الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 207الرجوع إلى "الثقافة"

مسرحية " سهاد "

Share

أدب تيمور ادب ممتاز ، نخاله ، نحن أبناء هذا الجيل مقوما جوهريا في حياتنا الروحية . فإنا قد وجدنا فيه ، الأول مرة ، صورة حية كأقوي وأزخر ما تكون الحياة ، وإن اتسم بهدوء ناصع لا شجة فيه ولا إبراق ؛ فما هذا الهدوء إلا اثرا للتوازن الناشئ عن فرط التوتر والحسب

والغلبان كهدوء التمثال اليوناني وسرت إلى أسماعنا منه نقمة الواقع المؤثر في النفس أكثر من الخيال الواقع الحي الذي سرعان ما يستحيل إلي تجربة روحية تهتز من معاناتها النفس لشبة قربة إليها ، ودقة فصاحه عما بنيت

فيها من عواطف وأحساس ، الواقع الذي كشف لنا فنه عما فيه من روح أشيائه نذرت كل ما يحترضه الخيال . وكم في الواقع من سحر وروعة تفوق ما عسي إن يأتي به كل خيال

أدب رأيناه لأول مرة ، قد خلا من بهرج الصنعة الزائف فجاء النمط العالي من الفن الرفيع ؛ فهو البساطة بعينها المقدسة التي تبلغ حد السذاجة التى اشار بها شيلر ، وعني بها الانسجام الساجي مع جمال الطبيعة

بسيط صور مألوفة ، والفاظ معتاده ولكن كم  يستخرج لنا منها تيمور قوي كامنة ، تبعث في النفس كذكريات أليفة لماض قد تناسياه من زمان طويل ، وخيل إلينا انه ذهب ، بينما لا يزال حيا قويا في اللاشعور ، أي في كياننا الروحي الحقيقي

أدب روائي بطبعه ؛ سواء اتخذ صورة القصة ، أو شكل المسرحية . فهو عرض مسرود لشخصيات جذابة تستهوي النفوس ، نظرا لما في اوصافها  وقيماتها من واقعية والفة في ليس فيه افعال صاخبة مركزة حول شخصية تأتلف كل الأحداث حولها وتشع منها ، كما هي الحال في

المسرحية بالمعني الدقيق ، وإنما به لمحات سريعة ، ولكنها دقيقة عميقة ، لعواطف قوية بقدر ما هي ساذحة والشاهد الصادق علي ما نقول مسرحيته الأخيرة " سهاد أو اللحن التائه : مسرحية عربية بالفصحي في ثلاثة فصول . طبع الحلبي القاهرة سنة ١٩٤٢ )

فسهاد ؟ مسرحية وجدانية غنائية من نوع ما خلفه لنا الفرد دي موسيه نوع خلا من الصنعة المسرحية الدقيقة بالمعنى المحدود ، ولكن فيه عرضا لشخصيات حبيبة إلي القلوب ؛ ولكنه يحرك فينا عواطف تنفذ في يسر إلي الأعماق ، لأنها انبعثت عن نفس في انسجام مع الطبيعة الإنسانية الصافية ؛ أو علي غرار ما فعله جرهرت هو يتعن ، الشاعر المسرحي ال الإلماني المعاصر ، في مسرحية معراج  عنيلة فيه فصول غنائية شعرية وكدت أقول صوفية .

انها هي ذي سهاد ؟ العربية التي توفي عنها زوجها في ميمعة العمر فتاة حالمة لم تفق من حلمها ولا أحسبها ستفيق منه - حالة كهذا البدر الساهم الراقد على رمال الصحراء التي أحبتها سهاد حبا صادرا عن صلة الدم التي تربط بينها وبين الصحراء ، فلم يعد في وسعها أن تغادرها إلي المدينة ، مدينة بغداد التي تستهوي نفوس المجذرين المستأصلين أمثال مجاهد ، الذين ابتاعوا بفوسهم النبيلة الصافية نفوسا مزيفة، بل فاسدة ملتوية

