الدوائر السياسية في بلاد العرب مشغولة بأمر المستقبل : كل دولة تفكر في أمر غدها وتدرس الأوضاع السياسية العامة لتعرف أى طريق تسلك ، ولتقرر من الآن الموقف الذي ستتخذه إذا وقعت الحرب في الغد أو بعد الغد ، والجامعة العربية تنظر في موقف العرب حملة ، وتدرس علاقاتهم بهذه الدولة أو تلك لتوجه سياسة العرب جميعا وجهة عربية . مجالس تجتمع وتنقض ، ولجان تنعقد وتنثر ، وتقارير تكتب وتقرأ وتدرس ، وبيانات تعطى أو تطوي ، وخطابات تلقي وتذاع ، وتصريحات تتفرق ذات اليمين وذات الشمال . .
وفيما بين ذلك كله تكتب صحف العرب في الموضوع ، فلا تفتح صحيفة إلا قرأت فيها أن العرب ينبغي لهم أن يصنعوا كيت وكيت ويفعلوا كذا وكذا ، والصحفيون يهرعون إلى الكبار والزعماء وأولى الحل والعقد يستفتون ويسألون ويستجوبون ، وفي كل يوم تظهر الصحف حاملة
ثروة ضخمة من الكلام والآراء ... وما نتيجة ذلك كله ؟ لا شئ ...
لم تقرر دولة عربية موقفها في شئ من الوضوح ، ولم تتخذ واحدة منها موقفا تستطيع تحديده ، ولم توفق
الجامعة العربية إلى توجيه العرب وجهة واحدة ، كل شئ تجري وحي الساعة والمصادفات : في مسألة كوريا وقف العرب مواقف متعددة ، وفي مسألة الصين خرج العراق ولبنان عن إجماع العرب .
وأحب أن أريح القارئ من عناء هذا الموضوع وأؤكد من الآن أن العرب لن يتخذوا قرارا لا فرادي ولا جماعة ، ولن تحدد دولة منهم موقفها ، وإنما ستجيء الحرب وستجد كل دولة نفسها في مكان ما حسب ما تمليه الظروف وحسب ما تقرره الدول الكبرى ، بالضبط كما حدث أمس وأول أمس ، وكما جري في تاريخ العرب الطويل . .
ولست أقول هذا الكلام رجما بالغيب ولا شقشقة كتابة ، وإنما أقوله بناء على حقيقة مقررة من حقائق النفس العربية والشرقية عامة ، وهي أن الإحساس بالمستقبل غير موجود في هذه النفس ، ولفظ الغد لا يعني في حسابها شيئا ، إنما الشرقي رجل يعيش من يوم ليوم يشغله أبسط حاجات يومه عن اكبر حاجات غده ، ويشغله طعام الساعة عن مئونة الساعة التي تليها . .
ولكي أوضح هذه الحقيقة أقول إن الإحساس بالمستقبل ملكة خاصة توجد مركبة في نفوس بعض أجناس البشر
ولا توجد عند غيرها ، وتتربي وتنمو عند بعضها ولا تنمو عند بعضها الآخر . والمراد بها ذلك الإحساس الغريزي العميق الذي يحفز الإنسان على التفكير في أمر الغد والاهتمام بشئونه والتدبير له . وهي ملكة نلاحظها عند الغربيين فرادى وجماعات ، تجدها في دأب الرجال على العمل وحرصهم على الادخار والتدبير ، وتفكيرهم المستمر في مسائل الغد وحاجاته . إن الواحد منهم لن يطمئن له جنب في الليل إلا إذا اطمأن على مصيره في غده ، وإذا عمل عملا نظر فيه إلى الغدوات المقبلة ، فيؤديه متقنا مستوفيا صالحا كافيا لأيام كثيرة ؛ فعند الألمان مثلا لاينام الرجل إلا إذا ادخر شيئا ، ولو بضعة ملاليم ، وعند البروسيين منهم تقليد برعونه . هو أن الوساد لا يكون وسادا إلا إذا كان تحته " بائسيه " وهي عملة في قيمة المليمين ...
أما إحساس المستقبل في الجماعات الغربية فتراء ظاهرا مائلا في الاهتمام بتقرير أمور الحكم والمال على أسس ثابتة ، والحرص على إعداد العدة الحربية الكافية لحماية أرض الوطن في كل مناسبة ، والاجتهاد في إقامة المنشآت العامة كالطرفي والقناطر وخطوط سك الحديد ومؤسسات التعليم والعلاج وما إلى ذلك . .
