم الخ -
ولما كان الانسان يتقدم الحضارة يزداد اعتماده شيئاً فشيئاً على مقدرته التفكيرية ، فان أي تطور أو تحسين في قواه العقلية قد يكون له أثر بالغ في تقدمه . ومن الصعب أن يقدر إحتمال وقوع تطورات من هذا النوع . فنحن إذا استعرضنا السجلات القديمة ونقينا في المدنيات العتيقة لم نجد مقرا من الحكم بأنه لم يحدث للعقل البشري أي تقدم محسوس في خلال الخمسة او السنة آلاف سنة الماضية فالعلماء والحكماء الدين نشأوا في العصور الحالية بمصر القديمة وبابل والهند والصين والدول الاسلامية وغيرها - كل هؤلاء كانت لهم على ما يظهر لنا مقدرة على التفكير العميق المنتج لا تنقص عن مثيلاتها لدي نظرائهم من المحدثين .
نعم إن تفكير القدماء قد اتجه إلي نواح تختلف عن النواحي التي يتجه إليها التفكير في العصر الحديث . لكن ليس هناك ما يحملنا على الظن بأن لو أتيحت للقدماء من التقاليد ومن كنوز المعارف ما أتيح للمحدثين من رجال القرن العشرين لعجز أولئك القدماء من الوصول إلي ما وصل إليه الأخرون من اكشافات هي موضع الفخر ، وإن كان بعضها ينطوي على كثير من بذور الشر .
ولا نزاع في أن الرجل العادي في سنة ١٩٤٦ أكثر علماً وإحاطة بأمور الدنيا ممن سبقوه ( حتى من أولئك الذين لم يسبقوه إلا بقرن واحد ) لكننا نستطيع بغير شك أن نرجع هذا إلي تحسن وسائل نشر العلم والعرفان في العصر الحديث ، لا إلى القدرة على هضم هذه المعلومات . ولا يكاد يخالفنا أحد حين تقرر أن بعض متاعبنا الحالية
ترجع أسبابها الرئيسية إلي عظم اتساع نطاق إذاعة المعلومات ، بحيث إنها أصبحت تصل في الأيام الأخيرة إلى أناس لم يتثقفوا تثقيفاً يكفي لتمكينهم من استغلال هذه المعلومات على الوجه الصحيح .
وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نقطع باستبعاد احتمال حدوث تطور فجائي في القوي العقلية البشرية يقفز بها في المستقبل إلي الإمام من عدة نواح ، فان المحتمل على ما يبدو أن يستمر الأنسان ماضياً في الوصول إلي الا كتشافات العلمية وفي إحسان استخدامها أو إساءته بنفس مستواه الحالي من حيث الذكاء .
لكن هناك عاملا آخر محتملا يستحق النظر . ألا وهو أننا إلى الآن لم نلمح أية علامة تدل على أن للتقدم العلمي قد صادف عقبات تعرقل سيره ، ناتجة عن قصور العقل الانساني لكن قد يكون لنا الحق في أن نتكهن بأننا سنصل عاجلا أو آجلا إلي مرحلة يصير فيها العقل غير قادر على إحداث التقدم والمساهمة في زيادة الثروة العلمية
ولعل في استمرار قيام الحروب دليلا على أن بني البشر قد وصلوا بالفعل إلي تلك المرحلة ، على الأقل فيما يتعلق بالناحية الاخلاقية ؛ وهذا قد يشعرنا بشيء من الوثوق بأن مثل ذلك سيتحقق في النهاية أيضاً فيما يتعلق بالمعلومات العلمية
وتنتهي بنا مثل هذه التأملات إلي البحث الطريف الممتع فيما إذا كان لنا ان نتوقع في المستقبل ان يكون في استطاعتنا تحسين " مخ الانسان " ووسائل صناعية وإن الحوادث العلمية التي وقعت في السنوات الأخيرة في معظم فروع العلوم لتمتعنا من أن نطوح بهواجس وخيالات كهذه في سلة المهملات ، ونعتبرها مجرد أوهام لا مبرر لها . فكم من أحلام للعلماء الأقدمين قد اعتدنا في الحقبة الأخيرة أن نراها متحققة .