جشعة ، تتقن فن الحياة أعي الخداع والنفاق والمناورات ، هنا صراع بين المدينة ، المدينة المدينة التي أصبحت عالمية بعد أن انبسط ظل الخلافة على رقعة من الأرض شاسعة الأرجاء ولهذا فإني اظن أن تاريخ حوادث هذه السرحية يمكن ان يعتبر في القرن الثالث الهجري ، ولو ان المؤلف لا يحدد لمسرحيته زمنا . نقول إن هنا صراعا بين المدينة العالمية التي رددت نداءها الجديد كي تجتذب اليها النفوس فتطيعها

بمطابعها ، وبين البادية ، أي بين الروح الحضارية الجديدة وبين الروح البدوية العربية السليمة الفطرة . ويبدو أن هذه الروح الأخيرة قد انتصرت في المسرحية ، وإن كانت هزمت في واقع التاريخ : فسهاد تأبي أن تنتقل إلي بغداد على الرغم من نداءات الخليفة المتكررة ؛ ومجاهد الذي باع نفسه الطاهرة ، يندم في النهاية مر الندم على تلك الصفقة الخاسرة - وأقول الصفقة بلغة التجارة ، لان

المدينة قد استهواه فيها الثراء والجاه المقوم بالمال ، وما كان شراؤه لنفسه الجديدة إلا صفقة بجارية عقدها أو عقدتها له المدينة العالمية ، مدينة بغداد ؛ وسيف الدين الخراساني الذي أفسدته المدينة لدرجة لا يرجي له بعدها صلاح ، أخفق ومتى بالخيبة الشنيعة حين تقدم لحطبه سهاد ملوحا بثرائه ونفوذه . والفضل في هذا الانتصار لسهاد وحدها : فهي التي أنكرت على مجاهد ، ذلك الطائر الغرد الذي كانت ألحان سفارته تتردد دائما في نفسها ، وتجد فيها

عنوانا على حبيبها الذي تنشده ، ومثلها الأعلي في الرجل الذي تسعي مرة ثانية للزواج به ، نفسه الجديدة التي استعارها من روح المدينة ؛ وكان لا يزال به بقية من نفسه القويمة الظاهرة ، بقية كانت ، ويا للأسف ، مذكرة له بما أضاعه ، ولم تكن قوية قوة تقهر بها نفسه الجديدة ، فخر صريعا لحياته لحقيقة نفسه ، يندم ولات ساعة مندم ! وسهاد أيضا هي التي رفضت يد سيف الدين ، وقد ظنها واحدة

من أولئك النسوة أو الفتيات القاطنات المدن ممن تغريهن أو تذهب بليهن ، الثروة أو الجاه أو المنصب العريض ؛ ولكنه يجد نفسه أمام فتاة ( ونقول فتاة ، وإن كانت أرملة ، لأن روحها لا زالت شابة فتية )ظاهرة النفس لم تتلوث بعد بأدران المدينة ولم تخضع لسحر إغرائها . شخصية فاتنة إذن ، سهاد هاتيك ، روحها روح شعرية خيالية ، فلا تطرب إلا لغناء البلبل ، فتغادر المائدة والقوم جلوس حولها ، المائدة التي تدل بصخبها وعربدتها على رمز

المدينة المستأصلة ، لكي تستمع إلي غنائه في الساعة التي اعتادت سماعه فيها كل ليلة . حركة بسيطة ساذجة ، ولكن كم حمل من معان عميقة رائعة وهكذا فن تيمور ، وهكذا كل فن موح رفيع : لمحات ولمع وإشارات ، كلها مشحونة بالمعاني الكبيرة . ونفس سهاد لم تعد تسكن إلا لسحر الطبيعة البسيطة في الصحراء العربية الفاتنة فلا يكاد سيف الدين يقول : " ما اطيب