وهذا الاهتمام كله يرجع في أصله إلى طبع تركب في نفوس الغربيين مع الزمن . فهؤلاء أقوام نشأوا في بلاد باردة لايطمئن الإنسان فيها إلا إذا بذل جهدا عظيما . ولا ينال رزقه إلا بعد كد وتعب ، وتتغطى الأرض بالثلج شهورا طويلة من السنة ويتوقف الزرع والضرع ؛ فإذا ثم يكن الرجل قد دبر لنفسه معاشه خلال هذه الأشهر الطويلة هلك ، وقد هلكت بالفعل منهم أجيال وأجيال . هلكت واندثرت ولم يبق إلا المديرون اليقظون الذين لا تغفل لهم عين ولا يستقر لهم جنب ، إلا إذا ضمنوا الغد قبل أن يضمنوا اليوم ، وإلا إذا عرف الواحد منهم أن عنده من الطعام ما يرد عنه غائلة الموت جوعا أثناء أشهر الشتاء الطويلة .
ثم إن الطبيعة هناك بخيلة بخيرها ، فالأرض صخرية عاتية لا تفلح إلا بعد جهد طويل ، وكما اقبل الشتاء وهبط الثلج تحجرت من جديد ، وكان على صاحبها أن يبدأ العمل
كلمه مرة اخرى ، أي أنه لا يعيش فيها إلا الشديد الأيد المكافح المثابر الذي يعرف بالبديهة أن الحياة كفاح وتعب ، فإذا لم يعول الإنسان على التعب والكفاح فلا حياة له ولا وجود . وقد عملت الطبيعة عملها في أجيالهم بانتظام ، فأهلكت الضعفاء والمهملين والعاجزين ، ولم تبق إلا القوي الصالح للبقاء حقا ، وكل أوربى نراه إنما هو بقية عشرة هلك منهم تسعة في الكفاح الطويل ، فهو واحد بعشرة ، ورث عن الهالكين تجاربهم وتركزت فيه ثمرات كفاحهم ، واستقرت في نفسه عبر مصارعهم .
من هنا نبض في قلب الغربي عرق الغد وعصب الإحساس به، وأصبح الواحد منهم يعيش بعيون مفتحة واسعة إلي الغد ، وأصبح المستقبل في ذاته إحساسا غريزيا مركبا في طبعه .
أما نحن فقد نشأنا في بيئات رخوة لبنة تجود بخيرها باقل مجهود . أو بيئات جافية قاحلة ليس فيها من الخير شئ تجود به ، وكلا البيئتين لا تدفعان الإنسان على التفكير في الغد أو الإحساس به . فأما صاحب البيئة الرخوة فهو في أمن من الغد ، ومطمئن إلى أن الله يدبر له رزقه كما يدير طلوع الشمس ، وأما الثاني فيائس من المستقبل والحاضر والزمان كله . يعول في حياته على ما يصيبه في ساعته ، فإن وجد طعاما أكل وإلا طري نفسه على الجوع كما تفعل العظابا والضباب في الصحراء .
وعندنا قصة لطيفة تمثل نظرة الشرق للمستقبل أصدق تمثيل : قصة شائعة يعرفها كل الناس ، لتوار على شفاه المشارقة في أنها جمام فلسفة الحياة ، ويرويها الغربيون عنا على أنها جماع الغفلة عن سر البقاء ، هي قصة ذلك الإسكاف الذي اناء رجل ينعل بخصفة ، فنادي زوجه وسألها ؛ هل بقي لدينا شئ ؟ فقالت : " لدينا ما يكفي اليوم وغدا " فنظر الإسكاف إلى الرجل وقال له : " إذا تأتينى بعد غد " ثم استلقي علي الأرض وأرسل بصره يتأمل جمال السماء .
وتاريخنا الماضي كله صور متعددة الألوان لهذه القصة ، فقد تعودنا على أن ننظر ليومنا فحسب . وعلى ألا تترامي ابصارنا إلي ما وراء ما يبدو ماثلا لأعيننا . ولا يتغير موقف الشرقى من المستقبل مهما تهددته
الأخطار ، فقد تجد الدولة الإسلامية نفسها وجها لوجه أمام عدو لا يخفى مطامعه ولا يستتر خطره ، ويتحرك العدو للهجوم عليها وبنوش أطرافها ، فلا يعمد أهل الدولة إلى تدبير أمر الغد أو النظر في إنقاذ أنفسهم ، بل يكون همهم ما يشغلهم أيام السلم والرخاء ، فقد كان المغول على أسابيع من بغداد ، وكان رجال الدولة العباسية يعرفون تمام المعرفة أن هولاكو سائر إليهم ، وكتب إليهم الرجل نفسه يؤكد ذلك ، وأخذت جيوش التتر تقترب يوما بعد يوم ، فهل تحسب أن رجال الدولة فكروا في أن يعدوا للأمر عدته ويوحدوا كلمتهم ولو لبضعة أسابيع حتى يزول الخطر ! . . بالطبع لا ، إنما انصرفوا إلى التدبيرات والمشاحنات ، ووجدها بعضهم فرصة ليثأر من أنداد له أساءوا إليه بالأمس ، وبلغ الأمر ببعضهم أن فرق معظم الجيش ، ولم يكن للخليفة هم إلا أن يحافظ على أمواله . .