فهناك مواد معروفة بالفعل كالأمفيتامين تبين من
بعض اختيارات الذكاء البسيطة أنها تزيد على ما يظهر في القوي التفكيرية بصفة مؤقتة ، كما أن تأثير الكوكايين في شحذ القوي الفكرية قد تواترت أنباؤه من زمن بعيد في الروايات الخيالية ( وقس على ذلك ما يقال في أوساطنا الشرقية عن الحشيش واثاره في تصفية الذهن وشحذه احيانا.)
على أن جميع العقاقير التي اكتشفت من هذا النوع لها مع الأسف مساويء خطيرة تحول دون تعميم استعمالها . حتى ولو كانت آثارها في تحسين القوي العقلية قيمة ومقطوعاً بها . لكن من يدرينا ! فلعل جيلا جديداً من علماء الكيمياء يوفق في المستقبل إلى تركيب مواد صناعية تكون فيها التأثيرات القافية قوية متضاعفة ، والتأثيرات الضارة او السامة ضعيفة مختزلة إلى الحد الأدني ، بحيث يمكننا التغاضى عنه وإهمال شأنه .
على أن شحذ القوي الفكرية بالطريقة الكيمياوية ليست إلا واحدة فقط من الطرق التي نستطيع ان نتصور استخدامها لجعل العقل الإنساني أكثر مقدرة على مسايرة التقدم العلمي والنهوض بالأعباء التي ستقع عليه . فالتقدم الحديث في علم الحياة التجريبي يشير إلي أن التسلط على الكروموسومات قد يكون آلة فعالة في تكييف صور الحياة ، وذلك قد يستطاع مع الزمن تطبيقه على الإنسان نفسه .
وعلي كل حال فنحن مؤمنون (ولدينا من الأسباب القوية ما يعزز هذا الرأي ) بأن الإنسان سيكون في استطاعته أن يحسن حالته الطبيعية التي خلق عليها بغض النظر عن الزمن الذي سيتحقق فيه ذلك والكيفية التي سيتم عليها . ولن يكون ذلك بدعا أو نوعاً من المعجزة إذا قيس بكثير من نظائره من أنواع التقدم العلمي التي تحققت بالفعل .
أما الذي لا يزال موضع شك فهو ما إذا كان التقدم العلمي قد جاوز التقدم الخلقي بحيث تعتبر السنوات القريبة القادمة أخطر الأحقاب وأحرجها في تاريخ العالم . ولا يدهشنا أن نتباين الآراء في أمر كهذا ، فنجد من ناحية أن
التخريب المدهش الذي أصاب اليابان من القنبلتين الذريتين وحير الألباب قد ملأ بعض الناس أملاً في أن جميع الأمم ستمتنع عن استخدام تلك القنابل الذرية ما دام الغالب و المغلوب سيصيبهما نفس المصير المحتوم . وتجد آخرين متشائمين لا ينتظرون أن يثوب الإنسان إلى رشده ، ويتوقعون للمدنية بل وللأنسان الانتحار بتلك الآلة التي تمثل أرفع نتاج لجهود التفكير المنطقي . والزمن وحده هو الذي سيقرر أي هذين الفريقين على صواب ) إن كان أحدهما فعلا مصيبا )
لكن أمله من التشاؤم الذي لا مبرر له أن تفترض أنه حتى في الحروب الذرية سيكون عدد الباحثين من القلة بحيث يصير الجنس البشري عاجزاً تماما عن أن يبعث الروح من جديد في الحياة المتمدينة ؛ فكم من مدنيات عظيمة حطمت أو تدهورت وتلاشت ! لكن هذه الحوادث المفجعة لم تقف حائلا دون تطور الجنس البشري وتقدمه بوجه عام وإذا كان نمو الحضارة عملية تطورية فيجب أن نتذكر أن التطور لم يعد يعتبر مدموغا بالأستمرار ، وإنما ينظر إليه الآن على أنه ناشئ من جهات مختلفة عديدة ، وسائر في عدة مسالك تبدو أحيانا متباعدة بعضها عن بعض واحيانا أخري متقاربة . ومن يدري ! فلعل العالم يقف في الآونة الحاضرة عند مفترق الطرق ، فلنرتقب .