الليل " حتى تندفع سهاد " في نشوة " ) وكم في هذا الوصف من تعبير ( قائلة : " حقا ما أطيب الليل . . سكونه الوديع سره الساحر غموضه الجذاب . ومن أحلامه العذاب ؟ ) ص ٦٧ ( . ولم لا تطرب لليل ، وإن بينها وبين الليل وشائج موصولة ، كما تقول ؛ وإن روحها الشعرية هائمة في الخيال ؟ ! وهنا نجد حوارا رائعا ، وفق فيه تيمور كل التوفيق ، بين روحها الشعرية وبين روح مجاهد ، الراقية العملية ، وروح رجل الأفعال والأعمال . هنا صراع

بين روح الفنان وروح رجل الأعمال . بين الحياة كما تعلم بها ، وبين الحياة الواقعية القاسية الجبارة ؛ الأولى تمثلها سهاد ، والثانية يمثلها مجاهد . وكلاهما لا يفهم الآخر وسيظل عدم إمكان التفاهم بين كلا الروحين أبد الدهر فهذا صراع ابدي بين قطبين متناقضين محملهما الحياة داخل نفسها ، ولا سبيل مطلقا إلي التوفيق بينهما . وفي الحركة البسيطة التي أشرنا إليها ، حركة مغادرتها المائده وضيوفها جلوس إليها ، تمثل في براعة هائلة هذا الصراع

الأبدي . فزياد يدهش من حركة سهاد هذه ، ومجاهد يؤمن على كلامه قائلا : حقا شأنها عجيب ! ويتضاحك هازئا حينما تعود معتذرة عن غيابها بأنها القت إن تخص البلبل بساعة كل ليلة حركة من جانبها ، وتضاحك من جانب مجاهد ، أي فن في هذه الإشارات البسيطة ! بإشارة أو لمحة يصف تيمور شخصية بأكملها . وهل يمكن أن توصف شخصية أميمة ، مربية سهاد ، وهي عجوز في

السنين من عمرها ، بأدنى مما فعل تيمور حين جعلها تقتحم على سهاد ومجاهد ذلك الحوار الرائع بين الفنان ورجل الأعمال ، وتتثائب في شكل بشع " ؟ إن في هذا التثاؤب البشع لأدق تصوير لشخصية أميمة ، تلك المرأة المسنة المحكمة التي وضعت نفسها موضع الأم لسهاد ، فراحت تنصب الشباك لمن تحسبهم! بفطرة الأمومة الملتوية - أهلا للزواج بها . وفي حركاتها الفجائية العصبية بعض الشئ ؛ وفي فضولها المقتحم ، والنافع أحيانا

في إعطاء الحركة والتنوع للحوار ؛ في هذا كله دقة في تصوير الواقع تكشف عن براعة نادرة فلما تعثر عليها عند الفنانين المصريين المعاصرين ، والواقع ان براعة تيمور في تصور الشخصيات بدقة في لمحات وإشارات بسيطة . لا تكاد نجد لها مثيلا إلا عند كبار الفنانين الأوربيين وهي ناحية نريد ان نبرزها في تيمور وان نهنئه من أجلها أحر التهنئة

وشخصية مجاهد شخصية مزدوجة ؛ ولا تفسد بالأزدواج هنا الأزدواج في آن واحد ، بل نقصد أن له شخصيتين متتاليتين في الزمان . الأول شخصية الشاعر ان الذي سحر سهاد بأنقامه الرائعة التي كان يبعث

من صفارته في جنح الليل ، وقد تسلل إلي حديقتها

لا نراه . وكان يبدو لها لان ذلك الطور " طبقا خاويا من عالم الأحلام ، نغمة عذبة يتوضح فيها الفن والجمال (ص ١٠٦ ). ولكنه باع روحه للساحر ؛ لأي ساحر؟ لا يحدثنا المؤلف من هو هذا الساحر ؛ وليس من العسير ان نكشف من هو : إنه المدينة مما فيها من رواه وزخرف ، وما ثغري به من سلطان وجاه ، وما تلوح به من ثراء ويسار وهذه هي الوحوش الذي يقول لنا تيمور عليها أكلت روح ذلك الفنان الذي هامت به ، أي روح " مجاهد ؟ الأول . وهنا نشير إلى الرمزية التي يعمد إليها