ثم سقطت بغداد وأهلك التتار أهل بغداد ولم يبقوا على واحد من المتخاصمين . ونحن نقرأ هذه الأخبار ونعجب لأولئك الناس الذين شغلتهم تفاهات اليوم عن متاعب الغد ، ونعجب من أنهم كانوا يحسون الكارثة القادمة ويعرفون أن مصيرهم كلهم إلى الهلاك فيها ، ومع هذا لم يصرفهم ذلك العلم عن الاسترسال فيما كان يشغلهم من قبل من بسائط وسخافات ، ولكن لا محل للعجب . لأن أولئك الناس كانوا يعيشون في يومهم وحسب ؛ لا ينبض في نفوسهم عرق المستقبل ، لأنه غير موجود ؛ ومن ثم فقد سار بهم الزمن إلى الكارثة وهم لا يكادون يفعلون شيئا .
ومثل ذلك حدث عندما نزل الصليبيون الشام وأنشأوا لأنفسهم دولا في بلاد المسلمين ، وقسموا أنفسهم جماعات يجتاح كل منها ما يليه ، أنظن أن أهل هذه البلاد تنبهوا إلى المصير الأسود الذي كانوا يسيرون إليه ؟ بالطبع لا ، ظل أصحاب الموصل يكيدون لأصحاب دمشق ، وأهل مصر يديرون على أهل الشام ، بل يحالفون العدو عليهم ، وعندما ظهر عماد الدين زنكي واجتهد في توحيد صفوف المسلمين لم يكن لدمشق هم إلا أن تناوئه وتدبر عليه ، وتحالف النصاري ، مما نجده معروضا أحسن عرض في حياة
" أسامة بن منقذ " ولم يزل أمر المسلمين على ذلك والعدو يذلهم ويسقهم المصاب حتى رزقنا الله بصلاح الدين ، فأرغمهم على الوحدة واستولي على بلاد المناوئين بحد السيف ، وما كانوا ينظرون إليه إلا على أنه عدو لهم ، مع أنه كان يسعي لما فيه صلاح أنفسهم .
ومأساة الأندلس الكبرى مرجعها إلى انعدام ذلك الإحساس ؛ فقد كان من الجلى الواضح لكل إنسان في الأندلس أن النصاري لن يهدأ لهم بال إلا إذا استولوا على بلاد المسلمين كلها وأزالوا دينهم ولغتهم ، وكانت الأخبار تتوالى عليهم بسقوط العاقل وذل المسلمين وهوان الإسلام وتحول المساجد الجامعة إلى كنائس . أتظن أن ذلك حفز أمراء الأندلس على السعي في الوحدة والنظر للغد ؟ بالطبع لا ، إنما كان همهم مكايدة بعضهم البعض : ابن عباد في إشبيلية يكيد لابن الأفطس في بطلليوس ، وذو النون في طليطلة يدبر لابن هود في سرفسطة ، بل يستسيغ الواحد منهم أن يؤدي الجزية للنصاري ، ولا يستسيغ أن يأتلف مع جاره المسلم . وأخذت المعاقل تهوي واحدا في إثر آخر ، فلم يتعظ الناجون ، بل سدروا في غيهم حتى ضاعت الأرض كلها ، ولم يبق إلا جنوب شبه الجزيرة يشترك في الدفاع عنه بنو الأحمر وبنو مدين ، فما زالوا يتخاصمون ويتدابرون حتى ابتلعهم الطوفان .
وعسى من يقول : كان هذا في الماضي ، أما اليوم فقد أفاق العرب واستيقظوا ؛ وذلك وهم شديد ، فلا زلنا كما كنا لا نفكر إلى أبعد من أتوفنا ؛ وأحداث السنوات الماضية تنطق بأجلى بيان ، وذلك لأن المسألة هنا مسألة طبع وتكوين ، وليست مسألة يقظة أو غفلة ، ولن تستطيع مهما فعلت أن تغير طبائع الناس . .
أتحب أن تعرف كيف يكون موقف أممنا إذا جد الجد ووقعت الكارثة ؟ إذا فسل أولئك الذين وهبهم الله إحساس الغد والاهتمام بأمره ، سل أولئك المقيمين في لندن وموسكو وواشنطن ، هؤلاء هم الذين يعرفون . أما نحن ، فهمنا يوم ، يوم مما يعدون أو مما لا يعدون ، يوم والسلام .