تيمور كثيرا في قصصه ؛ وهي رمضانية بارعة حبيبة إلي النفس ، لأنها لا تفرق في التلميح والإلغاز ؛ ولا يقصد بها إلي التعمية ؛ وإنما يريد بها ان يعطي صورا حية عيانية تكشف في تيمور عن فنان من الطراز الأول في طريقة الأداء

ويصور لنا المؤلف هذا الانقلاب الذي حدث في شخصية مجاهد في قول سهاد " في حسرة " ) ونود ان ننبه دائما إلى هذه الإشارات البسيطة ( ، حين حاول مجاهد عبثا ان يقول لها إنه لا تزال ذلك الفنان الذي خلب لها واحبته ، نقول إن المؤلف يصور لنا ذلك في قول سهاد : " الفنان الفقير باع روحه السامية الصافية ، واشتري بها

رخيص الجاه ! " ) ص ١٠٥ ( وقد حسب مجاهد أنه بهذا الجاه سيشتري حبها - علي عادة فتيات المدينة - ولكنه أخطأ ، لأنه كان هنا أمام امرأة ثم تلوثها المدينة بعد ، فصاحت حين سمعت منه هذا القول ياللخسران " كلمة عبرت بها عن كل ما تحمله نفسها من نبل وعطهارة ، قاسية علي مجاهد الجديد الذي انكرته هي من أعماق قلبها ، والذي شعر حينئذ بهول ما ارتكبه من

خطيئة حين باع روحه الشاعرة الفنانة واشتري بها روحا مادية عملية ، ثم تعد تفهم الحب ولا العواطف النبيلة ، بل اصبح كل شئ لديها تجارة أو طمعا في الجاه والسلطان . وهي ، أي شخصية مجاهد ، من أجل هذا مؤثرة إلي أقصى حد ، نشعر نحوها بالعطف والرثاء ، ولا تخلو أيضا من إعجاب بما بقي فيها من شهامة ورجولة ، لعلها ان تكون الآثار الباقية من نفسه الشاعرة النبيلة ، إذ لا يتصور أن تكون هذه قد ذهبت إلي غير رجعة ولم تترك أثرا .

وهذا التناقض في شخصيته هو الذي يعطي لهذه المسرحية طابعها الدرامي ، وكدت أقول التراجيدي . ففيه تقوم العقدة ، وعند إكنشافه تبلغ اوجها المسرحي .

ولذا يحار الإنسان بعض الحيرة في تحديد البطل الحقيقي فيها ، أهو مجاهد أم سهاد ؟ وإن كان عنوان المسرحية يغرينا على ترجيح سهاد أما الشخصيات الأخرى فبعضها لا يثير العطف كيف الدين ، الذي يكاد المرء ان ينفر منه نفورا ، وبعضها يثير الهزل الصاخب

كهذين القزمين أقمبش وقرطيش ، اللذين يكفي مجرد إسميهما لاثارة التهريج ، والبعض الثالث رشيق حتي الإبتسام مثل أميمة ، مربية سهاد . وتيمور بارع في الفكاهة الرشيفة التي تثير ابتسامة فيها عطف رقيق

تلك مسرحية تيمور الجديدة في ملامحها العامة وإذا كان لدي شئ اقوله بعد هذا التحليل ، فذلك أن أعيب به أن يعني بالمسرح كثيرا ، وبالقصة أكثر ؛ وأن يزيد من وصف المناظر الطبيعية والملامح الخارجية للأشخاص ، حتى يبدأ أكثر حياة وأظهر عينية وقواما ؛ وإن يتفضل فيتقبل منا إكليل الإعجاب .

اشترك في نشرتنا البريدية